علي بنساعود - الموت للأضعف... قصة قصيرة

طيلة عمري، كنت أبحث عن جذوري في اللامكان، أحاول أن أرسم خريطة تيه، لا تتسع له الجغرافية. كان حلمي، وما زال، أن أدخل مدينة، أطأ ترابها، أجوب دروبها، فتتعرف إلي، تحضنني وتقول:
"أنا بيتك، هنا ينتظرك عمر آخر... لا يهمني أين درجت وتسكعت، ولا من رافقت أو عاشرت، ولا من أحببت أو كرهت، إن وقعتَ ساعدتك لتنهض، وإن جعت أطعمتك، إن عطشت سقيتك، وإن شردت أويتك... وإن احتجتك، وجدتك جنديا تذود عن حدودي...
هيا استنشق هوائي، اخرج توثق صلتك بدروبي وأزقتي..."
أتخذها مستقري النهائي. أندس بين أبنائها وبناتها بطريقة تليق بها وبي...
أستيقظ، تلتفون حولي، أحكي لكم عن منزل جدي ومنازل جيرانه، يوم تعرضت للقصف، عن جمل تفحمت، عن كلمات تناثرت بين الأنقاض...
لم يكن في المنزل شيء سوى الصمت. هو منزل وحيد، لا طريق منه ولا إليه، لا بيوت تؤنسه، ولا أشجار أو جيران... لم يكن أحد يقيم في المنزل سواي.
كل صباح، أشرع الباب والنوافذ، أغري المتلصصين للاقتراب، عساهم يتعرفون عليَّ، على ذاكرته، من سكنه ومن غادره، من قضى فيه ومن ينتظر...
لم يكن في المنزل شيء سوى الأوهام... من نافذتي، أرى لحظات خاصة وسرية، أرى شمسا تقتحم نافذة، تغمر عريا يغادر سريره، يشعل سيجارة، يشفط دخانا...
لم يكن في المنزل شيء سوى الأشباح...
من نافذتي، في الظلمة، أكتشف أن هذا المنزل لا يمكن أن يكون أوى أناسا حقيقيين، أن لا أحد سكنه سوى صمت يعمق الشعور بالوحدة.
لم يكن في المنزل شيء سوى الخيالات... أفتح بابا لم يكن له...
ظهرا لي متوترين، وكان الجمهور متحمسا يصفق ويهتف...
أعطى الحَكم إشارة الانطلاق، فسح لهما المجال... انقض السفاح على غريمه، وسط صيحات المشجعين... كان بارعا في القفز، سريعا في الانقضاض، حاول النيل منه، لكن المقاتل كان ماهرا في المراوغة، تجنب فكي خصمه وقوائمه الحادة... رد الهجوم... استعجل السفاح الانتصار، حاول إسقاط خصمه، وإجباره على الاستسلام... وكان يستغل قصر قامته للإمساك به من رقبته بل حنجرته...
على الرغم من مراوغاته، تمكن السفاح من إسقاطه، لكنه تدارك الموقف بعد أن تمكن من دفعه بقوائمه القوية... مع ذلك، استطاع السفاح أن يعض أذنه اليمنى، ورفض أن يتركها... اضطر الحكم إلى توقيف المبارزة واستعمال عصاه بوضعها بين فكيه ليفتح فمه، ويترك أذن منافسه، ويتيح الفرصة لصاحبه ليقدم له الإسعافات اللازمة...
تستأنف المبارزة، وكان الحاضرون في ذروة الحماس، كل يناصر الكلب الذي راهن عليه، اضطر الحكم لتوقيف المبارزة مرة ثانية، أفسح خلالها المجال لصاحب المقاتل ليخلص شفته وكانت علقت بأنيابه.
استؤنفت المبارزة... طالت مدتها... شعرت بالخوف، بالحنق...
هي مبارزة مفتوحة من دون سقف، لا تنتهي إلا باستسلام أحد الكلبين أو موته! من ثمة معنى اللافتة فوق الحلبة: (الموت للأضعف)...
يراوغ المقاتلُ، يُسقط السفاحَ، يثب فوق ظهره! ينشب أنيابه في قفاه! يضغط بكل ما أوتي من قوة! يعجز السفاح عن تخليص نفسه! يستسلم، وكان مازال ينزف منه دم كثير...
أهرع لإنقاذه، أجدني في الظلمة أمام النافذة، أغلقها، أتناول كأس ماء... كانت الحرارة منخفضة، ودقات قلبي مرتفعة... وجِرَائي تعوي نباحا كالصفير...
  • Like
التفاعلات: عبدالعزيز فهمي

تعليقات

الجميل في النص هو القدرة على تماهي اللغة مع الحالة التي عليها السارد ذلك الهذيان السردي الذي اربك الصيغة التقليدية لحبكة النص
فحققت الفجائية واسبغت على الأصوات تعددية قام بها الضمير المتنوع الذي يسير إلى توحده في أنا الحالمة أو المصابة بحمى الحكي حتى لا أقول الحلم
نص جميل تحياتي لك أيها العزيز
عزيز فهمي
 
الجميل في النص هو القدرة على تماهي اللغة مع الحالة التي عليها السارد ذلك الهذيان السردي الذي اربك الصيغة التقليدية لحبكة النص
فحققت الفجائية واسبغت على الأصوات تعددية قام بها الضمير المتنوع الذي يسير إلى توحده في أنا الحالمة أو المصابة بحمى الحكي حتى لا أقول الحلم
نص جميل تحياتي لك أيها العزيز
عزيز فهمي
الجميل في النص هو القدرة على تماهي اللغة مع الحالة التي عليها السارد ذلك الهذيان السردي الذي اربك الصيغة التقليدية لحبكة النص
فحققت الفجائية واسبغت على الأصوات تعددية قام بها الضمير المتنوع الذي يسير إلى توحده في أنا الحالمة أو المصابة بحمى الحكي حتى لا أقول الحلم
نص جميل تحياتي لك أيها العزيز
عزيز فهمي
شكرا لك عزيزي الشاعر المبدع على هذه القراءة العميقة للنص والتي اسبغت عليه جمالية خاصة...
محبتي وتقديري
 
أعلى