إبراهيم محمود - تأنيث الصابون

This entry is part of a series of entries "إبراهيم محمود"
واقعاً، يمكن للمرأة أن تتمثل في الصابون بوصفه مركَّباً كيماوياً وسهل الاستعمال، الكثيرَ مما يشغلها نفسياً. أن يكون الصابون في تعددية أشكاله " من الشكل المربع إلى المستطيل فالبيضوي تقريباً "، على هيئته تلك، فلا بد أن " أولي أمر " الصابون، ممن يمكن التعرف إليهم في المجتمع " الحي " يراعون فيها ما يبقيها مأخوذة، بوعي أو بدونه، بما هو استيهامي، هوامي " فانتازمائية ". إن قدرة الصابون الكيمائية على التجاوب والذوبان، وتغيير لون الماء في البانيو خاصة، أو إكساء الجلد بغلالة رغوية، وحسب نوعية الصابون الخاص بالغسيل، ومن ثم تكوين فقاعات تغلّف الجسم، أو تطفو على سطح الماء، أو تشاهَد في طفوها، وما في ذلك من استدراج النظر النفسي إلى عالم المتخيَّل النفسي، والتحرر، ولبعض الوقت، من ثقل الواقع...ليست عملية سهلة بالتأكيد، إنما مدروسة، وذات إخراج ذكوري، أو تتم بإشراف ذكوري ما، وحتى إذا كان هناك حضور نسوي في صناعة صابون خاص بالنساء، فلا بد أن هناك أخذَ العلم بذلك، حيث إن التوضُّع الثقافي وعلى مستوى مجتمعي، أي في ظل الهيمنة الذكورية بصيغ شتى، من شأنه أن يفعّل بنية الغواية الصابونية، وكيف يستحيل الجسد النسوي مادة متفاعلة مع الصابون، وربما كيف يصبح الصابون مادة متعدية لخاصيتها السلعية، والبعد القيمي المتحول ضمناً .
إن كلاً من الماء الساخن والصابون بمتحوّله الرغوي يمكنه أن يترجم الكثير من الحالات النفسية للمرأة، عندما تكون في وضعية استرخاء أو باحثة عن مؤثّر معين للتعبير عن مكبوت معينة تستغرق ليس عمراً كاملاً من حياتها، فحسب، وإنما تميط الوضعية هذه، اللثام عن بنية ثقافة ذات نسق ذكوري متنفذ أيضاً، كما لو أن البانيو كمساحة حسابية، وكعمل منفَّذ وفق طلبات مدروسة بالمقابل، وبمقاييس معينة: بنية ولوناً، وما فيه من ماء، هو حقيقتها، أي حيث ينبري جسدها هوامياً، وذلك من خلال مستجد قائم استحمامي، فلا يعود تعبير: الجسد الرغوي اعتباطياً، من حيث الترميز، إنما يكون للحس العملي قيمة إحالية إلى واقع حال بالذات، أي إبقاء المرأة التي تقيم علاقة مع جسدها من منظور المتوخى، فيكون جسدها وليس لها، مثلما أنها بالطريقة هذه، عبر مفاتن جسدية معينة، تمتّع خيالها النفسي، لكنها تكون لمن يتلصص عليها، أو يحيلها هي ذاتها إلى شارة إعلانية، لتكون إشهاراً بالمعروض وشيئنة ما لها .
وهذا من شأنه التفكير المحيطي في التعدّي الدلالي للصابون وما وراء فعل الصابون المدلّك إنما المنبّه العصبي والاستيهامي للجسد على قدر الشعور بالفراغ أو الاغتراب عنه . هنا لا أتحدث عن السلعة واعتبارها مادة استهلاكية للحفاظ على نظافة أفضل، إن مجرد توقيف التفكير في هذا المضمار حجْر على سياق المعنى، وهو أن السلعة ليست مطروحة للسوق لتأخذ طريقها إلى الجهة المنشودة، وإنما ما يُرفَق بها من مؤثرات ضمنية وليست جانبية في الصوبنة وتداعياتها.
فأن تستشعر المرأة من خلال انغمارها بالماء وقد علته رغوة الصابون، ومن ثم البخار، كما لو أنها في جلسة تحضير الأرواح، لا يكون مبالغة، إن قلنا إن عيادة نفسية كاملة تمثُل أمام النظر، ولو بصورة تقريبية، ويكون المحلل النفسي محسوساً من خلال المواد الموجودة، وهي تطلق العنان لكل ما هو قار فيها: أفكاراً، تحفظات، تصورات، خيالات، رغبات معينة، إلى درجة فقدان الاتصال بالواقع الفيزيكي، والانجراف في نهر زمن نفسي قد ينسيها ما هي عليه واقعاً.
لا يعود الماء ولا الصابون ولا حتى الاسفنج أو الليفة، مجرد أدوات أو وسائل مادية، إنما تكتسب طابعاً أرواحياً، يوسّع حدود علاقاتها مع خارج من نوع مختلف، وذلك هو الاسترسال في الزمن المرغوب فيه، وبلوغ مستوى من الانعاش الروحي المغاير كلياً لوضعيتها الفعلية.
في الحديث عن " تأنيث الصابون "، ثمة الكثير في انتظارنا، ليُسطَّر على الورق أو في الضوء، ولا بد أن الأهم في ذلك، هو طبيعة وشائج القربى بين جسد المرأة " المستحمة " هذه، وما تريده منه، وما يريده الجسد منها، وما يفعله كل من الماء والصابون ذي الفقاعات فيها بالذات، حيث إن لكل حالة طبيعة توجيه دلالية معينة، تكاد تكون مخالفة لسواها، على وقْع الجاري .
تبحث المرأة من خلال دخولها في وضعية المستحمة إلى استعادة توازن نفسي، وليس مجرد الاغتسال، وبالتالي، فإن الاغتسال الذي يُنظَر إليه في إطار" النظافة " إنما هي نظافة أخرى تماماً " نظافة سيكولوجية "، حيث إن المرأة تقبل على تمثّل هذا المشهد ليس لأنها تستعيد نظافة جسمية معينة، وهذا قائم، ولكنها ليس بالرئيس داخلاً، إنما يكون الاغتسال وسيلة لغاية، وربما لا أحد يقف على خصوصيتها، أو يتحرى كنهها، أو ينقّب في حركيتها إلاها تحديداً، فثمة ما لا يمكن للغة أن تنقله بالكلمات، ثمة ما تعجز اللغة عن تمثيله الحرفي، ما لا يمكن للغة أن تقوم به لأن هناك تجذراً لأكثر من عقدة نفسية، ويكون التماس المشهد المذكور، ترجمة مقاومة نفسية، وبحثاً عن نمذجة الجسد المفقود والمنشود في آن، بمقدار استمرارية المشهد هذا كذلك .
ذلك من شأن الجسد أن يقدّم موضوعاً مغرياً للدراسة على أكثر من صعيد، لكنه الجسد الذي يحفّز إرادة التملك الغريزية الموسَّعة لدى الرجل وهو في موقع السيطرة، إذ إن انسيابية الماء وزلاقة الصابون، وحتى عمل الليفة، والانغماس في حوض الحمام، من المؤثرات النافذة الاعتبار بالنسبة إليه، كما لو أن الجسد الحمّامي، الجسد المصوبن، أو المغلَّف بغلالة صابونية أصبح متاحاً أكثر لأن يمرّر متعاً ذكورية، أو يدفع بالرجل لأن يكون أكثر قابلية للدخول في حالة من التوحد مع ما هو تلذذي يتلبسه في مجموعه، وبذلك يكون الماء ذاته في بنيته، إلى جانب الصابون في وضعية خدمية بالنسبة للمشهد الحمامي الذي ترتع فيه شهوات الذكورة .
ربما كان الذي تقدَّمتُ به يُتَّهم بالمبالغة، سوى أن تعمقاً مباشراً فيما يجري، وبذهنية مرنة، يبقينا على خصوصية المتخيل الشعري، هذا الذي يطلق الجسد من عقاله، ولو وهماً أو توهماً، أي حين تجد المرأة نفسها في حالة من الأريحية الروحية وقابلية التجاوب مع المتاح في الحمام.
الحديث عن تأنيث الصابون يوقفنا للنظر في شكل الصابون وفي حجمه، عندما نتحرى البعد الفعلي له وظيفياً، وهو أنه في مساره التغليفي والتظريفي، إنما لجانب تصريفي أعمق، وهو في كيفية الدفع بمتخيل المرأة قبل كل شيء لأن تسترسل عبره مع المؤثرات الصابونية.
هنا أشير إلى مثال حي، وهو في شكل الصابون ونوعه : أتذكر ما كنا نأتي به من صابون يُسمى بـ" زيت الغار " وهو صناعة حلبية عريقة، كان هذا النوع كبير الحجم، ويوجد أصغر منه، لكن رائحته تقرّبه من الطبيعة، والرغوة في مقام " كاتم للصوت " : وفرة رغوية، تسهِم في تنعيم الجلد ومنحه صحة أكثر، وكذلك بالنسبة للشعر، في الحفاظ على فروته .
لاحقاً، وكما نجد الآن، ثمة تنافس على مستوى الصابون، وكيف يأتي التغليف جزءاً من المهمة في التسويق، والحجم الذي يكون بقبضة اليد وعملية التحكم به، وإضفاء تشويق على علاقة تفاعلية بين كل من الصابون وهو يرغي والجلد وهو يغوي جرّاءه، وهو ما نجد في الشقيق السلعي المتعدد الأشكال والأنواع أو الأسماء: الشامبو بعبواته المختلفة، إنه امتداد جيليّ للصابون، ويعمل على توظيف أكثر من عنصر إغرائي وإحيائي لدوافع قارة في الجسد، أبعد من حدود البانيو: كثيراً ما نشهد الجسد الأنثوي وهو بغلالة رغوية وقوفاً، كما لو أن هشاشة هذه الغلالة والدور الوشائي الذي تقوم به للنظر الذي يتعدى حسّيته، وفعل " التلمظ " لمكون عضوي يجرَّد مما هو بيولوجيفيه، ويرتقي به إلى سلعة من نوع آخر، وخاصة بالنسبة لصلة الرغوة الصابونية، أو الشامبوية بالشعر، وكيف يكون منفّراً لصاحبته، ليغدو باعثاً على الراحة وأبعد: إرضاء الآخر، حيث يُسترسَل، وهو في واقعة في حكم الندرة أو الأقلية: أي وجود الشعر الطويل بألوانه المختلفة، كما لو أن هناك شارة تقول: هذا النهر صالح للملاحة، والشعر الطويل دعائي على مستوى الصورة المشهدية المتلفزة، أي منزوعة البراءة بالتأكيد، كما لو أن ذات الشعر محكومة بالشعر، وهو ثانوي، وهذا فعل تحويري لمعنى الجسد في كلّيته.
ذلك من شأنه التأكيد على نقطة رئيسة، وهي أن المثار هنا ليس فتح محضر ضبط للصابون أو امتداده: الشامبو، وسلعنة الجسد، وإنما محضر تعميق الفكرة واقتفاء الأثر بغية مكاشفة هذا المرئي وحتى المشموم رائحةً، وتعددية المهام في الصابون ورغوته، وتلمس أكثر من شارة هي علامة تنوير لما يعتَّم عليه، حيث يكون تنعيم الجسد الأنثوي تلغيماً له، إن جاز التعبير، أي الدفع به ليكون أكثر قابلية " للهضم " الذوقي من جهة الرجل المأخوذ هو الآخر بذكورته، ذلك يعني أن الطبيعة في تقهقرها تفصح عن مأسوية الجسد الذي يكون مرصوداً بعناصر إثارة وإغراء، هي ذاتها شريكة السلعة عملياً، شريكة توقع بالجسد وتوحي له أنه في الوضعية الأنسب له .
ذلك من شأن تأنيث الصابون، أن يضعنا في مواجهة تاريخ كامل لكل ما يُصنَع، وما يفكَّر فيه على مستوى التجنيس، وكيف تمارس الجنسانية لعبتها على أعلى مستوىً، حيث لا يُستثنى شيء من الدخول في مضمار هذا التصريف العلائقي الجنساني بالذاتي، أي ما يكون الصابون في مجمل أداءاته منفّذاً لرغبات الذكورة، ومن خلال ما يمكن تلمسه في لوحات إعلاناتية، أو مشاهد يمكن تعقبها سينمائياً، أي جهة توظيف الإغراء ليكون تفعيلاً لرؤية ليست حيادية، وهنا يكون الجسد الأنثوي نفسه مستلباً من حقيقة كونه مميّزاً لكائن حي له قوامه، هويته الإنسانية، ولكن طبيعة الثقافة بأكثر تمايزاتها استهلاكية، كما في السياق السالف الذكر،تعلِمنا في مكوناتها الأكثر ديناميكية ما يؤمّم للرجل/ الذكر ما يبقيه السيّد بأكثر من معنى، سيد مأهول بالشهوات، وما يشجّع في ذائقة المرأة وهي في تمام تفتحها النفسي تلك القدرة على التجاوب مع المشهد عندما يذوب الصابون ويسيح على الجسد، والجسد يسيح بين يدين ذكورتين وليس سواهما، وربما بالطريقة هذه، لا تكون اليدان وبوصفهما طرفين عضوين، أكثر من قائمتين بدور خدمي لما يجد الرجل نفسه محكوماً به، وإن كان يتقدَّم بطريقة خيلائية، ومن موقع سيادي لافت، لكن المؤثّر الغائب أو غير المدرك، هو في نوعية الحرية الطائفة أو الملموسة، وطبيعة عملها هي الأخرى، إزاء جسد آخر مدفوع به إلى خانة جماليات المتعة المستهلَكة، وليس الجمال الذي يمضي على توأمي متعة ساميتين، أو رائعتين، وما في ذلك من اعتراف متبادل بينهما. إن تدقيقاً في عالم الحمّام، أو مؤدّيات الصابون وموقعه، شاهد عيان على هذا الاستلاب المتجذّر، استلاب لا يتواجه طرفان على أرضية واحدة، وإنما طارداً وطريداً على مستوى المعايشة. ولو أن محلّلاً نفسياً تابع عن كثب، ومن " عين سحرية " حركيات الجسد الأنثوي المصوبن والوقت الذي تمضيه في ذلك، لأمكنه القبض على الكثير مما يعرّفه بما أشيرَ إليه جنسانياً *.



*- ملاحظة: في العددين " 78-79 " 2010-2011، من مجلة " كتابات معاصرة " اللبنانية، نشرت بحثاً كاملاً على حلقتين، معنوناً بـ" أطياف الصابون "، ويشكّل كتاباً في موضوعه وطوله النسبي، ولم أنشر هذا البحث حتى الآن ضمن كتاب مستقل، وما نشرته هنا استمرار لفكرة " أطياف الصابون " ومن باب التنويه .
Next entry in series إبراهيم محمود
  • Like
التفاعلات: جبران الشداني

تعليقات

مقال رائع جداً ، يتمتع بالجدة ، وملاحظة ثاقبة أو في الحقيق تفرعات من الملاحظات الثاقبة ، حتى اللغة كانت ممتعة جداً وربما مكثفة ومنضغطة بحيث تؤدي الجمل القصيرة وظائف عدة منها الافهام والتخييل، لدي سؤال حول الملحوظة الأخيرة ، وهو نشر بحث سابق ، هل المقصود من كلمة بحث (مفهومها الميثودولوجي (أي ضوابط البحث العلمي)؟) أم باعتبارها رؤية فلسفية. على أية حال الموضوع جميل ويمكن أن يتحول بالفعل الى كتاب وافضل ترجمته الى الانجليزية.
 
إبراهيم محمود

بصدد تعليق الأخ الكاتب أمل الكردفاني
أولاً شكراً أخي وصديقي المعرفي أمل الكردفاني على ثراء قراءتك لما يُنشر في موقع الأنطولوجيا، وثانياً، على ذوقك الدقيق الأنيق وتعليقك على بحثي المنشور" تأنيث الصابون "، وللتوضيح، فأنا أصنّفه في نطاق رؤية ثقافية- فلسفية ، رغم تحفظي حتى على كلمة من نوع " إطار- مجال- سياق- نطاق.."، لأن الموضوع المبحوث فيه أساساً وبغية أن يكون جديداً يستحق القراءة هو أن يُكتب متحرَّراً مما ذكرت، في هواء الروح الطلق... وسعيد حين أشرت إلى إمكان ترجمته إلى الانكليزية.. لكن الكتاب لما يزل مخطوطاً.. تحية لقلمك
 
أعلى