عبد الرزّاق بوتمزّار

فـلا أُقسمُ بالمـدينـة الظـّامئـة ولا أُقْسم بشمـسِ الزّمان الحارقة ولكـنْ بوجوه المقهورين الكالحَة ورائحة الأجساد المُتقـرّحَة.. أقسم إنّ المدينة غادرة والزّمانَ فاسدٌ والأمكنة َمتقيّحَة.. أقسِم إنّ الصّدقَ كذبٌ والكذبَ سيّدُ المَحافِل، أقسم إنّ القلبَ حجـرٌ والنـّجيعَ في المَدامِع، وهذا الوجهَ...
المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أمكنتِهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفُق غيرِ مُبشِّر. وحدَنا في غرفة باردة لم يُنعش جسدَينا فيها...
بَعدَ نظرةٍ خاطفة، حدّدَ من خلالها موقعَ الدكان، توقـفَ وأخرج عدسته. اقترب من بائع اللـّعَب الجائل، المُنكمش على نفسه صامتاً فوق كرسيه، واستأذنه في التقاط صور لمعروضاته الصّغيرة. ألقى نظرة على الدّكان، وهو يتحدّث إلى البائع، الذي اخترق بردُ يْنّايرْ جسدَه النّحيف فجعله يلوذ بكرسيه الصّغير جامعاً...
حرصتُ، منذ سكنتُ في ذلك الحي الخلفي، على أن أوقّر سكانه ويوقّروني. لا أكلّم أحدا ما لم يكلمني. "اقْحب وْزْها مْع النّصارَى وْليهودْ وخلّي بْنات الحومة عْليك شْهود"... يا لَذلك "البرغوث" اللعين! كلماته البعيدة ما زالت تسكن ذاكرتي، كأنْ قيلت بالأمس فقط. "لم أعد أقحبُ مع النصارى ولا مع غيرهم"،...
"أترى هذه القبور الواقفة؟ لقد نصبوها هنا تذكارات لشخوص لا يحتاجون منهم تخليدا ولا تبجيلا. هم في غنًى عمّا يُخلّدهم في الأذهان؛ مناقبهم وعلومهم وآثارهم تدلّ عليهم. عظامهم صارت رميما في أمكنة متفرّقة في هذه المدينة المنافقة. لا حاجة لهم بمن يهرف على الناس باسمهم، بإنشاء هذه الشواهد النشاز لهم هنا...
(مهداة إلى سعيد حاجي) بعدما انتهيتُ من محادثة حكى لي فيها تفاصيل حكايته مع زائرته اللّيلية الاستثنائية، صرتُ أتوجّس من كلّ ظل أو خيال أو حركة أو سكون. انقلبت علاقتي بالمكان، التي ظلّت مبنية، طيلة أيام وأيام، على التساكن والتآلف، إلى حالة حذر وتوجّس دائمة. إن تحرّكت مجرّدُ ذبابة تافهة حولي خلتُ...
لي بضع دجاجات أربّيها في السطح. أحرص تمام الحرص على أن أوفّر لها الأمن والأمان! أسرق بيضها كلّ يوم. أقليه أو أسلقه، وقد أشربه، أخضرَ، في كأس الصّباح. أرمي به أحد المارة، أحيانا، ثم أختبئ وراء نافذتي، لطرد الملل والضّجر. دجاجاتي لا تتذمّر أو تحتجّ حين أسرق بيضها، فأنا أوفر لها الأمن والأمان...
غادر مْسعود منزله، في الحي الخلفي وسار، بوجهه المتجهّم والصارم، إلى مقهاه. لطالما أدهشه عدد الطرق التي ضرب في مسالكها في سنوات عمره، المشارفة على الستين. سلَك منها الكثير في هذه الحياة بنت القـ... الكْلبة، كما ينعتها كلما أتى أحد محادثيه، على قلتهم، على ذكرها. ضرَب، في الليل والنهار وفي ما...
الرّابعة صباحاً وبعضُ دقائق. جسدٌ ضئيلٌ يتهادى في تعرّجات طريق خالية. رذاذُ ضباب غريب في مدينة غيرِ مُتعوّدة بعدُ على رذاذ ولا ضباب. النّسماتُ الباردة لا تجد سبيلاً لتلمَس الجسم إلا من خلال الوجه. المصابيح العمشاءُ ترسل أضواءها الشّحيحة، التي تُنير بالكاد طرقات الحيّ الناعس. الحشراتُ التي...
الخامسة وخمسٌ وأربعون دقيقة.. وأنا أهُمّ بإطفاء الحاسوب، لاح لي طيفه مارقاً على بُعد خطوتين من حيث أجلس. كنتُ قد تأخّرتُ في اللحاق بكرسيَ المحجوز في المقهى. أتوجّس من الصّراصير على الدّوام. كأنّ الحشرة استشعرَتْ نية السّوء التي أضمرتُ. وأنا أطوي ركبتَيّ الثقيلتين لأقوم، حاولتِ الاحتماءَ بفردةِ...
ذات يوم، ذات صيف، في قرية أيت تگرّامت، حدَث أن التقيتُ عبد اللطيف، جاري وعديقي ذات زمن، في المدشر، واتفقنا على أن نُعرّگها تيناً شوكيا. كان يوماً خاصا لكلينا. استرجعنا طوال ساعات منه، بعد فراق سنوات مديدات، ذكريات بعيدات، لذيذات ومُمتعات، مثل الأيام التي انصرمتْ. سنقطفه طازجا. نُبرّده في ماء...
الخامسة. وقف يتفقّد أحوالَه أمام الزّجاجة المربّعة الصقيلة. تناول المشط وحاول التقليلَ من فوضى شَعره الأشعث المسترسل. عندما همّ بالمغادرة، لمح طيفَ شعرةٍ بيضاءَ تبرُز بشكل واضح بين باقي الشّعرات. أحسّ برعب حقيقيّ. قطراتٌ من عرقِ بارد غطّتْ جبينَه. مرّت أمه إلى جانبه وعلّقتْ: تظل مُتسمِّراً أمام...
ألقى بجسده فوق المقعد وأشعل اللّمبة الصّغيرةَ، مادّاً يده اليمنى لجمع الصّرْف. إلى يمينه صديقان نقَداه دراهمه قبل أن يركبا وينخرطا في حديث ودّي تتخلّله ضحكات. الرّاكبُ الثالث شابّ يقف وحيدا، بملامحَ مُخيفة نوعاً ما، منتظراً، بتأفّف ظاهر، اكتمال العدد. وقفتُ قربَه وشرعتُ أفتّش في جيوبي الكثيرة...
يصحو من نومه، في العادة، على أصوات شغبهم في الحديقة. يكون الوقتُ متأخرا، لكنْ ليس بالنسبة إليه. يلعن، بلؤم طفوليّ، ودون كلمات في الغالب، ضجيجهم الذي حرمه مما كان فيه. يُطلّ عليهم، أحيانا، متثائبا، ثم يؤوب بسرعة إلى مرقده. بالنسبة إليه الساعات الأولى من الصّباح تابعةٌ لليل؛ وكم يكره أن يزعجه أحدٌ...
السيارة تسير أبطأَ ممّا توقع. استكان إلى الزجاجةِ اليسرى للناقلة وشرد ذهنه بعيدا، مواصلا بحثه المحموم. الأجواء في البيت لا تُسعفه في التركيز؛ الوقتُ عطلة والأولاد لا يكفّون عن اللعب والنط في كل مكان. لم تَسْلم من فوضاهم حتى تلك "الزاوية"، التي اجتزأها من مساحة البيت الضئيلة واتخذها مكتبا. أمّا...
أعلى