عبد الرزّاق بوتمزّار

في الأوقات التي كنتُ أجد مَن ينوب عنّي في الدّكان، كنتُ أبتعد في دروب المدينة وشوارعها، بلا بَوصلة في غالب الأحيان. أركب درّاجة أو أسير إلى اللامكان؛ لا هدفَ مُحدّداً إلا الابتعاد قدْرَ الإمكان. الابتعاد شُرود يُذكّرني بالتّخَلي والهجر والغياب. كثيراً ما كنتُ أنتهي إلى ساحة المصلى، حيثُ المكتبة...
بَعدَ نظرةٍ خاطفة، حدّدَ من خلالها موقعَ الدكان، توقـفَ وأخرج عْدْسته. اقترب من بائع اللـّعَب الجائل، المُنكمش على نفسه صامتاً فوق كرسيه، واستأذنه في التقاط صور لمعروضاته الصّغيرة. ألقى نظرة على الدّكان، وهو يتحدّث إلى البائع، الذي اخترق بردُ يْنّايرْ جسدَه النّحيف فجعله يلوذ بكرسيه الصّغير...
وحدَها الكلابُ، هنا الآن، سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أمكنتِهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفق غيرِ مُبشِّر. في السّتاجْ (stage) رقم 841 في لعبة "Bubblewitch2" الاحتمالاتُ...
كاتب عُموميّ.. وضع آخرَ لمساته على حذاء الزبون الذي يمدُّ رِجله أمامه في ترفّع. "ها قد حصلتُ على ما أقتل به هذا الجوع اللعينَ، ولو إلى حين!" قال في نفسه. رمى إليه الرَّجل بالدرهم واختفى، دون حتى النظر إليه. تلقَّف الدرهمَ وقلبه بين يديه. أشرق وجهه الشاحبُ بابتسامة خاطفة. وضع الدرهمَ داخل جيبه...
غادر مْسعود منزله، في الحي الخلفي وسار، بوجهه المتجهّم والصارم، إلى مقهاه. لطالما أدهشه عدد الطرق التي ضرب في مسالكها في سنوات عمره، المشارفة على الستين. سلَك منها الكثير في هذه الحياة بنت القـ... الكْلبة، كما ينعتها كلما أتى أحد محادثيه، على قلتهم، على ذكرها. ضرَب، في الليل والنهار وفي ما...
ذات يوم، ذات صيف، في قرية أيت تگرّامت، حدَث أن التقيتُ عبد اللطيف، جاري وعديقي ذات زمن، في المدشر، واتفقنا على أن نُعرّگها تيناً شوكيا. كان يوماً خاصا لكلينا. استرجعنا طوال ساعات منه، بعد فراق سنوات مديدات، ذكريات بعيدات، لذيذات ومُمتعات، مثل الأيام التي انصرمتْ. سنقطفه طازجا. نُبرّده في ماء...
لي بضع دجاجات أربّيها في السطح. أحرص تمام الحرص على أن أوفّر لها الأمن والأمان! أسرق بيضها كلّ يوم. أقليه أو أسلقه، وقد أشربه، أخضرَ، في كأس الصّباح. أرمي به أحد المارة، أحيانا، ثم أختبئ وراء نافذتي، لطرد الملل والضّجر. دجاجاتي لا تتذمّر أو تحتجّ حين أسرق بيضها، فأنا أوفر لها الأمن والأمان...
حرصتُ، منذ سكنتُ في ذلك الحي الخلفي، على أن أوقّر سكانه ويوقّروني. لا أكلّم أحدا ما لم يكلمني. "اقْحب وْزْها مْع النّصارَى وْليهودْ وخلّي بْنات الحومة عْليك شْهود"... يا لَذلك "البرغوث" اللعين! كلماته البعيدة ما زالت تسكن ذاكرتي، كأنْ قيلت بالأمس فقط. "لم أعد أقحبُ مع النصارى ولا مع غيرهم"،...
أمام بلكونتي الصّغيرة في ذلك الحي الخلفي حديقةٌ صغيرة. كانت أكثر ما جعلني أوافق، فوراً، على الاستقرار في بيتي الجديد هناك. ليس في كلّ مكان في الدّارْبيدَا يُمْكن أن تجد مسكناً (للكراء) أمامه حديقة؛ يلعب فيها الصغار نهاراً وتُزقزق العصافير عشيّةً وعند الفجر.. الفجر؟ هل قلتُ الفجر؟ في فجرِ أحد...
السيارة تسير أبطأَ ممّا توقع. استكان إلى الزجاجةِ اليسرى للناقلة وشرد ذهنه بعيدا، مواصلا بحثه المحموم. الأجواء في البيت لا تُسعفه في التركيز؛ الوقتُ عطلة والأولاد لا يكفّون عن اللعب والنط في كل مكان. لم تَسْلم من فوضاهم حتى تلك "الزاوية"، التي اجتزأها من مساحة البيت الضئيلة واتخذها مكتبا. أمّا...
الخامسة. وقف يتفقّد أحوالَه أمام الزّجاجة المربّعة الصقيلة. تناول المشط وحاول التقليلَ من فوضى شَعره الأشعث المسترسل. عندما همّ بالمغادرة، لمح طيفَ شعرةٍ بيضاءَ تبرُز بشكل واضح بين باقي الشّعرات. أحسّ برعب حقيقيّ. قطراتٌ من عرقِ بارد غطّتْ جبينَه. مرّت أمه إلى جانبه وعلّقتْ: تظل مُتسمِّراً أمام...
يصحو من نومه، في العادة، على أصوات شغبهم في الحديقة. يكون الوقتُ متأخرا، لكنْ ليس بالنسبة إليه. يلعن، بلؤم طفوليّ، ودون كلمات في الغالب، ضجيجهم الذي حرمه مما كان فيه. يُطلّ عليهم، أحيانا، متثائبا، ثم يؤوب بسرعة إلى مرقده. بالنسبة إليه الساعات الأولى من الصّباح تابعةٌ لليل؛ وكم يكره أن يزعجه أحدٌ...
الخامسة وخمسٌ وأربعون دقيقة.. وأنا أهُمّ بإطفاء الحاسوب، لاح لي طيفه مارقاً على بُعد خطوتين من حيث أجلس. كنتُ قد تأخّرتُ في اللحاق بكرسيَ المحجوز في المقهى. أتوجّس من الصّراصير على الدّوام. كأنّ الحشرة استشعرَتْ نية السّوء التي أضمرتُ. وأنا أطوي ركبتَيّ الثقيلتين لأقوم، حاولتِ الاحتماءَ بفردةِ...
"أترى هذه القبور الواقفة؟ لقد نصبوها هنا تذكارات لشخوص لا يحتاجون منهم تخليدا ولا تبجيلا. هم في غنًى عمّا يُخلّدهم في الأذهان؛ مناقبهم وعلومهم وآثارهم تدلّ عليهم. عظامهم صارت رميما في أمكنة متفرّقة في هذه المدينة المنافقة. لا حاجة لهم بمن يهرف على الناس باسمهم، بإنشاء هذه الشواهد النشاز لهم هنا...
"لعيون ذكّرتْني بغابِر الأيام"... نسجتُ عنوانا لجميلِ الأحلام وتأبَّطتُ حزني والأسى وبدأتُ رحلة التّيه في عالم أثخَنني بالجراح واستكثرَ عليَّ أن أكون شاعرَا. سرتُ مُتعثرا في ظلمة السّراديبْ، فعسكرتْ في دواخلي مخاوفُ الأزمنة وعشّشتْ على جدران روحي غربانٌ بوجوه الخطايا. كتمتُ عن الكون أسرارَ...
أعلى