وكان الإسكندر الأكبر وجيوشه الجرارة يحتفلون بالنصر قبيل المعركة لذا ما عرفوا الهزيمة وأيامهم كلها أعياد انتصار ..أما أنا فأرثي أبي وما زال حيّاً لذا فقد كان ميتاً منذ زمن.. وفي سنواته الأخيرة كان يقيم جنازته كل يوم كمشهدٍ تمثيلي نتدرّب عليه ..ووصيته كتبها آلاف المرات وكأنّ النصرَ إحساسٌ ضمنيٌّ بالفوز المؤزّر الآتي حتماً ..وكأنّ الهزيمة قناعةٌ بأنْ لا نصرَ يُرتجى فيستسلم المرء لهزيمةٍ مؤكّدة إنه اكتئابُ الموت ، وقد يكون عادياً لكلِّ امرئٍ يستشعر فكرة الموت فيطردها ..ولكنه يصبح مرَضياً لو...
ماذا سأفعل له ليهشّ ويبشّ في وجهي .. ولو قليلاً . وكيف سأبعد حاجبيه المقطبين وكيف أفرّج الإنقباض من عضلات وجهه .. وأكسر الحدّة في نظراته .. كيف أحرّك الحروف في سكناته.. فأمنع التقاء الساكنين .. كيف أخفّف الشدّة فوق حروفه .. كيف أحذف أفعاله الآمرة والناهية والمعتلة والعليلة كيف أضع علامات الترقيم بين جمله المتلاحقة ..لأجعله يلتقط أنفاسه في معترك اتهاماته ومرافعاته المنزلية المتواصلة .. كيف أوقف القطعَ والبتَّ في أحكامه .. لا نقاش في بيتنا –عفواً أقصد بيته - فأنا فقدت حسّ...
كل شيء في غير مكانه ..هذه هي حياتي بالمُجمَل وما يصحُّ دائماً هو غير الصحيح ! أنا ما كنت لحبيبتي التي أحببت ..وكان ينبغي أن أكون لغيرها بأمرٍ من القضاء والقدر ..وتلك المرأة كانت لغير ما أحبّت ولغير ما تحبّ .. وهكذا تتزلزل الأرض وتميد لأن ذلك الجبل ليس في مكانه ..تحته غورٌ فارغٌ لابدّ من ملئه قسراً فيحدث الإنهيار ..والبركان ثقبٌ انفجاريّ من الأرض التي تغلي غِلاً وغلواءً ...والموج غيرُ راضٍ عن مدّه والبحر ممتعضٌ من جذره ..لذا الأمواج ترغي وتزبد لو سألتها لماذا ! بيتي كذلك ليس في الحي...
قصتنا اليوم – يا من تقرؤون – سيرويها أبطالها .. وهم ليسوا أبطالاً إلا لأن قصتنا تتناولهم ، هم بالحقيقة صعاليك مجهولون وفاشلون..طرطشاتٌ مائية تنقذف من برك الطريق عندما تشقها عجلات السيارات المسرعة .. ومن يأبه بتلك الطرطشات الموحلة .. بل على العكس يتحاشاها الجميع وينظفون ثيابهم لو تطرطشت بها .. حتى أنني لن أطرح عليهم أسماء تميّزهم .. فالإسم مشكلة في الرواية العربية يخاف من وزرها أيُّ كاتب ! فلو سمّيتها (رشا) سيفهم القارئ أن البطلة تعيش في مصر في ستينيات القرن الماضي ومن عائلة متنورة .. ولو...
قلت لها رداً على مكالمية هاتفية : -عيادتي للمرضى فقط بناءً على موعدٍ مُسبَق ..وإن كانتِ الحالةُ إسعافيّة فعليكِ بأحد الزملاء وما أكثرهم (والحمد لله )!..لذلك اعذريني من فضلك ..ولا داعٍ للإلحاح قالت : -ولكنّ أمي مريضة قديمة عندك ..وهي مصرّة عليك وإن كانت لجأت لغيرك في السنوات الماضية ، فالسبب هو الظروف الأمنية المنصرمة وتنقلاتنا حيالها ودخلنا في استجوابٍ حول حالتها ..والتطوّرات التي طرأت عليها والعلاجات التي خضعت لها ..مع السخرية طبعاً من أسماء الزملاء المعالجين على اختلاف إختصاصاتهم...
بين الفينة والأخرى قد أفتح موقع الأنطولوجيا متصفّحاً .. بدءاً بالصفحة الرئيسية.. متصفّحاً كما قلت .. أو زائراً ومقلّباً الصفحات ومدوّراً فأرة الحاسوب نزولاً وصعوداً .. ولا أدري لماذا يكون مروري سريعاً؟ يومها كنت أرسلت منذ يومين مقالة على طريقة (معاينة ).. ثم ( انشر نصاً).. ووضعوني يومها أنا ومقالتي (على لائحة الانتظار )! وما فتحت الأنطولوجيا لأقرأ كقارئ إلا نادراً .. وأهمس معترفاً بذلك .. وحتى مقالاتي ما قرأتها بعد النشر .. فقط أطمئن على نشرها كعنوان وتطالعني بعدها صورتي (الغبية) .. ثم...
لا ثمّ لا .. لا وألف لا .. لا حَيْل لي لقراءة كتاباتي ثانية عناويني لوحاتٌ شوارعية تجعلني أحيدُ عنها عندما أراها أحنث بها كيمينٍ كاذب .. كشهادة زور كأنها تصيح بي أن لا أعاود السير حذاءَها ولا قِبَل لي لتدقيق ما كتبت .. لأني لو عاودتُ قراءة أسطري سأشطبها كغلطٍ شذّ به قلمي .. وشططٍ شطَّ بي خارجاً عن النص كأنها صرخاتٌ موجعة في كوابيسَ ليليّة .. لكنك تخاف أن تبوح بأسرارها لو صحوت فتسمّيها أضغاث أحلام .. وتخاف من تفسيراتها لا تدقيق ولا مراجعة .. فما كُتِبَ قد كُتِبْ ولا أدري أين...
رجاءً لا تتمسّكوا بيدي وأنتم تلفظون أنفاسكم الأخيرة .. قد تسحبوني معكم.. ولست جاهزاً بعد لمواجهة حتفي .. ولست مستعدّاً للقاء ربي! لا..لا تتشبّثوا بي .. تملّصوا منّي كمَليصٍ ذي سطوحٍ زلوقة لا تنظروا في وجهي وأنتم في الرّمَق الأخير .. قد تنطبع صورتي في شبكية عيونكم كصورةٍ أخيرة من الدنيا الدنيئة .. اشخَصوا بأبصاركم نحو السماء التي ستنطلقون إليها أيها الطُّلقاء من سجن الأرض ولتكن رحيماً بهم أيها الموت بينما تستلّ أرواحهم كن سريعاً كلمح البصر .. فالألم قبل الموت أشدّ وطأة من الموت بعينه لا...
وكأنّ الذكريات مرضٌ عضال يحلّ عليك ويُستطَبُّ فيه العلاج ..وكأنها داءٌ لا يشفى إذ تومض الذاكرة بذكرياتها بتكرارٍ قاتل ..كنوباتٍ ألمية مُقلقة في ليلات السّهاد إنّ الذكريات ندباتٌ جراحية تعلّم عليك ..ممضّة مخرّشة كلما مرّت يداك عليها ..وهي – وإن التأمت – فآثار جراحها باقية غائرة طعناتُها واصلةٌ إلى الصّميم ..وتروي حكاياتٍ ودموعاً وهي – وإن جفّت –فهي قابلة للإستنباع كلما قدح زنادها ..فتتفتّح الصفحات القديمة وتتجسّد الذكريات كداءٍ يستفحل تحت وطأة الأسى الذي لن يُنسى والنسيان ليس علاجاً...
فجأة وبدون سابق إنذار أصبحَتْ كئيبة .. والكآبة التي حلّت عليها ليست نوبة وقتية كما عوّدته .. كان يفسّر النوب التي تتعرّض لها بتفاسير تابعة لمكوّنات المرأة الجسدية أو النفسية أو الدورية .. فلم يلقِ بالاً لحزنٍ عابر قد يذوب ويضمحلّ من تلقاء نفسه وكان سكوته وتجاهله لتلك النوَب يجعلها تنطفئ وتختفي بلا دخان ولا رماد .. كصاعقة أو ومضة برق سماوية أو تماسٍ كهربائي .. يشتعل بدون ثقاب وينطفئ بلا ماء ويزول بلا أثر.. أما دخوله إلى تفاصيلها – على طريقة التدخّل في شؤونها - فيجعلها تنتفض وتثور أو...
يعود متأخراً بعد أن يجنَّ الليل .. فإذا جنّ الليل ظهر جنونه واضطرم جنانه .. حارته ضيّقة وبيوتها متلاصقة متداخلة وكأنها بيت واحد .. سكانها يعرفون كل شيء عن بعضهم .. فإذا اختلف مع زوجته ينشرون غسيله .. والشرفات تمدّ ذقونها .. والعيون تراقب والألسن تحيك قصصاً .. لذا يجب أن يعود إلى البيت بصخب كأي زوج يغنّي أو يدندن في الطريق لإثبات السعادة ونشرها بدلاً من الغسيل المتسخ .. ويجب أن يحمل معه أكياساً طعامية .. وبالتالي اسكتوا يا جيران فلا مشاكل عندنا في عشنا الزوجي يغلق الباب خلفه بهدوء .....
ليس مريضاً عادياً .. يستمرض ويتطبّب ويتداوى .. فيتعافى إنه حالة خاصة شذّت عن تلك القاعدة فالمريض العادي يتلقى منّا إضافة إلى الدّعم الطبي احتراماً وشفقة ومساعدة كحالةٍ إنسانية مستضعفة .. أما هذا المريض فلا يتلقى إلا اللوم والتقريع إضافة للعجز الطبي عن شفائه فالطب مايزال إزاءه مكتوف الأيدي .. حائراً كيف يتدبّره .. فاكتفى بعزل المصابين به .. منتظرين قدرهم.. لذا غدا مريض (الإيدز) محكوماً بالإعدام .. بعد تريّثٍ محكومٍ بأهواء الفيروس وتقلباته .. وميله للهجوم أو الاستكانة المؤقتة...
هو مهندسٌ متخصّصٌ بالجيولوجيا... مهمّتُه استكشافُ المناجم .. واستطلاع خبايا الأرض والتنقيب عن النفط .. والإشراف على الحَفْر. خبرتُه العتيقة جعلته يعرف التربةَ من رائحتها .. من لونِها .. يستعملُ أوصافاً تليقُ بالنساء..هذه التربة سمراء غنية .. وتلك شقراء شاحبة ... احذروا الأديمَ الأحمر شيمتهُ الغدرُ ولو كان غنياً بالحديد .. بين تضاريسهِ أوكارُ الأفاعي شديدة السّمية .. لذلك أحَبَّ الرّفاق أحاديثه .. فالمرأة هي الحاضرة الغائبة في مجتمع الرجال. حفنةٌ من التراب يَقبِضُ عليها .. يفركها بأصابعه...
كلما رأيتكِ تمشين إلى جانبه تشتعل ناري .. فأسير خلفكما متخفياً .. كأنكما تسيران على قلبي .. أسايركما من بعيد .. تتحابّان وأتحرّق .. تتشابكان وأتمزّق ..تتحدان وأتفرّق وناري لا صوت لها ولا ألسنة لهب .. ولا بصيص جِمار ولا دخان ولا رماد .. كالمكواة الكهربائية تروح وتجيء على قلبي .. ترسم عليه خطوطاً ساخنة أتمنى أن تنزل نارٌ من السماء فتبتلعه .. أو أن يخرَّ صريعاً بطلقة طائشة .. يغيب .. يزول عن الوجود .. يختفي ويتحلل إلى ذرات لا أكرهه كشخص .. تواجهنا مراراً .. لو رأيته لوحده قد لا أكترث...
هذه القصة حقيقية وليست من نسج الخيال .. وفيها بعض التصرّف بطلتها ناديا وهذا اسمها .. ولقبها (نادو) لكلّ من يناديها أبدأ قصتي بالإعتراف بتصرّفٍ قد يكون لا أخلاقياً .. لكنه حدث بمحض الصدفة.. فمنذ عشر سنوات تقريباً حدثت موجة لتركيب كاميرات المراقبة في كل مكان .. على بابكَ وفي فندقك ومطعمك .. وبدأتَ تسجّل كل شيء ... حتى أن البعض ركّب كاميراتٍ خفية في بيته وسيارته.. وأجهزة تنصّت على هاتف المنزل وكنت ممّن ركِبوا تلك الموجة .. فوضعت آلة تصوير خفية للمراقبة في غرفة الانتظار في عيادتي الخاصة .....