ثبتت الخرافة كذلك دعائم الملكية الشخصية وحفظتها، إذ مما لاشك فيه إن هذه الملكية متأخرة في الوجود عن الملكية العامة، فالناس عرفوا متاع الجمعية ومال القبيلة قبل أن يعرفوا مال زيد وعمرو. والملكية العامة نفسها ظهرت في شكلها الأول على صور الملكية المقدسة، فنشأت في أعمال الخرافة وتربت على حسابها. وقد كان التقديس ولا يزال وسيلة من وسائل احترام الملكية والمحافظة عليها. وللخرافة يد أخرى في الدفاع عن الملكية، فقد حاربت السرقة والسراق، وحمت مال الفرد والجماعة، وقضت على عامل كبير من عوامل الاضطراب. وإذا...
خطت الدراسات الاجتماعية في الخمسين سنة الأخيرة خطوات فسيحة: فاتسعت سبلها، وتعددت فروعها، وتشعبت مناحيها، واستطاعت أن تثبت أن لها - كسائر العلوم - موضوعاً محدداً، وطرقاً معينة، ومبادئ ثابتة، ولا تكاد توجد مادة برهنت على خصبها برهان هذه المادة؛ كما لا يكاد يوجد علماء خلقوا فناً بأسره في مدى قصير مثل علماء الاجتماع المحدثين. فإن جملة ما كتبه أفلاطون وأرسطو في العصور القديمة، وما دونه المؤرخون وعلماء الجغرافية في القرون الوسطى لا يصح أن يسمى اجتماعاً بالمعنى الصحيح، ولا يحوي أراء علمية ناضجة....
قد يكون أنصار المادية المفرطة معذورين في زعمهم أن ليس ثمة إلا الجسم وأجهزته والمخ وآثاره، فإنهم يرجعون الظواهر العقلية على اختلافها إلى مصدر ثابت ومنبع معين. كما إن المثاليين الغلاة يتفادون بعض الصعوبات حين يذهبون إلى أن النفس وحدها هي الحقيقة، وما وراءها صور وأوهام فإن هؤلاء وهؤلاء لا يعترفون غلا بأصل واحد ماديا كان أو روحياً يبنون عليه تفسيراتهم وحلولهم. أما من يقولون بالجسم والنفس، بالمادي والروحي، بالثنائية على العموم، فإنهم يصطدمون بعقبة لم يجدوا السبيل إلى تذليلها. وكيف يمكن ربط...
ليس تأثر ابن سينا بأفلاطون من الأمور التي تتطلب إثباتا جديداً، فقد فرغنا منه من قديم وأضحى واضحاً وضوحاً لا يقبل الشك. وإذا كان شيخ الأكاديمية قد استطاع أن ينفذ إلى فلاسفة الإسلام جميعا بالرغم من تعصبهم لأرسطو فان أثره في الأستاذ الرئيس اعمق، وملاءمته لتفكيره أتم واكمل. وقد بينا فيما سبق كيف قال ابن سينا بجوهرية النفس على نحو مما ذهب إليه أفلاطون. ونريد اليوم أن نوضح موقفه إزاء روحيتها فنهيئ بذلك فرصة أخرى لإظهار ما اشتملت عليه فلسفته من نزعات وآراء أفلاطونية. ابن سينا روحي في طبيعته...
لا نظن بعد الذي تقدم أن الرئيس ابن سينا قد ادخر وسعا في إثبات حقيقة مغايرة للجسم ومتميزة عنه كل التميز، وأن في الكائن الحي شيئا غير لحمه ودمه هو مصدر حركته وحسه وتفكيره. وسواء أكان موفقا في برهنته دائماً أم لا فالمهم أنه أعتمد - كما اعتمد أنصار المذهب الروحي قديما وحديثا - على بعض الظواهر التي لا يمكن تفسيرها ماديا، وأرى أنها تستلزم قوة كامنة ومبدأ خفيا هو النفس. وهذه الظواهر قسمان: جسمية وعقلية؛ ومن الأولى يتطرق الخلل والوهن غالبا إلى برهنته. ففي اللحظة التي يتحدث فيها عن الإحساس أو الحركة...
لم يقف ابن سينا عندما تقدم في إثبات وجود النفس ومغايرتها للبدن، بل افترض فرضاً آخر هو من أبدع حججه وأكثرها ذيوعاً، ونعني به فرض الرجل المعلق في الفضاء. فلو تصورنا أن شخصاً ولد مكتمل القوى العقلية والجسمية، ثم غطى وجهه بحيث لا يرى شيئاً مما حوله، وعلق في الهواء أو بالأولى في الخلاء كي لا يحس بأي احتكاك أو اصطدام أو مقاومة، ووضعت أعضاؤه وضعاً يحول دون تماسها أو تلاقيها، فإنه لا يشك بالرغم من كل هذا في أنه موجود وأنه كان يعز عليه إثبات وجود أي جزء من أجزاء جسمه، بل قد لا تكون لديه فكرة ما عن...
يدرس أبن سينا النفس من نواح كثيرة، فيحاول أولاً أن يثبت وجودها ومغايرتها للبدن، ثم ينتقل بعد هذا إلى حقيقتها فيعرض لجوهريتها وروحيتها ويبرهن على خلودها ببراهين شتى ووسائل متعددة. ولن تفهم حقيقة النفس فهما كاملا إلا إذا حددت وظائفها وبين في دقة عملها. وابن سينا يتحدث طويلا عن أنواعها المختلفة من نباتية وحيوانية وإنسانية، ويسهب بوجه خاص في حديثه عن قوى النفس الإنسانية الظاهرة والباطنة، وهذا الجزء يلخص تقريباً علم النفس عنده. وواضح أن مشكلة العقل التي تعد أحد الأحجار الأساسية في بناء الفلسفة...
النفس سر الله في خلقه وآيته في عباده، ولغز الإنسانية الذي لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما. هي مصدر المعارف المختلفة والمعلومات المتباينة، ولكنها لم تسم إلى أن نعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية؛ وهي منبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعرفها جاد في تفهمها، ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراك كنهها والوقوف على أمرها. وبوده أن يعرف في دقة ماهيتها ويدرك الصلة بينها وبين الجسم ويتبين مصيرها ومآلها. وكيف...
موسى بن ميمون، هو فيلسوف الأندلس ومصر في القرن الثاني عشر، وأحد كبار حكماء بني إسرائيل الذين خلدوا أسماءهم بما خلفوا من كتب وآراء. ولد بقرطبة في الثلاثين من شهر مارس سنة 1135؛ وتوفي بالقاهرة سنة1204. تنقل بين مراكش وفلسطين؛ إلا أنه قضى بمصر جزءاً عظيما من حياته، فعاش بها سبعاً وثلاثين سنة يدرس الفلسفة والطب، ويشغل كرسي الحاخام. فكان بذلك وليد الحياة العقلية الإسلامية، وتلميذ المدرسة العربية التي أثرت فيه تأثيراً عظيما. وليس ثمت من مثل أوضح لهذا التأثير من كتابه (دلالة الحائرين)، تلك المرآة...