صفوت فوزي

قتلتها ... قتلتها ... صاح أبونا توما وهو يعدو خارج قلايته المنعزلة في بطن الجبل ... متعثراً في جلبابه الأسود ، والعرق يتصبب من وجهه الممصوص . *** من بذار عرق الصوم ينبت سنبل العفة ، ومن الشبع يتولد الفسق ... هكذا علمنا من سبقونا في الدرب ... اقمعوا البطن عن كل مأكول يبعث داخلنا أشكالاً مرذولة...
خلع عنها ملابسها . خلع ملابسه .اتخذ مكانه على الكرسى المجاور للطاولة الصغيرة . بقايا مأكولات، علب سجائر مختلفة الماركات ، مناديل ورقية ،كتب ، اسطوانات موسيقى ، صور لنساء بملابس البحر مقصوصة بعناية من مجلات قديمة ، وفى الركن تستقر أدوات القهوة . أشعل الموقد الكحولى ، وضع فوقه الكنكة الملآنة...
من الممرِّ المعتم الضيق ينسلُّون فرادى. خطاهم على الأرض رقيقةٌ لا تُحَس، كأنَّما عاهدوا الأرضَ ألَّا تبوحَ بوقعِ أقدامِهم. يرفلون في ثيابٍ فضفاضة. يحدقون في الأفق البعيد. لم تند عنهم كلمة. وأنا حين لمحتهم ارتعبت. خلت أنني أهذى، بينما قلبي يضرب بعنف متسارع جريد ضلوعي. العتمة غلَّابة. يضمر الضوء...
فيك عشرة كوتشينة ؟ وتبدأ سهرة كل ليلة ... العتمة تسرح في جنبات الحارة ... جدران حائلة انهارت محارتها فبان لحم الحيطان لدناً مشبعاً بالرطوبة ... نجوم شاحبة متقببة على بيوت ضمت في حناياها هجوع الخلق وسكن الأشياء ... عِرَس تمرق من تحت أعقاب بيبان ... نباح كلاب في صحن الليل ، يفزع العابرين في...
الحارة الضيقة الرطبة بعيالها الفقارى الممصوصين، تضرب الصفرةُ أجسادَهم. ثيابهم قديمةٌ ورثَّةٌ، وجوههم تعلوها مسحةٌ رماديةٌ كأنها طبقةٌ من غبار. أشم الآن رائحة الأزقَّة الضيقة، رائحة الماء بالصابون المدلوق في الطرقات. أنصت لتمتمات العابرين في الطرقات الساعين إلى رزقهم، يدعون إلى الله طالبين العون...
سكنت الحركة . الحارة ترقد هادئة مستكينة كطفل شقى مشاغب هده التعب فاستسلم للنوم . الهواء مشبع برطوبة ثقيلة لزجة . الليل راسخ صامت . صمت تعمقه قطرات الماء المتساقطة من صنبور الحمام , ويخدشه نباح كلب من بعيد , وشخير الجار المزعج . فى نافذة مقابلة , الجارة بقميصها الشفاف الباهت الحمرة ونهديها...
صغارًا خفافًا نطير إليها ممسكين بأيدي الأهل والصحاب. نداوة خفيفة ترطب نسماتٍ قادمةً من ناحية النهر، ونحن نعبر الطريق الترابي المرشوش. طيور الهدهد تحجل أمامنا وديعة حذرة والبلابل تحلق صادحة في فضاء مفتوح. البوابة الخشبية الكبيرة تئن تحت وطأة رؤوس المسامير الضخمة الصدئة تثقب لحم صدرها، مفتوحة على...
عارية تأكلها عيونٌ نهمة. ألسنةٌ طويلةٌ لزجةٌ تمتدُّ تلعقُ جلدَها في نشوةٍ مهتاجة. يتحلقون حولها في رقصة وحشية. تتعالى أصواتهم ويزداد هياجهم. تضيق حولها الدوائر وتستدق حتى تصير كثقب إبرة. وحيدة– كما قُدِّر لها منذ زمنٍ بعيد– تتقاذفها ريحٌ جموح. ترى نفسها وقد استطالت أظافرها، نبتت لها مخالب تخمش...
نكبر فتضيقُ بنا الطُّرُقات. تفتحُ صدرَها الواسع للممتلئين شبابًا وحياةً، وتُزيحُنا نحنُ إلى جوانبِ الطريقِ. غزَا الشيبُ هاماتِنا، تهدَّلتِ الجُفونُ، وتغضَّنتْ منَّا الوجوهُ. مِنَّا مَنْ صَارَ جَدًّا ومنَّا مَن ينتظر. حياتُنا رتيبةٌ ينخُرُ فيها المللُ. تحاصِرُنَا هواجسُ الوحدةِ، وفرَاغاتُها التي...

هذا الملف

نصوص
9
آخر تحديث
أعلى