عمر الصايم - قوس حب

عادوا بالنعش منكسا، ألقوه في ظل الجدار، بعد أن واروا حبيبي قبره، ونفضوا الأتربة عن ملابسهم النظيفة. وقف أبنائي الأربعة بصلابة يتقبلون العزاء. بناتي، وحفيداتي أحطن بي كسرب من العصافير المجنحة. هيأنني لمحبسي الذي سأغادره أسرع مما يتوقعن، ألبسنني ثوب الحداد الأبيض، ربطن على رأسي طرحة سوداء؛ لتحجب شيبي. ما تزال رائحة الحنوط تحلق في فراغ الغرفة التي غسلوا فيها حبيبي غسلة الوداع! بأنفي أتعمق في ذرات الروائح التي خالطت جسده، ثم طارت في الفضاء، أمتلئ بالرائحة؛ فترتسم ابتسامة على وجهي، شفتاي تنفرجان كسمكة قذف بها النهر. تبدأ الابتسامة كقوس من الطرف الأيسر لفمي، تعلو كلما اتجهت نحو الأيمن، يستقر طرف القوس عند غمازتي اليمنى. لا أحاول أن أفض شغب ابتسامتي في وسط المحزنة الراسخة. أتحسس الورقة التي حشرتها في صدري، وخبأتها عن العيون، يرتفع قوس الابتسامة، متحديا اندهاش الحضور.
المعزيات النائحات لا يعرفن هل يبادلنني النياح أم الابتسام. يجلسن قبالتي؛ ليتأملنني، يتغامزن حولي، ثم ينصرفن موسوسات. أرثى لهن (محرومات من ابتسامة كهذي)! أفسدت على بناتي لحظة الاستغراق في الحزن على أبيهن؛ كن مأخوذات بابتسامتي الفجائية. الكبرى خريجة علم النفس، توسوس لرفيقاتها عن حالتي النفسية، تؤكد أنني مصدومة، وأنني إذا لم أنفجر بالبكاء؛ فسأتأذى كثيرا. الصغرى ترى أنني ممسوسة بروح؛ لذا أخبرت إخوتها أن يذهبوا بي لأحد مشائخها.
لا أحد سيدرك كيف اختلط حزني بالسعادة؟ وكيف أنني أبصر دربا أخضر، تشع خضرته في سني عمري المهدرة! تركت الجميع في همساتهم، يرتشفون أكواب الشاي، يصدرون أصوات البكاء كلما قدم وافد بالعزاء. اختبأت في غرفتنا، أنا وحبيبي، انبطحت على السرير كشجرة هوت بها الريح. السقف يعشوشب خضرة، الجدران تزهر، والفراش دافئ. أعدت في رأسي ليلة أمس، ليلتي الأولى في الأبدية. لم يكن يشكو من شئ طوال الأيام الماضية، كان ممراحا وهو يسقي شجر الليمون. أشار لي بأن أخرج إلى جارتي عند المغيب؛ لأستأنس بها قليلا. عدت عند التاسعة، فوجدت فناء البيت مخضب بالمياه، أدركت أنه منشرح ويريد مساء بنكهة القهوة، ثمة كراسي ملقاة جوار الجدار، الأنوار مطفأة إلا من شمعات تتهادى بضوئها في الظلمة. احتضنني وأنا في الطريق إليه، وأجلسني في كرسي إلى جواره. يدسني الخجل بين طيات ثوبي؛ يضحك، يدغدغ خصري، ويقول:
-- بعد كل هذه السنوات يكسوك الخجل!
أجفل من لمسات يده، وأتوارى في صمتي. ينهض من مقعده، يقف بصعوبة، أنفاسه تعلو. يدخل يده في جيبه، ويخرج ورقة بيضاء غير مخططة. يفتحها بيديه المرتعشتين. أجلس في مقعدي واجمة، ملتصقة به كأول أيامي بالمدرسة.
ابتسم وهو يفضض ثنيات الورقة، تلك التي تسكن الآن تلافيف صدري المسن. سأفتحها هنا، أقوس يدي وأدخلها بين لحمي القديم. أفتح طياتها الأنيقة،؛ لأستعيد كلماته وهو واقف يقرأ: ( أعلن أنني أحببتك كثيرا، وكنت أجهل حبي لك! أربعون عاما كنت لا أتحسس هذا الحب، وأمضي في دروب أخرى. تزوجتك وأنت ذاهبة نحو مجد أنوثتك، شابة جميلة، وستنجب الأبناء الأقوياء، والبنات الجميلات الشفوقات، وكان هذا يكفي ليتزاحم الفرسان على أحصنتهم البيضاء نحوك. اجتهدت لأظفر بك، ونلتك بالرغم عنهم جميعا. للأسف كنت مهتما بنتيجة السباق لا بنوع الجائزة، فرحت بالزواج لا بك؛ لهذا سرعان ما سئمته، ومضت الأمور كما تعلمين.)
أطبقت الورقة، وتذكرت الأيام التي كنت أعد نفسي جسديا وروحيا لأكسب نظرة منه، أو كلمة ثناء، فإذا به يدقق النظر في طعامه واحتياجات أبنائه، كنت لحظتها أهفو إلى كلمة محفزة، وهو يبخل بها. فتحت الورقة؛ قفزت صورته وهو واقف يقرأ: (أعرف أنني أجحفت بقلبك كثيرا، تركتك ظمأى، وسحائبي تمطر البعيدات؛ قوة ما صاغتني هكذا في تلك الأيام، يملؤني احساس أنك باقية لي مهما فعلت، أنك مثل أمي، كلما أصابك سفهي؛ تمنيت لي الهداية، ربما أحببتك هكذا، أو أن حبي لك انطمر في طبقات الإلفة، تلك الطبقات التي لم نحاول اختراقها معا، وشغلتنا شراكتنا في تربية صغارنا أن نزاحم هذا العالم؛ لنوجد أرضا نثبت عليها بيرق أسرتنا الصغيرة.)
فتحت فمي؛ لأقاطعه وأقول أننى كنت حارة كاللهب، متوهجة كشمس الاستواء، ولكنك لم تر، كنت تهرب بسحائبك عن ضجيج الصغار و.... و.... أومأ لي بالسكوت. اعتدل بالورقة على ضوء الشمعة، عدل من وضع نظارته على أنفه، واستأنف حديثه: (سأقول الآن ما تفكرين به، نعم أنا كنت أصغر شغفا من قدرتك على العطاء، من طقسك الحار، من لهبك ووهج. كنت أتخبط في صراط المحبة؛ فتخطفني الحسان، ظللت أبحث عن الدهشة كطفل ملول يستبدل الألعاب والدمى، وكانت التماثيل تسرقني عنك، وتسقيني أشربة الحب الزائفة، اختمر بها حتى أوهم نفسي أننى أجدد دمائي؛ لأعود إليك رائق المزاج، وفي قلبي وخزة أنني أخونك، واستحل لنفسي ما لا أقبله منك أبدا؛ اغفري لي ح ب ي ب .. اغفري لأجل شيبي هنات العمر)
حينها بدأ الدمع ينهمر من عينيه، حتى لم يعد يرى الورقة. أصابتني رجفة، هزمتني قدماي في الوقوف؛ لأمسح عنه دمع المسنين! أخذها بأطراف جلبابه، ابتلع ريقه، وعاد ليقرأ:
(تأخرت في نضوجي؛ فوسعني صبرك، بعد كل تجاربي الفاشلة والصفيقة لم أخرج بشئ ثابت سوى حبك. ظل يكبر، ويمد جذوره في جسدي، وكنت خلال السنوات استسلم له بيقين مقدس. بعد أن فر الأولاد والبنات إلى عوالمهم، وبقينا وحدنا كشبحين في ظلام دامس؛ رأيت فيك كل ما خفي عني، وأيقظتني جذور حبك لأتنعم معك بشيخوختنا، رأيت زهور البيت التي غرستها يداك، الشتلات التي كبرت وأثمرت من سقياك، وغرفتنا التي ظلت محل عنايتك لعقود. رأيت ثياب عرسك لم تزل براقة، وتحتفظ بمذاق العطر نفسه. كم كانت الحياة هنا رحيبة، وأنا أهرب منها! ثم قررت أن أبوح لك بالحب، وأعلمك صخبه وبكاءه، وفشلت كما تعلمين؛ لأنني كلما حاولت؛ وجدت لساني معقودا، حلقي ممتلئا بتقاليد بالية وعطنة. اكتفيت بمغازلة شبه رسمية، وملاطفات طفولية. اعجبك هذا التحول، ولكنك لا تعلمين أنني كنت أتوق إلى تفجير بركاني الخامد، إلى لحظة تطاير الحمم المطمورة، ويبدو أنها أزفت الآن يا حبيبتي.....)
صعقتني الكلمة؛ أنا بعد كل هذا العمر، أسمعها! كم انتظرتها في ليال مقمرة، آه لي! رفع حاجبيه، تنفس بعمق، وقال:
(حبيبتي! اليوم ذكرى زواجنا، خمسون عاما مرت من هنا. الآن لا صغار لنا لنتعاون في تربيتهم، لا خطط لنزاحم العالم بها، ولا كثير أيام متبقية؛ لنحلم ونغامر بها. فقط أنا وأنت، ولا شئ أجمل من أن أفجر بركاني وأقولها لك.. أحبك.. أحبك!)
كنت عالقة في مزيج الحزن والسعادة، مخدرة بكلمة الحب. غمرتني صبوة، أحسست أني عصفورة تخرج من بيضة في عش وثير. كان هو يرتجف بشدة، أطبق الورقة في كفه، نظر إلي في صمت، ثم سقط على الأرض. هرولت نحوه، لملمت أطرافه، وضممته إلى صدري، شهق كأن صدره سيحلق، ثم مات. أذكر أنني صرخت، ولا أعرف كيف مضت أحوالنا فيما بعد. هل مات لحظتها في حضني؟ أم حملوه إلى المستشفى، وظل يتعذب هنالك لأيام؟ لا أذكر شيئا البتة، ولا أحاول أن أتذكر!
أطبقت الورقة، تأتيني همسات النسوة حول ابتسامتي، قوس حب ارتسم على وجهي، سأنام به، وأنا أحضن وريقتي، أفكر في حبيبي، سأحلم به حتما، لن يتركني بعد أن رسم لي بسمة الحب، سيحملني إليه لنرتاح معا..ها هو قوس ابتسامتي يمتد نحوك، هذ النعاس يحملني إليك؛ فتعال.. تعا..!

تعليقات

ص
(تأخرت في نضوجي؛ فوسعني صبرك، بعد كل تجاربي الفاشلة والصفيقة لم أخرج بشئ ثابت سوى حبك. ظل يكبر، ويمد جذوره في جسدي، وكنت خلال السنوات استسلم له بيقين مقدس. بعد أن فر الأولاد والبنات إلى عوالمهم، وبقينا وحدنا كشبحين في ظلام دامس؛
 
أعلى