على حزين - الرحلة.. قصة قصيرة

بجوار ماسح الأحذية .. وبائع الليمون .. كان يجلس " بكرتونة " الورقية .. يبيع اللب , والفول السوداني .. يخرج كل يوم من بيته .. الكائن " بساحل طهطا " مع أول ضوء , وقبل أن تطلع الشمس .. تراه يتعكز في الشارع الطويل , يدب علي الأرض بخطوات ثقيلة , ضعيفة .. ناهز السبعين خريفاً , أو يزيد عليها قليلاً , وما تقوس ظهره , وما انحنى, ثقل سمعه , وضعفت قوته , وشاب رأسه , إلا انه يملك بداخله قلباً كبيراً أخضرا .. ينبض بالحياة , مليئاً بحب الخير للناس , متفائلا دائماً , عطوفاً, متسامحاً , طيباً , مصلح بين الناس, يكتفي بكوب الشاي الساخن , ليغير ريقه , حتى يشعل سيجارته يسمي الله ويتوكل عليه.. يخرج .. يتح في مشيته .. وما إن يصل إلى الجامع الكبير.. بجوار السكة الحديد .. يتوضأ.. يصلي الصبح .. ثم يفترش كرتونه.. يضع عليها كمية صغيرة من النبق, والفول السوداني أمامه .. وبعض الأوراق التي يبتاعها , من أولاد المدارس.. تارة ينقض النبق, وتارة أخرى يفصص الفول , ليعبئه في قراطيس صغيرة .. ثم ينادي بصوته الجهوري علي من يشتري .. حني يستفتح منه ..
ــ النبق .. الفول السوداني .. ببريزة ..
وحين يركد السوق.. يذهب إلي احدي المدارس..القريبة منه , ليبيع للصبية الصغار أو يتجول في موقف العربات.. يبيع لركاب "المني باص" والسائقين الذين يحبونه ويضحكون معه, فإذا رجع لمقره عند الجامع, بجوار ماسح الأحذية, وبائع الليمون اللذين يخبرانه بأن ابنه الصغير ألشيخ "علي" جاء وسأل عنه .. يجلس مكانه .. وكل منهما منهمك ومشغول بما في يديه .. ماسح الأحذية يضرب .. بالفرشاة علي الصندوق الخشبي المزين بالصور , والدبابيس اللامعة , حتى يضع الرجل الواقف علي رأسه حذائه , وبائع الليمون يبيع لامرأة شمطاء, أما هو فيظل يفرز , وينقض ويقشر .. وينادي علي من يشتري منه .. والميدان يضج من حولهم بالمارة .. في حركة دائبة .. لا تنقطع .. وتلكسات العربات تمخر الآذان , والعظام والأعصاب ..!
ـــ اللب .. الفول السوداني .. النبق الحلو ..
أهل البلد يعرفونه جيداً.. وكثيراً ما يتنذرون بحكاياته , وبطولاته.. التي لا يمل , ولا يكل من ذكرها " لكل من هب ودب ".. ذات مرة سمعتهم يتذكرون واحدة من تلك البطولات , والتي مازالت تعيش في خياله ..
" يوم كان الانجليز يحتلون البلد .. ضرب عسكريا إنجليزيا ..عندما سمعه يسب أمامه الملك .. أخذه في إبطه .. ثم رفعه إلي لأعلى .. ثم أهدره في الأرض , وانهال عليه ضرباً باليمين .. حتى كاد أن يقضي عليه , لولا تدخل الهجانة " ....
وكنت أسمعهم وأنا سعيد وفخور به .... أذهب إليه من حين لآخر .. أجلس بجواره في صمت, وأدب, فأنا أحبه كثيراً, وأحب أن أراه , دائما كل يوم, أقضي له حاجاته, وألبي له كل ما يريد من طلبات .. أجلس بجواره , أصغي السمع .. وهو يتحدث لي وأنا أتفرسه في صمت , وهيبة , وفي حب, اقرأ ملامحه القمحية , فهو طويل القامة عريض المنكبين , دائماً يرتدي جلباباً بلدياً فضفاضاً , بني اللون , أو صافيه .. يتشح شالا رماديا , فوق رأسه عمامة مكورة , بيضاء , وطاقية صوف , شغلتها له "أم صباح " علي يدها , تلك المرأة التي تسكن بالحجرة المجاورة لحجرة زوجته الثانية .. أراه يستصعب .. يمصمص شفتيه .. وهو يقلب كفيه .. مترحماً على أيام زمان , ذلك الماضي الجميل .. وأيامه التي ولت .. ويتمني أن تعود .. ولكن هيهات , هيهات .. فالدنيا قد تغيرت من حوله.. والأيام قد دارت عليه وجارت فأصبح بعد أن كان تاجراً , ومعلماً كبيراً , وله سمعته في السوق , يبيع اللب , والفول السوداني أمام الجامع , في حين صبيانه الذين كانوا يعملون تحت يديه .. أصبحوا معلمين كبار .. يتنهد , يتأوه , يزفر , زفرة طويلة , حامية , وهو يتحدث لي بنبرات كلها حزن , وألم , وفقر متقع , عن تلك ألأيام , وعن الدنيا , وبلائها .. والزمن الصعب , ثم يشرد بذهنه هنيهة بعيداً, فلا أدعه يطيل التفكير, أفتعل السعال أكح , أتنحنح , أكلمه , أسأله , حتى ينتبه , يستأنف الحديث معي , عن الدنيا ألتي يشبهها دائماً " بالغازية " التي كان يشاهدها زمان في الموالد ...
وكان يحكي لي قصة تلك " البوتيكات " المرصوصة في ظهر المحطة , هو يشير إليها ببنانه .. ويحكي عن أصلها , يوم كان دريسة .. البنايات الشاهقة .. وموقف العربات .. والميدان .. وشارع المحطة , الذي لم يكن فيه غير جامع " ألشيخ عبد العال" والري القديم .. والمركز .. ثم يهمس:
ـــ "زمان ياولدي كانت الدنيا برخص التراب"..!!!
رجل أنيق .. بيده طفل صغير .. يقترب منه .. ليشتري نبق .. وفول سوداني لابنه.. يناوله كيساً كبيراً.. وهو يبتسم في وجه الصبي وأبيه ـــ هكذا هو يصنع في وجه من يشتري منه ــ يشكره الرجل .. وهو يعبر الطريق ..المزدحم بالمشاة , والعربات, وبنات المدارس بزيهم الأزرق ..أعطيه سيجارة , يشعلها, يأخذ منها نفساً طويلاً .. يحبسه في صدره , ثم يخرجه من انفه , وفمه , وهو ينادي بصوته الجهوري علي من يشتري :
ـــ الفول السوداني ..النبق الحلو.....
ألمحه يدس يده في جيبه .. فتخرج بقطع من الحلوى الجلاب.. وقنديل "مشوي".. وبعض النقود الزهيدة.. يدفعها في جيبي , وهو يبتسم , يدنو برأسه من أذني , ينصحني , ويوصيني أن أنتبه لدراستي , والمذاكرة , فهو لن يعيش لي قرناً , كما يقول لي دائماً .. تترقرق الدموع في عينيه الذابلة , فيجففها بطرف ردائه.. يحتقن صوته , يطرق هنيهة تفكير .. بعدها يربت علي كتفي .. ويهز رأسه .. ثم يدعو لي بطول العمر, والرزق, وأشياء أخرى كثيرة .. فهو يحبني كثيراً جداً, وأنا أحبه أيضاً علي الرغم أن معه ثلاثة أولاد غيري, لم يبخل علينا في يوم من الأيام, ولم يحرمنا من شيء .. يلبي كل طلباتنا .. وكان يرفض أن نعمل تحت يدي احد .. وكان يدللني كثيراً جداً .. فأنا أصغر أولاده ....
أذكر وأنا طفل صغير ... كان يجلسني بين يديه ... يقبلني بين عيني ... يضحك... وهو يطلب مني ... أن أتلو عليه ما حفظته في الكُتّاب , من القرآن , وكان يعطيني قطعة " بخمسة قروش " ويصطحبني معه.. ليشتري لي الحلوى .. أسمي الله , بعد ما أستعيذ من الشيطان الرجيم .. أقرأ " ألم نشرح لك صدرك"، أسمعه يقرأ معي بصوت منخفض , خافت .. فإذا أخطأت , صحح لي , وصوب الآيات , وهو يشدني من أذني , ويمرسها .. ثم يؤمن ويصدق , ثم يضمني بين ذراعيه يقبلني ثانيةً .. وهو هاش باش في وجهي , يلتفت لأمي , يوصيها بي خيراً , ويطلب منها أن تراضيني , وترضي عني , فترفض أمي ذلك .. وهي تقول في غضب ممزوج بالغبطة , والسعادة:
ـ دلعك ده هيضره ..
فيضحك .. وهو يضمني بين ذراعيه , ويقبلني , قائلاً لها
ــ خليه يدلع يومين قبل ما أموت ....
تضرب أمي علي صدرها بيدها , مندهشة , وتبادره بنبرات دافئة , مليئة بالحب .. والصدق :
ــ بعد الشر عنك , إن شاء الله عدوينك ...
تنتظره أمي أمام الدار , كل يوم حتى يعود , وتنشغل عليه , إذا تأخر عن موعده , وتقلق , فترسلني , أبحث عنه لنطمئن عليه , ألمحه من بعيد , علي أول الشارع .. يتعكز علي الحيطان .. يرجع بعدما يكون قد صلي العشاء جماعة , يمشي الهوينى , يتسند الجدران .. في الشارع الطويل...وفي يده كيس أسود به من فضل الله كثير .. تستقبله أمي , بابتسامتها المعهودة , الصافيه , الحانية , الجميلة , وقبل أن يتخطى عتبة الدار .. تبادره كالمعتاد :
ــ تأخرت ليه ..؟؟.
يجلس يئن .. يتأوه , يتألم .. وهو يشتكي لها من ظهره , وقدميه .. فتعيد أمي عليه سؤالها ...؟!.. وهي تعد له الطعام , فيجيب فضولها بصوت قوي , لم يشح بعد :
ــ كنت بلقط رزقي ... أين الولد ؟؟
ــ فوق بيذاكر ؟؟؟
ينادي علي .. أنزل مهرولاً ... أجلس أمامه كالمعتاد ... نتناول طعام العشاء ... يهمس في أذني مخبراً , أن شيخي " الشيخ أبو زيد" يسأل عني ... وأنه مبسوط مني جداً .. ويريد أن أجتهد في ختم القران , المذاكرة "..
بالأمس القريب عندما ــ ذهبت إليه ــ حين تأخر عن موعده .. بحثت عنه في كل مكان .. عند الجامع الكبير ... وموقف العربات ... فلم أجده ... فقد أصبح المكان خاوياً ... احتضنت " كرتونته " الورقية ... وعيوني تذرف الدمع ... وكأني به ينادي :
ــ الفول السوداني.... والنبق الحلو ......



على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

من دواعي سروري وبهجتي ان يحظى عملي باعجابك وبتعليقك الجميل استاذ / جعفر الديرى
كل الشكر لك علي هذا الثناء والحضور العطر .. مودتي
 
أعلى