أمل الكردفاني- كائن مستقر- قصة

السيد ميم..، ذو الجسد الضخم، حتى أن ضخامة كرشه وجمجمته تجعلان مشيته منحنية إلى الامام دائماً، كمن يريد تقبيل الهواء.
إنه الكائن الذي لا تشعر بأنه قد تعب أو عانى في حياته، لأن جمجمته لا تستقبل أي مؤثرات خارجية، من عينيه يخرج خطين من النور دائماً. فمنذ أن انتهى من المدرسة سمعنا أنه وجد عملاً لا يحتاج مجهوداً ذهنياً واستقر فيه بصمت مطبق حتى لحظة موته. ولذلك فهو كائن ومستقر، كائن، لأنه لا يعكس روحاً إنسانية تقبع بين خلايا جسده، ومستقر، لأنه لا يفكر حتى في أن يفكر. ولذلك فهو صامت كنتوء صخري داخل كهف.
وهو أيضاً بلا أصدقاء، بل متوحش كخفاش يقبع فوق ذلك النتوء داخل الكهف. وجسده الضخم، هو الكهف نفسه.
لا يحسده أحد، ولا يكرهه أحد، ولا يحبه أحد، بل ولا يعرفه أحد، لأن الكهف داخل غابات الأمازون..يسير ويداه تطوحان في الهواء ليحافظ على توازن جسده غير المتناسق. يسير وهو ينظر للأمام، وشفتاه معقودتان -كما أسلفنا- وحاجباه الكثان مقرونان. هاهو ينتقل من الأربعينات للخمسينات. ويقترب من الستين. وهو طوال الستين عاماً، لم يطرأ عليه تغيير ما.
كانت هناك إمرأة تحبه، ولا تعرف لماذا، وقد حاولت معه كثيراً، حاولت باستماتة أن تخرجه من الصمت، على الأقل لتعرف كيف يفكر أو، إذا ما كان يفكر أم لا، إذا ما كان يملك مشاعر ام لا، ولكنها رأت السنوات تمضي بهما فاختارت القفز من ضلالات القلب.
من الصعوبة بمكان أن تحكي قصة عن كائن بلا قصة، الحياة كلها تدوخ من حوله في زحمة دورانها، وهو لم يملك حتى أن يكون نقشاً اثرياً نحته وجود حي.
وعندما حدث الغزو، واعتقلته قوات الإحتلال، وضربوه، وعروه، لم ينبس ببنت شفه؛ فأطلقوا سراحه، وعاد ليواصل وجود اللا وجود. وقبلها بثلاثين عاماً كان جميع أقاربه الذين يعرفونه قد لقوا حتفهم. مع ذلك، ظل بلا ملامح، فكأنما لم يكن يعرفهم من قبل. كلاب الحي ينبحون حوله، لكنه يسير وكأنهم مجرد خيال. جيرانه ينصبون سرادقات العزاء، وفساطيط الأفراح، ولكنه ليس هنا. لم يكن هنا أبداً.
يتمدد على سريره بكامل ملابسه، ثم يصلب ذراعيه فوق صدره الضخم المشعر، مغمضاً عينيه، ويغط في النوم بسرعة ويعلو صوت شخيره. وكما نام فجأة يفتح عينيه فجأة، فيحل تصليبة ذراعيه، وبعينين خائرتين ينهض، ليواصل وجوده العدمي.
إنه يوجه صفعة للحياة..هكذا أحسب. لكنها صفعة غير مقصودة، ولذلك فهي أقوى تأثيراً مما لو كانت تحت شعور بالقهر.
السيد ميم...لا يملك سيارة، ولا جوالاً، ولا تلفزيوناً ولا حتى راديو. بل ولا حتى شجرة في حوش منزله الذي ورثه عن أحد موتاه.
ولم يره أحد يوماً ما يأكل أو يشرب أو يتبول أو يتغوط. ولم يره أحد أمام كنتين أو مطعم أو مرفق عام. كانوا يرونه وهو يسير في طريقه ذي الخط المستقيم فقط.. من منزله لعمله، وعمله نفسه لا يعرفونه. لكنه يخرج في السادسة صباحاً ثم يعود في الثانية ظهراً.
وقد دفعني ذلك لتتبعه عن بعد.
ليس هناك شيء غريب، فحتى الطريق إلى عمله لا يتضمن تفريعات جانبية، وهو يسير لساعتين، حتى يدخل من سور قديم، ويمضي عشر دقائق مرة أخرى سيراً حتى يبلغ مسلة أسمنتية ترتفع لأقل من مترين بقليل، وهي بطول السيد ميم بالضبط. يقف أمام المسلة..ويبدأ ثقبها بنظرة ثابتة ومستقرة. ويظل واقفا على هذا النحو منذ الثامنة وحتى الساعة الثانية عشر ظهراً. ثم يدور على عقبيه ويعود في ذات طريقه.
ليس على المسلة شيء، لا نقش ولا نتوءات، بل مجرد مستطيل اسمنتي، مساحة قاعدتها متران مربعان.
وإذا تحسستها فلا تشعر بشيء غريب. فهي ليست اكثر من مسلة اسمنتية. في منتصف أرض ذات مساحة ضخمة يحيط بها ذلك السور القديم.. لا يوجد فوق تلك الأرض نباتات، بل ولا أتربة، ولا حصي. إنها أرض رمادية ملساء كالمرآة المصقولة.
وبعد عودته لمنزله يختفي داخله حتى صباح اليوم التالي.
لقد انتشرت رائحة عطرية غريبة لمدة ثلاثة أيام اختفى فيها السيد ميم. فأضطررنا لاقتحام المنزل، ووجدنا الزهور تنبت في كل مكان فيه، في السقف والحيطان والأرض، في الغرف والصالة والباحة، فوق المقاعد وفوق سريره الوحيد. أما السيد ميم فلم نعثر له على أثر. كنا نتحلق حول سريره لنشاهد تلك الزهور التي تتفاوت في الطول، لتعطي في كتلتها النهائية صورة شبح جسد كائن ضخم..غالبا ما يكون هو.

(تمت)
  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

أعلى