يبدو لي أن لغتنا العربية قد ضاقت ببعضنا –على رحابة صدرها- حتى صرنا مضطرين إلى استعارة المصطلحات الهامة من اللغات الاخرى لنعبرعما يجول في خواطرنا، ولو أن أبو الأسود الدؤلي خرج من قبره في هذا الزمان، واستمع إلى بعض أحاديثنا دون ذكرالأخبار ومصائبها، لطفق جارياً إلى قبره وهو يحمد الله على العافية والموت.. وها هي صديقة لي أعرفها منذ زمن بعيد تصاب بعدوى العولمة اللفظية، فتصبح الثقافة في نظرها (لا تقل لي كم كتابا قرأت بل قل لي كم مصطلحاً حفظت)، فإذا بدماغي وهي تتحدث إلي – باستخدام مصطلحاتها المعقدة...
لا شيءَ إلا هو وخيبته وعفونته في فضاء يضيق بأنفاسه، يتكوم فوقها، وتتكوم فوقه بين جدران أربعة تتربص بأشلاء الفرح المترقب منذ سنين، يستنشق العفن الذي يفوح من أوردته فيزداد اختناقاً، وتطالعه النافذة الوحيدة في غرفته المغلقة بإحكام لتقف في وجه أي شعاع هارب من الشمس يحاول التسلل نحوه بأسئلة عقيمة لا رغبة عنده في الإجابة عنها. حتى سريره اكتسحته رائحة الرطوبة، وملمس العفونة الخشن، ولون الظلام حين يفرش عباءة اليأس فوق جسد منهك من كل شيء .. حتى أنفاسه. هناك ألم شديد في رأسه يشبه ألم المخاض عندما يلمّ...
لم يعدْ السيافُ مسرورٌ مسروراً مما قامتْ به يداه، باتَ الأحمر أرقهُ، وبدأ يخافُ تلكَ النظرات الدامية التي رآها في عيون منْ قتلهنَ، تاركةً أخاديدَ عميقة في ذاكرةِ الليالي المضرجةِ، وصارَ مزاجهُ حاداً، وفارقهُ النومُ إلى غير رجعةٍ، وأخيراً اتّخذَ قرارهُ، سيعلنُ العصيانَ، سيستقيلُ من عملهِ، وسوفَ يتسلقُ جدرانَ الحكايةِ ليثورَ عليها، وهكذا مضى دونَ زوادةٍ تذكرُ إلا غضبه، وبدأ يسيرُ منتهكاً فطنةَ النهاياتِ، ميمماً نحوَ البدايةِ، وحدها البدايات يمكنها أنْ تمنحهُ خياراً آخرَ ليغيِّـرَ مسارهُ، ربما...
هو كان رجل الاختصار .. رجل القضايا المعلقة .. رجل العبور المار ليلا في قطارات الهروب... رجل النقاط الحازمة التي تنهي السطور بترفع ,تشي هامته الطويلة بنفس أبية, بينما يشي نحوله و لمعان عينيه بطبع ناري ليس من السهل إخماد براكينه. هي كانت امرأة الخوف..لا تكاد تشغل مكان فاصلة تتكئ بحياء على السطر لتفصل بين جملتين متقاربتين , امرأة الأرض الساكنة .. التي توقفت عن الثورة و ربما عن الدوران منذ عصور.. امرأة الرغبات الأرضية بكل ما فيها من تهميش و تضليل. على هامش الحياة التقيا قليلا .. قليلا بما يكفي...
أراها بوضوح..حمامة بيضاء كالنقاء تطير في سماء صافية كالحلم، تدور بعينين مدهوشتين كمن يلملم ألوانا لم يسبق أن رآها مرسومة فوق حدقتيه، ترفرف بجناحيها الأبيضين على وقع دقات قلبي، تبدو لي مألوفة وكأنها تحمل ملامح أعرفها جيدا، مهلا ...إنها ملامحي..لون عيني..اخترقتها طلقة صياد مخبول فقد الجمال والحب طريقه إلى عينيه، اسودت السماء وفقدت صفاءها، تلبدت الغيوم، تبعثر دم الحمامة البيضاء فوق الأرض، وتلون ريشها الأبيض بلون الدم القاني، أختنق هديلها في حلقها،ثم سقطت فوق البقع التي رسمها الدم على الأرض....
منذ نعومة أظفاري و أنا ارتدي ملابس الصبيان , العب ألعابهم, أتشاجر و اشتبك معهم كما يفعل الصبيان تماما , استمتع باللعب بالبلبل و الكرات الزجاجية بل و أتفوق بلعبها على اعتى الأولاد , حتى اعتاد الجميع على مناداتي برامي بدلا من رامية و تندر الأهل و الأقارب على تصرفاتي الصبيانية , و كثيرا ما سمعتهم يهمسون لامي (بكرة بتكبر و بتوعى و بتصير بنت). وعندما بدأت أخطو نحو الثالثة عشرة من عمري تجمع سحاب القلق على سماء أمي و حاصرني ببرقه و رعده و أمطر وابلاً من الاستفسارات والتساؤلات ذلك أن تضاريسي لم...
لها وجه قمر... ولي شعرها المنسدل... وجمال قامتها... لها ابتسامة قمر... ولي دمعة... أمسكتُ اللوحة المصفرة بحذر, ووضعتها داخل ملف بلاستيكي شفاف جلبته خصيصاً لها, كانت تلك اللوحة...كل ما تبقى لي منها، من رائحة أنفاسها...من دفء عينيها, من حزن باذخ أخفته خلف شال. عندما أصررت على أن تكون هذه اللوحة غلاف مجموعتي الشعرية الأولى اعترض مصمم الغلاف, وكاد ينفجر في وجهي إلا أن صاحب دار النشر ضغط عليه، فمجموعتي هي الفائزة الأولى في المسابقة الشعرية، وأراد لها أن تخرج كما أحب تماماً، وأردت أنا أن...
الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة حيث كتب عن القاصة لبنى ياسين : "القاصة الشابة لبنى محمود ياسين أدهشتني في أول مجموعة قصصية لها , تلك التي صدرت بعنوان " ضد التيـار " , والدهشة هي الانطباع الوحيد الذي يؤكد الجـدارة , فالأدب الجيـد هو الذي يدهش ويثير ذلك المزيج الساحر من التجاوب بالعقل مع ما يلمس أوتار القلب , وهذا ما لمسته في قصص لبنى ياسين. لبنـــى ياسـين .. توقفـوا أمام هذا الاسـم راصـدين متابعـين , لأنه لكاتبه واعدة ومبشرة سنقرأ لها كثيراً وندهش "... تتميزالاديبة السورية لبنى ياسين بحذاقة...
شهرزادُ تستعدُ لتحكي الحكاية، تلملمُ أطرافَ شعرها الأسودَ الطويل عن وسادةٍ حِيـْكتْ بخيطانِ وهمٍ متعب، لا لونَ للوسادةِ غيرَ أنَّها باهتة، لا لونَ للستائر المنسدلةِ دون معنى على نافذةِ الحقيقة، تتساءلُ شهرزاد بينها وبين نفسها: أينَ اختفتْ كلُّ تلكَ الألوان الزاهية؟هل يمكنُ للحكايةِ أنْ تُروى دونَ لون؟ هل ماتَ حقاً قوسُ قزح الذي كان يزينُ ضفائرَ المطرِ فيما هي تسعى لتقبلَ جبينَ الأرض؟! يخونها الصوتُ، كما خانها اللونُ، أي روعةٍ لحكاية لا صوتَ للراوي فيها، وليسَ ثمةَ صدى يرتدُّ عنْ كاهلِ...