مجدي حشمت سعيد

ليل الشتاء وظلام دامس أحسته ( سامية ) يفيض من أعماقها ليغرق الوجود فيه. عيونها السوداء الواسعة – وكأنها تشف ما في أعماقها من ظلمة – تحملق باحثة لاتمل عن شئ ما يطويه الظلام. تضم بين كفيها بحنان بالغ رسالة كثيراً ما قرأتها... تحتضنها إلى صدرها، تجتلب الظلام ذكريات عزيزة عليها اندمجت فيه فجعلته...
تجلس ويجلس فوقها الهمُّ، تستظل بالشمس من الشمس في صداقة فريدة، نموذج مثالي للبؤس والعوز والاحتياج، اعتدت على مشاهدتها كأحد معالم المكان الذي أمرُّ به يوميًا، أراها دومًا تنقل عينيها الواهنتين الضيقتين في ما بين السماء وعبوات مناديل الورقية القليلة التي ترصَّها فوق "طرحة" قديمة أبتلع الزمن رونق...
"كنت صايع فين؟" صاحت الزوجة بأعلى صوتها ثم تبعت ذلك بضحكة عالية ساخرة اخترقت أذنيّ الزوج وهو ينهل من كوب الماء المثلَّج، وقفت المياه في حلقه حين زعقت بعد ذلك بكلمات غاضبة وكأنها اصطادت صيدًا ثمينًا: - تعالى شوف حبيبة القلب كاتبالك أيه؟ عمل عقله سريعًا، تذكَّر أنه قام بفتح جهاز "الكمبيوتر"...
أنهى استعداداته للقاء المُرْتَقَب ثم استلقى على فراشه بحواس مشدودة متوترة منتظرًا ومترقبًا بخوف وقلق لا حدود لهما، لا يدري سر هذا الإحساس القوي المسيطر عليه بأن الحسم سيتم الليلة، ترك النافذة مفتوحة وكذا باب الحجرة انتظارًا لها، عيناه مُعَلَّقتان بسقف الحجرة فمن المرجح أن تشقه وتأتي من خلاله...
تمنى لو شُلَّت يده قبل أن يصفعها تلك الصفعة القوية على وجهها والتي أسقطتها أرضًا وأدخلتها في نوبة جنون مفاجئ جمعت فيها بين البكاء والضحك زاحفة على الأرض نحوه لتلف ذراعيها حول ساقيه وتهزَّهما بقوة وهي تصرخ: "أحبك ... أحبك" لماذا لا تنشق الأرض الآن لتبتلعه أو تبتلعهم معًا بعد أن فجرت قنبلتها...
هَدّأ القطار من سرعته استعدادًا للمحطة القادمة، وقف على رصيف المحطة، تداخلت الأصوات والهتافات مع ما يصدر من حركات الجموع الصاعدة والنازلة لتصنع صورة صوتية حية من صور الحياة، انخفض الضجيج شيئًا فشيئًا وابتلعت حركة القطار ما تبقى منه، أخذ كل واحد من الرُّكاب يواصل ما كان فيه وما انقطع عنه وعادت...
هَرِمَتْ الأيام وها هو الخريف يعاني خريفه، تلطمه الرياح الباردة الثقيلة فيمنحها خدَّيه صاغرًا لتتسابق أوراقه نحو الانتحار سقوطًا، تتسلَّل البرودة القارسة إلى أعماقه بلا رحمة فيستكين لها راضيًا، تهطل سيول الأمطار المتوحشة غزيرة لتجرف ما تبقى من أحاسيسه فلا يئن، هاجمه الجليد مغتصبًا وجه أرضه فلم...
حانت لحظة الرَّحيل فاتجهنا حاملين حقائبنا وحسرتنا نحو الحافلة التي ستخطفنا من حلمنا الجميل لتلقي بنا في زحام مدينتنا الخانقة بعد أن أمضيت مع زوجتي أسبوعًا كاملًا في المنتجع الشاطئي الساحر على البحر رفقة بعض زملائي في العمل وأسرهم. صعد السائق إلى الحافلة ثم فتح باب الرُّكاب الذين همَّوا للصعود...
يسير في طريقه مهرولاً حاملاً فوق كاهله هموم الدنيا كلها، اعترضه فجأة رجل وقور، صافحه بحرارة أدهشته فسأله متوجسًا: - هل تعرفني؟! أجابه بهدوء: - وهل من المُحَتَّمِ أن أعرفك. زادت دهشته واستطرد: - ولكن أنا لا أعرفك. ردَّ عليه ببرود: - لا يهم ... أنا أخوك في الإنسانية. أدهشته إجابته فسأله...
وُضِعْتُ على بداية السُّلَّم، وقفتُ، نظرتُ إلى أعلى، ياله من سُلم شاهق! بدأت الصعود بتمهل. مازال الدرج طويلًا، أسرعتُ، ثم زدت من سرعتي بأقصى ما أستطيع. أصابني الوهن، وقفتُ لألتقط أنفاسي، فكرت في الرجوع ونظرت خلفي وأسفلي فلم أجد إلا الفضاء! ياللهول ...اختفت كل الدرجات التي صعدتها، ارتقيت...
لفت نظره بطاقة حمراء تتقاذفها الرياح الشديدة فتتطاير بجنون فوق سطح الأرض، جرى وراءها ثم قفز عاليًا عدة مرات حتى تمكن من التقاطها، اختطفتها الرياح من بين يديه بعيدًا قبل أن يكمل قراءة ما فيها، علق بذاكرته أنها دعوة إلى حفل في المغارة الكبيرة أعلى الجبل المطل على البلدة. تعلَّق فكره بهذه الدعوة...
هذا الرجل أصبح لا يُطاق بالرغم من حبي له! انتهى أخيرًا من ثورة بركانه العاطفي والجسدي المقيتة وتركني ألملم نفسي وأمسح دموعي وألعن تلك اللحظات التي يغرقني فيها بفيضه، أصبحت أهرب من علاقاتنا الزوجية بسبب طقوسه العاطفية المُمِلَة التي يؤديها وفق برنامج رتيب مضن يغرقني فيه-رغمًا عني-في بحور حبه...
لا أعرف بالتحديد متى بدأ يحدث هذا لي، كل ما في الأمر أني لاحظت نقصان وزني الذي يزداد كل يوم عن سابقه، فرحتُ في البداية لهذه الميزة التي يدفع الآخرون أموالاً طائلة لدى أطباء التخسيس ويتبعون نظمًا غذائية قاسية ومكلفة من أجلها. فَرَضَتْ تلك الظاهرة نفسها على تفكيري حين بدأت زوجتي تلاحظ هذا التغير...
سمع طرقًا خافتًا على باب شقته وهو جالس أمام التلفاز، نهض متكاسلًا ليرى من القادم إليه في هذه الساعة المتأخرة من الليل القارس البرودة ويطرق على الباب بدلًا من الضغط على الجرس؟! نظر من عدسة منظار الباب فوجد جارته الحسناء التي سكنت وأسرتها الطابق العلوي منذ شهور قليلة واقفة تتلفت حولها بقلق وتوتر...
أشاح بوجهه بعيدًا عنه ليداري دمعة غلبته وهو العصيُّ الدمع، غامت الدنيا وأظلمت الشمس وأبرقت السماء وأرعدت ثم هطل السيل في محاولة منه لخلق اتزان طبيعي يعادل تلك القوى الخفية التي أحدثها سقوط دمعة واحدة من عين أبيه حتى لا تتهاوى أسس البسيطة، أصابه الفزع لإدراكه بأن والده في أشدِّ حالات حزنه وغضبه...

هذا الملف

نصوص
19
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى