ياسين الخراساني - تحذير العارف من السناجب والكائنات الدقيقة (و أشياء أخرى)

"إليك عني بثقل الحديث، لن أخوض في زمن الذكريات ولن أدلي اليوم بصنارة تعود بأحذية الحنين. كفاك دهنا للذاكرة بالسواد، ألا ترى الليل قد تضاعف وادلهم في زمان الماضي، وتوالدت حشرات الخنافس، تسلقت سماءنا وقرضت شمسنا".
كنت أعرف مدى عبث كلماتي، لأنه يدخل باب الذاكرة دون استئذان، له رخصة عبور دائم ولا حواجز تعيق تقدمه. هو كثير كالجراد وكتلة واحدة لخناق الصدر. ولكنه العنصر الخامس في صلصال الوجود. لذلك لا أرى وأده، فإن فعلت مت قبله. بيننا حبل سرة ومشيمة وتاريخ ركبنا العضايا معا لعبور صحرائه.
تقابلنا في زمن بين دفتين. يحمل هما وئيدا. ولأني مثله أغربل تراب الأرض فلا أترك لي غير الحجارة، توطدت علاقتي به، وتعلمت أن علم الحساب خاطئ، فإضافة هم لصاحبه لا يضاعفهما ولكن ينقص من كليهما، أو هذا ما اعتقدت إلى حين.
اليوم هو يوم الحديث عن الحب. دائما يكون الحديث عنه بأحد أطرافه: بدايته أو النهاية. أما هو فكان يعلم أن الأشياء ليست بأقاصيها. لذلك ادخر لنفسه من الحب عدمه. كلما حس بتغير نبض قلبه إلا وأطلق العنان لساقه، كان يقول لي أنه يعرف كيف يوقف خربطة دقات قلبه فإذا جرى عادت إلى انتظامها، سريعة بالفعل ولكن متوالية كما كان يدري. يخاف من الحب خوف الأطفال من الذئب المتنكر بوشاح الجدة. ألأنه ألف طباع الغاب واستأنس لنفسه فلا يخالها اثنين ولا يترك منفذا إلا وسد خرمه كما تسد الأذن حين صوت زعيق.
ولكنه يسهى فيفتح لقلبه فجوة فسحة. رأى يوما سنجابا فأحبه، سريع الحركة والإنتباه مثله، يحس بالخطر قبل وقوعه. كم فرح للشبه به. هو يحمل منبهات استشعار ويشم الخطر على بعد ميل، مثل السنجاب ذو الفروة البرتقالية كلون الشمس عند الغروب أو لون فاكهة في أقصى النضج أو خد متورد ... إنتبه فجأة لضعف عاطفته، فأجال البصر ناحية السقف، سقف الحائط أو السماء أو الحاجبين، لا يهم كان ينظر إلى أقصى العلو فقط، حيث لا سناجب تنط بلون الإغراء ولا شيء يفتح النفس للإشتهاء ثم التقرب فالحب فالسقوط في شرك التعدد، تعدد النفس وتجزئ الروح…
لكنه ضعيف في الحلم أيما ضعف. فإن كان يتحكم في صحوه فلا غلبة له على غيبوبته. وكذلك ليله، يفزعه تحوله، فيمسي شخصاً آخر لا يعرفه. يحمل قلبه على كفه، ويقدمه لكل من طلبه، وكثيرا ما رمى به بين الأقدام يحاول أن يعثر إحدى الفاتنات لكي تنظر إليه. وإن نهضت من عثرتها ساخطة تجمع أغراض حقيبتها، تلعن من يرمون القلوب في وسط الطريق، فذلك أمر لا يسوؤه، تنبهت إليه إحداهن، فحسبه. ثم ينهض من النوم وابتسامة على وجهه، حالما ينتبه لها يصرفها عنه كذباب شارد ليعود إلى سابق تجهمه. لأن الإبتسام يوسع الحدقات ويجعل الفم فاغرا بالبله. تتوسع إذن الفجوات في الروح، ويكون عرضة لتسلل أمراض القلب والكائنات الدقيقة، لأن المشاعر مثل الأمراض، تنتقل من المصافحة والإحتكاك بجلد الآخر، فكان التجنب أولى وأسلم.
لا أعرف إذن من ابتعد عن الآخر. كنت أحادث طيفه يوم جاءني في الحلم. سألته:
-"هل أحببت فتاةً فيما مضى ؟"
قال بأنه لاحظ اختفاء السناجب بسبب الإحتباس الحراري، فالسناجب بمعطفها الثقيل تبخرت في الجو.
طلبت منه تعلم فتح النوافذ للشمس، فأجابني أنه يفعل ذلك في الليل لإبعاد الكوابيس إلى الخارج. وأردف:
-"إليك عني بثقل الحديث، حان وقت نومي ..."
-"تصبح على خير إذن"
قال: "و أنت، إحذر من فتح فمك عندما تنام، الكائنات الدقيقة تنتشر في كل مكان… "
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

الصديق العزيز ياسين الخراساني

لي عادة لم تبارحني منذ أن تعلمت القراءة، (وقد مضى على ذلك أعوام لا يتسع الوقت هنا لعدها)، وهي أنني عندما أبدأ بقراءة أي نص إذا لم تستوقفني صوره في أول صفحاته أتركه ولن أعود إليه.
كتاباتك يا صديقي تجرجرني منذ أول سطورها حتى النهاية وكأنني جالس لوحدي في قاعة سينمائية لها أكثر من ثلاثة أبعاد، دون حاجتي للبس نظارة تجسد الأبعاد...
هذه متعة تفوق متعة القراءة، وكأنني في حلم (ماركواني).. 😉

هنيئاً لك هذا الخيال الخصب أخي الحبيب ياسين
 
أخي عامر،
سادن الباب وبراق الآفاق، لولا قراءتك ومثلها من أخوات وإخوة أخر لكان النص خاويا مجوفا كما حياة الكاتب، تتقافز فيها السناجب على غير هدى.
ولأنك رحالة محنك، لا تبدأ طريقا لولا حدس بغاية في آخره. أذكر تعليقا لك كان قد شدني عن مبدأ "القفلة" وهو نهاية النص التي تعطيه كل زخم المعنى. أجد ذلك واضحا في نصوصك، وهو مبدأ قوي أحاول التعلم منه.
لك مودتي وتقديري، دمت بعافية وألق لا ينقطعان.
 
أعلى