فيصل سليم التلاوي - الوردُ من قُربِهِ يُغمي على الجُعَل(1).. قصة قصيرة

خمسون عاما أو يزيد انقضت على اليوم الذي علق فيه بذاكرة سعيد عبد الكريم عَجُزُ بيت ابن المقرب الأحسائي: (الوردُ من قُربه يُغمي على الجُعَلِ) ولا يدري لماذا لم يغادر هذا الشطر من بيت الشعر ذاكرته، رغم طول النوى ونسيانه موضوع التشبيه الضمني، الذي كان هو الغرض الرئيس للتمثل بهذا البيت في وقته. فقد طوَّحت به يد الأقدار بعدها ليمضيَ عمره المديد في مدينة فرانكفورت الألمانية، التي جاءها طالبا وعاملا في آن واحد، ينفق على دراسته من كده وعرق جبينه، ثم انتهى به الأمر مهندسا، فمتزوجا من زميلة عمل ألمانية فمواطنا ألمانيا، مؤثرا أن يندمج في هذا المجتمع السعيد، وأن يطرح وراء ظهره كل تركة الهموم والآلام الثقيلة، التي هدت منكبيه في طفولته وبدايات شبابه.
بدأ حياته مُجدا مثابرا مندمجا كسائر العاملين في هذا المجتمع الصناعي الصارم، الذي يستغرق من العاملين معظم وقتهم. منفقا ما زاد من وقته الضئيل على رعاية ابنتيه وابنه، باذلا جهده أن يلقنهما بعض الألفاظ العربية كمفردات السلام والتحية، وأسماء مدن وقرى فلسطين ونباتاتها كزيتونها وزعترها وميرميتها، وأسماء العواصم العربية، وبعض ملامح التاريخ العربي قديمه وحديثه. لكن القليل من ذلك كان يعلق في أذهانهم، بينما يتطاير الكثير بفعل مؤثرات البيئة والمدرسة والأمومة والجوار، التي تفعل فعلها وتنحت مجراها في عقولهم بثقافة ألمانية قاهرة هي ثقافة المحيط كله. وسعيد لاهٍ عن ذلك يرى فيه أمرا عاديا وطبيعيا.
إنهم يكبرون سعداء متفوقين في دراستهم، وهو يرمقهم بنظره عن بعد، دون أن يتدخل في كل كبيرة وصغيرة، عكس ما اعتاد عليه في طفولته. لم يفت سعيد أن يصطحب زوجته وأولاده كل بضع سنين لزيارة أهله وذويه في مسقط رأسه في إحدى قرى فلسطين، ليعرّفهم بأقاربهم، وليربط بينهم وبين وطن أبيهم الذي يؤمل أن يكون وطنهم أيضا، وليكتسبوا بعض كلمات عربية جديدة، ولو أنها ستُنسى بعد حين لقلة استعمالها. ولا يغفل زيارة مدن فلسطين المحتلة، مستفيدا من جنسيته وجنسيتهم الألمانية، التي تتيح لهم ذلك دون عوائق، ليذكرهم أن هذه البلاد بجمالها وروعتها كانت وطنا لهم ولأبيهم وأجدادهم، وقد احتلها الصهاينة وواجبهم أن يعملوا لاسترجاعها. وإنه ليتذكر ببالغ الحرج كيف أن ابنته الصغيرة قد أعيته بسؤالها، الذي لم يجد لديه جوابا مقنعا للرد عليه، عندما سألته بعد أن فرغوا من زيارة القدس الغربية وتل أبيب وحيفا وطبريا، ثم انتقلوا إلى أريحا وبعدها إلى نابلس بدءًا بمدخلها الشرقي: مخيم عسكر فبلاطة، وقد هالها الفرق الشاسع بين ما شاهدت هناك من نظام ونظافة وأناقة وإتقان في كل مظاهر الحياة والعمران والسلوك، تجعلها لا تختلف في شيء عما عهدته في ألمانيا، وما تطالعه هنا من فوضى وإهمال وعشوائية ولامبالاة، تجعل كل ملمح من ملامح الحياة والناس والبيئة على النقيض من ذلك، ما أحست معه أنها تهوي من قمة شاهقة إلى قاعٍ سحيق، فكان سؤالها البريء:
بابا. وهل ستصبح حيفا وتل أبيب هكذا إذا عادت لنا؟
وكيف تدخل في النقاش أمها وأختها وأخوها وسؤالهم:
ترى لو بذلنا جهدنا لإقناع أصدقائنا الألمان بحقنا في فلسطين، وأن اليهود فيها محتلون غاصبون، واقتنعوا بوجهة نظرنا ووقفوا إلى جانبنا وهم هناك، وانضموا إلى حملات المقاطعة للمستوطنات ومنتوجاتها، ثم دعوناهم يوما لزيارة فلسطين، وحضروا وزاروا المنطقتين، وانتقلوا انتقالا مفاجئا مثل انتقالنا هذا، أتراهم يظلون على قناعتهم؟ وهل سيقبل شخص محايد بالانحياز إلى الخراب ضد العمران، هل يقبل بتدمير ذلك النموذج الراقي المنظم المتطور، لصالح هذا النموذج الذي ترونه أمامكم رأي العين دون أن نسهب في وصفه.
يومها لم يجد سعيد عبد الكريم ما يرد به على زوجته وأبنائه، فكيف بإقناع الزائر الغريب.
سرقت الأيام والسنوات من سعيد عمره سريعا، فكبر أبناؤه وتزوجوا، ووصل هو إلى سن التقاعد، فصار لديه كثير من وقت الفراغ، الذي يترك لديه سعة لتأمل الأحداث ومراقبة الأمور، التي كان غافلا عنها في زحمة العمل المُضني. راح يتمعن في مسيرة حياته الطويلة التي انقضت، فبدت له ناجحة ومرضية، وأبناؤه قد شقوا طريقهم، فابنه قد تزوج فتاة ألمانية كانت صديقته في الدراسة الجامعية، ولم يحرص على تسمية أبنائه بأسماء عربية، وإن ظل لقب (عَبدول) ممسكا بخناقهم لا يستطيعون منه فكاكا، وما لمس لديه رغبة في زيارة فلسطين، ولا ميلا لتعليم أبنائه ولو بضع كلمات عربية. يجد أهم اهتماماته أنه نباتي وزوجته نباتية كذلك، وهما يشاركان بفعالية ونشاط في جمعيات النباتيين وأنشطتهم، إلى جانب عضويته النشطة في حزب الخضر وفعالياته في الحفاظ على البيئة.
ابنته الكبرى اختارت الزواج من زميل أرجنتيني، وسافرت معه إلى أمريكا اللاتينية. أما ابنته الصغرى فلم تخفِ سرورها وغبطتها في التخلص من لقب (عبدول) الذي حملته على كره منها، وقد سرها انسلاخه عنها، واستبداله بلقبها الجديد (أورتوهان) لقب زوجها الألماني، وأن أبناءها لن يحملوا لقبا يلفت الأسماع، ويؤشر إلى جذورهم غير الألمانية، هذا إذا لم يثر الرعب في نفوس أترابهم.
كل ذلك يمر أمام ناظري سعيد وهو لا يملك أن يفعل شيئا. ورغم أنه قد أمضى عمره كله على وفاق وانسجام مع زوجته وأبنائه، إلا أنه لا يدري ما الذي يشده شيئا فشيئا في السنوات الأخيرة إلى أن يتذكر أصدقاءه العرب المنتشرين في أنحاء المدينة، فيكثر من زياراته لهم، وهو ما لم يكن يفعله سابقا: محمود السوري صاحب مطعم الكباب في وسط المدينة، وخليل الفلسطيني صاحب الكفتيريا على كورنيش نهر الماين الذي تحمل المدينة اسمه (فرانكفورت الماين)، وخالد الذي يبيع في بيته أصناف الأجبان والمخللات والبهارات والقهوة التركية والخضروات والفواكه المجففة، والذي يقصده المقيمون العرب من سائر أنحاء المدينة وجوارها، فيجدون عنده طلباتهم التي تذكرهم برائحة البلاد، وعمر صاحب مخابز الحلويات الشامية، وغير أولئك كثير.
تكاد علاقاته تقتصر يوما بعد يوم على أصدقائه القدامى والجدد من العرب فقط، حتى صار تحدثه بالعربية يغلب عليه، وهو الأمر الذي كان قد نسيه لسنوات طوال.
أما في المنزل فقد صار يدمن الجلوس متسمرا أمام شاشة التلفاز، متنقلا بين القنوات العربية العديدة، التي برمجها ورتبها بجوار بعضها، والتي لا ينافسه أحد من أهل بيته أو زواره على مشاهدتها، إلا إذا كان الزائر عربيا عتيقا مثله، أوعبرت لقطة مثيرة لفتت أنظار أحد أبنائه خاصة ابنته الصغرى، التي تتصيد المشاهد المثيرة، مثل مشهد مذيعة نشرة الأخبار على قناة اليمنية منقبة، لا يبدو منها للمشاهد سوى كُوَّتي عينيها، فتتساءل ابنته:
كيف تقرأ هذه و قد كممت فمها؟ هل يفعلون مثل هذا عندكم بابا؟
فيسارع إلى تغيير القناة متجاهلا السؤال ومشقة الجواب.
أما صفحات الفيس بوك فقد باتت تخطف جلّ وقته، يتابع جديدها ويتعرف على أصدقاء جدد، وينبعث له كل يوم صديق جديد من رفاق طفولته وصباه، وقد صاروا اليوم مثله شيوخا في أرذل العمر.
يزداد حنينه لتلك الأيام ولتلك الربوع التي أمضى على ثراها أيام صباه، ويحس أنها تشده إليها شدا وثيقا، وأنها هي وحدها عمره الفعليّ، وأن الخمسين عاما التي بعدها ما هي إلا حلم عابر. إن وشائج وعلاقات تنبعث له من هناك في كل يوم، وعشرات من أبناء إخوانه وأخواته وأبناء أعمامه وأخواله وخالاته وسائر أقاربه ينبتون على صفحته كل يوم معرفين بأنفسهم، وبصلة القرابة التي تربطهم به، بينما على العكس من ذلك يجد أن صلاته وروابطه بالمجتمع الذي يعيش فيه تضمحل وتتلاشى يوما بعد يوم، فيزداد عزلة وانطواء على نفسه. ويخطر بباله سؤال عجيب لا يجرؤ أن يهمس به بصوت مسموع، حتى لا يسمعه أحد من حوله:
ماذا لو عدت للعيش هناك بقية حياتي؟
أحس أن كل شيء يشدني شدا إلى تلك الأرض، وأنني ما عشت سوى سنواتي الثماني عشرة الأولى، التي انقضت هناك على بؤسها وشقائها، لكنه يعود ليجيب نفسه:
وإلى أين سأعود؟ أأِلى بيت والديَّ الذي لم يبق منه سوى هيكل مهجور آيلٍ للسقوط؟ وما ذا سيقول الناس عني لو عدت إليهم دون زوجة وأبناء؟
سيقولون تخلوا عنه في كبره، واضطروه للعودة من حيث أتى.
لا أدري لماذا يخطر ببالي المثل الذي يقول: (بين حانا ومانا ضيَّعنا لِحانا)
أُحس أنني بِتُّ نسيا منسيا هناك، ولن يشعر بوجودي أحد لو عدت بعد طول غياب. والحال ليس أفضل من ذلك هنا، فلا مكانة اجتماعية ولا جاها أو هيبة، كالتي يصنعها الناس لأنفسهم في بلادنا فتحفظ لهم مكانتهم ووقارهم في شيخوختهم. فمنذ أن تقاعدت من العمل لم يبق مني لدى معارفي وزملائي في العمل سوى (عبدول) القديم فقط، التي يتندر بها صديقي العجوز مثلي صالح محمد، عندما يتباهى بأن حظه السعيد، وبلادة موظف الجوازات في بلاده، الذي بخل بجهده، فاختصر اسم محمد بالانجليزية إلى أربعة أحرف (MOHD )فصارت تلفظ هنا (مود) وهو لفظ لا يشير إلى أي شيء، ولا يحمل أي مدلول استفزازي، ولا تنبعث منه أي فوبيا، وبذلك نجا صالح من فوبيا (عبدول) و(محمد).
ظل سعيد نهبا مقسما بين حالتيه: انشداده لأطياف ماضٍ موغلٍ في قِدمه، تلح عليه وتطارده في يقظته ومنامه، وواقع جميل أنيق ورغد عيش هانئ يتفيأ ظلاله. كان هو غايته ومنتهى أمله وطموحه عندما قدم إلى هذه البلاد عازما على الاندماج والانتماء، وتطليق الماضي بكل قسوته، لكنه وقد بلغ الغاية التي سعى إليها عمره كله يجد نفسه يتمتم محدثا نفسه وحدها:
لأمر ما لم يبرح ذاكرتي طيلة هذا العمر شطر بيت ابن المقرب
: (الوردُ من قُربه يُغمي على الجُعَلِ)

26/1/2015

الجُعَل: حيوان كالخنفساء يكثر في الأماكن الندية، ويبدو أنه يتضايق ويغمى عليه من رائحة الورد. وجمعه (جِعلان)
فيصل سليم التلاوي

تعليقات

الأستاذ الفاضل فيصل سليم التلاوي
ألف تحية وسلام
قرأتُ قصتكم الممتعة هذه ولم استطع المرور عليها هكذا مرور الكرام فوقفت عندها ملياً أتأمل هذه المشاعر الصادقة التي تدفقت من جُملها وجمالها. هل لأنها حرَّكت في نفسي أشجاناً مُقيمة وأنا النازح أو المُهجر من وطني. ربما، انا لا أعرف على وجه اليقين، كما الثلج هيج أشجان شاعرنا المهجري رشيد أيوب الذي كان حاله من حالنا هيجت هذه القصة أشجاني وهي علامة من علامات حُسنها ومتانة سبكها:

يـا ثـلجُ قـد هـيّـجـتَ أشـجـاني
ذكَــرتــنــي أهــلي وأوطاني

بــاللهِ عَــنّــي قُــل لإخـوانـي
مـا زالَ يـرعـى حـرمـةَ العـهد

يــا ثــلجُ قــد ذكِـرتـنـي أمّـي
أيّـامَ تـقـضـي الليلَ في همتي

مــشــغــوفــةً تــحَـارُ فـي ضَـمّـي
تــحــنـو عـليّ مَـخـافَـةَ البـردِ


كم كنتُ اتمنى ممن يقرأ هذه القصة ان يُعلق ولو بجملة تكون "عربون" محبة.
مودتي وتقديري لكم.
 
نص قصصي شجي مغرق في الألم والأسى، ومفعم بالأحداث والمفادآت، عن سيرة حياة سعيد عبدالكريم في المهاجر ، حيث الانسلاخ عن الهوية أو الاستلاب في اشد تمظهراته، هكذا تضيع الهوية وتذوب في الشتات .. ضحية فقدان الأمل في العودة ، حيث تتقاسمه الحنين للأرض / المنبع، و الزواج المشترك الذي يفقد الهوية ويطمس الذاكرة الجمعية ..
كل التقدير
 
أخي العزيز عبد الرزاق دحنون: تحياتي لك واعتزازي وتقديري لتفاعلك مع القصة وتماهيك مع أحوال بطلها ربما لأنك تعيش ظروفا مشابهة لظروفه على ما يبدو. والحقيقة أن أحوال المغتربين العرب في أوروبا على هذه الشاكلة في الأغلب خاصة من اختاروا الزواج بأجنبية ظنا منهم أن ذلك قد يسهل سبل الاندماج، لكنهم يكتشفون بعد فوات الأوان أن الروح تظل معلقة بالبئر الأولى التي ارتوت منها أول مرة، ودونها تظل ظمآى أبد الدهر. احترامي وتقديري وشكرا جزيلا لك.
 
أخي العزيز الأستاذ نقوس المهدي: تحياتي لك وشكرا لكرم مرورك ولقراءتك المتعمقة التي سبرت فيها أغوار بطل القصة و ما يعانيه هو وأمثاله من مرارة التجربة التي لا يحسون بها إلا في نهايتها وعلى أبواب الشيخوخة وعندما يحسون أنهم ضائعون بين هنا وهناك، لكن بعد فوات الأوان. لك أطيب تحية.
 
أعلى