أبوبكر العاقب - أحلام مُهدرة

عندما لمعت تلك الفكرة في رأسه قفز مثل من لسعته (رتيلا). كان وقتها يجلس على الرصيف مثل بلد بلا وجيع ، لم يكن يفكر في شيء محدد وإنما كان يقلب دفتر همومه صفحة صفحة ويتطلع فيه سطراً سطراً عله يجد رابطا بين تلك المشاكل التي تحاصره. حتى تلك الفكرة التي طرقت ذهنه لم يكن موضوعها ضمن الهموم التي كان يستعرضها.

عندما قفز واقفا كان هنالك شخص آخر يجلس على مقربة منه مطرقاً إلى الأرض، رفع الرجل نظره بتعب، تطلع فيه برخاوة ثم رد عينيه كأنه تعب من رفع جفنيه إلى الأعلى ، أما هو فدون أن ينظر إلى أسفل بدأ يبحث عن فردة حذائه في الأرض مُمِرّاً قدمه على المكان الذي كان يجلس فيه وعندما عثر عليها امتطاها وتحرك وفي رأسه تلتمع بعض الأشياء التي جلتها تلك الفكرة.
انسلّ من وسط تلك الزحمة راجياً أن يصل إلى مقصده بأسرع ما يمكن ، تعمد أن يسلك طرقات فرعية تفادياً للزحام وطمعاً في تقليب بعض الأفكار في رأسه. كانت قدماه تسيران بطريقة آلية والرأس طاحونة تدور وتدور وبين الفينة والأخرى يغمغم ببعض الكلمات غير المفهومة . تارةً تسمعه يقول "سبحان الله" وتارة أخرى "أبو الكلاب الزرق" . كان يتساءل بينه وبين نفسه من أين لماء النيل كل هذه القدرات . وإذا كان الماء قادراً على أن يغسل الغبار والعرق والأوساخ عن الأجساد ، فمن أين له القدرة على أن يغسل التعب و(حراق الروح) و(الضبلنة). من أين للماء كل هذا السحر الخلاب الذي يتبدل نوعاً وكماً بين الليل والنهار.
زعقت مكابح سيارةٍ على أحد الطرقات القريبة فاندلق الماء من أفكاره وحلّ محله الإنسان الذي صنع السيارة ومكابحها وهبطت المدنيّة بكل لغطها على أعصابه فسمع صوتاً طفولياً يخرج من المذياع "بابا ما أبدع هذا المعجون المنقط " فيجيبه صوت أجش " هذا (خردل تو) بخلاصة اللالوب " . سبحانك ربي جمعت بين الخردل واللالوب كما جمعت بين الكاكي والسكروتة.
ما بال المسافة أصبحت طويلة هكذا ، كنت أمشيها في أقل من هذا الوقت ، هل أنا تَعِبٌ لهذا الحد؟ لالا، لا أظن ، لعلها اللهفة فقط جعلت المشوار يبدو أطول مما هو في الواقع. إذن فالمسألة مسألة احساس بالوقت والمسافة لا غير ، الوقت هو الوقت والمسافة هي المسافة إنما تغير احساسك بهما. ترى هل سيأتي يوم يتغير فيه إحساسك تجاه ماء النيل ، تجاه تلك اللبخة الضخمة التي تراها في النهار القائظ مستودعاً للظل الرحيم وتراها في الليل رابضة مثل البعاتي أو ود أم بعلو. ضحك بأعلى صوته سراً حين تذكر ود أم بعلو وكيف أنه كان يخشاه في ليالي الخريف المظلمة ويقمع رغبات مثانته خوف الخروج في الظلام.
لفحت أنفه رائحة طفحت من بعض المجاري المفتوحة ، تذكر مديره في الإدارة التي كان يعمل بها وفصل منها لغير ما صالح. مرّ ذلك المدير في رأسه بكلماته الرخوة وتفكيره المسطح ، كان شخصاً لزجاً وقذراً مثل جدران الحمامات العامة في سوق شعبي. ورغم أسفه على ضياع وظيفتة في ذلك الوقت إلا أنه كان يشعر بقدر من الراحة لأنه تخلص من ذلك الشخص الذي يناكف من أجل المناكفة.
كاد ينكفئ على وجهه عندما تعثر في حجر منغرزٍ في الأرض، نظر إلى حذائه بعطف شديد ، خشي أن يكون قد أصابه الضرر فتوقف ليلقي عليه نظرة وبعد أن اطمأن واصل سيره وهو يعظ نفسه بضرورة الانتباه ويحاول استحضار العديد من العبارات المكررة مثل " في العجلة الندامة " و " قدِّر لرجلك قبل الخطو ... " و ...
آآآآآآه لقد وصلت أخيراً ، إنها ضفة النيل والشمس قد لامست الأفق محمرةً ليست كالدمعة الحمراء وإنما مثل الشمس عندما تميل للمغيب. عَبَر الطريق الفاصل بينه وبين النيل وتدحرج بين أكوام من مخلفات البناء التي تراكمت على الشاطئ شاقاً طريقه صوب الماء ، أحس بطعم الماء على جلده وهو يتجه نحوه وشعر بقدر كبير من الاسترخاء والراحة.
عندما أصبح على حافة الماء خلع نعليه ووضعهما جانبا ثم خلع قميصه واختار له مكاناً لا يصله البلل . تحركت نسمة رفيقة في الجو فارتعش قلبه مثل عصفور في بدايات (الرُشاش) ودون أن يشعر وجد نفسه يدندن لحناً فرايحياً . استرسل مع الأغنية فقرر أن يغنيها كلها قبل أن ينزل إلى الماء ، لكن شوقه للماء لا يقاوم ، خلع البنطلون ونزل إلى الماء حتى منتصف ساقيه ، لم يتمالك نفسه ، وجد نفسه يرفع صوته بالغناء شيئاً فشيئاً حتى خيل إليه أن هذا الصوت ليس صوته وإنما لأحد الجن الذين يخرجون مع الغروب كما كانت تحدثه جدته ، زاد صوته ارتفاعاً واللحن يزداد حلاوةً ودفئاً وحميميةً والماء الذي يغمره حتى منتصف الساقين يزداد تغلغلاً في مسام الجسد والروح.
فجأة من بين طبقات صوته وصل إلى أذنه صوت لا يعرفه ، صوت أجش واستعلائي ، " إنت يا زول بتعمل في شنو؟ " ، " معاك منو ؟ " ، " بتكورك مالك نص الليل ؟ " ، انهمرت الأسئلة غير المرغوب فيها ، فجةً ووقحة وعدوانية تبعث الضيق في النفس وتثير الرغبة في الشجار. حاول أن يتجاهل ذلك الصوت ، لكن ذلك لم يكن ممكناً إذ أن صاحب الصوت كان يتحرك ناحيته
"يا بشر إنت ، أنا بتكلم معاك " ، خرج من صمته
" معاي أنا ؟"
ردّ الصوت " ومال مع حبوبتي؟".
أيقن آنئذ أن فكرة الاستحمام في النيل التي سار كل هذا المشوار لينفذها قد ضاعت منه. جر رجليه خارجاً من الماء وعندما خرج تماماً من الماء كان صاحب الصوت في وجهه ، ملابس من الكاكي تنم عن سلطة ما وحذاء أسود فاحم .
شن صاحب الصوت هجوماً جديداً ،
" وين البت الكانت معاك ؟"،
ردّ
" بت شنو يا زول ، أنا جيت أستحم براي وماشي " ،
" بتنكر آآآ ، وديتا وين ، تعال هنا قريب شكلك كمان مسطول ، عيونك الصغار ديل "
تساقطت عليه التهم كتلة لزجة شلت قدرته على التفكير أو رد الفعل ، شعر بالعجز الكامل جرجره صاحب الصوت دون أن يسمح له بأن يلبس قميصه ، جرجره مسافة طويلة حتى أوصله إلى القسم حيث سلمه إلى شرطي وقال له " بلاغ إزعاج عام "
حشره الشرطي بين عدد من البشر لم يستطع أن يميز ملامحهم في تلك العتمة والمكان الضيق، شبك يديه على ساقيه ضاماً فخذيه إلى بطنه ووضع رأسه على ركبتيه وعاد به ذهنه إلى الماء والنيل واعترته (ضبلنة)ٌ نام على إثرها والبلاط الخشن يتعشى من إليتيه.
  • Like
التفاعلات: فهد العتيق

تعليقات

هذه القصة . وأيضا قصة موت شماسي للكاتب . نلاحظ المكان والزمان والحكي المشوق . هواجس الذات والحوار مع الآخر بلغة سلسة تعطيها اثارة وتشويق وجمال . شكرا للكاتب .
 
شكراً أستاذ فهد على الملاحظات القيمة التي تسلط مزيداً من الضوء على النص.
ثم، أين قرأت نص موت شماشي؟
تحياتي ،،،
 
أعلى