مصطفى معروفي - قصيدة النثر الحاملة للشعر نادرة جدا جدا

أعتقد جازما أن ليس كل كلام موزون مقفى هو شعر حتى ولو دل على معنى، فمن أبرز خصائص الشعر التصوير الذي يلعب فيه الخيال دورا رائدا لا يخفى، كما أعتقد أن العروض لا يجعل من المرء شاعرا، فالقصيدة إن لم تتوفر على المواصفات التي تجعل من الكلام شعرا فهي تكون نظما في أحسن الأحوال ، ولا صلة لها بالشعر إطلاقا، وإلا لاعتبرنا ابن مالك وابن الجزري - الأول في النحو والثاني في علم التجويد - شاعرين كبيرين ، وهما لا علاقة لهما بالشعر في منظومتيهما لا من قريب ولا من بعيد. وكما نعلم فهناك آيات في القرآن الكريم جاءت موزونة عروضيا ، ولا يمكن أن نقول عنها بأنها شعر أبدا،كهذه الآية الكريمة: [إنا أعطيناك الكوثر] - بحر المتدارك - ، وهذه الآية الكريمة : [لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون].- بحر الرمل.
.بل إنني أزعم أن المرء قد يكون شاعرا في غياب العروض كما نرى في القصائد النثرية لمحمد الماغوط وأنسي الحاج مثلا. فالشعر تصوير وإيحاء وتلميح وتكثيف حتى تأتي الصورة الشعرية على أحسن وجه. ’ وكثير من الكلام الموزون لا نجد فيه هذه المواصفات، فهو ليس شعرا حتى وإن زعم أصحابه أنه شعر.
إذا، فالكلام قد يكون شعرا حتى وإن خلا من الوزن، ويكون كلاما تقريريا لا صلة له بالشعر حتى ولو كان موزونا ومقفى.وقد يكون مقال صحفي أو صورة فوتوغرافية أفضل بكثير من قصيدة تتحدث لنا عن واقع كما هو مشاهد بالعين وتستشعره الحواس ، إذ أن القارئ يعرف الواقع ويدركه ولكنه يريد أن يسمو بمعرفته تلك إلى الإدراك الجمالي للأشياء. وهو أمر لا يتحقق إلا في القصيدة المتوفرة على مقومات الشعر وخصوصياته.
ليس لي أي موقف من قصيدة النثر ، فهذه القصيدة هي أول ماكتبت في مسيرتي الشعرية، وقد نشرتها في منابر ثقافية متعددة ، صحف ومجلات ، وسرت فيها شوطا لا بأس به ، ثم بدا لي أن الحابل اختلط بالنابل فيها ، وأن كل من استطاع أن يفك رموز الأبجدية بإمكانه الدخول إليها دون مراعاة لما يتطلبه الشعر من عناصر أساسية لوجوده ، فاتجهت إلى القصيدة الموزونة ، مع العلم أنني درست العروض قبل أن أكتب قصيدة النثر نفسها.
إن قصيدة النثر في نظري أصعب من القصيدة الموزونة - الشعر صعب كان قصيدة موزونة أم قصيدة نثرية - لأن ما ينقصها من موسيقى خارجية ينبغي أن يعوض عنه بعناصر أخرى كالإيقاع في المعنى والموسيقى الداخلية المتمثلة في تركيب الحروف داخل الكلمة ، والكلمة داخل الجملة. وبطبيعة الحال فهذا العمل يتطلب مهارة من صاحبه ، إذ المقصود في الشعر ليس هو تبليغ المعنى والمضمون للقارئ فقط ، بل الشكل الذي حمل فيه المعنى أيضا.فكم من بيت أو قصيدة أعجبنا بها لا لما قالته بل للكيفية التي قالت بها.
حقيقة أنني أجد أحيانا في قصيدة النثر من الشاعرية والشعر ما لا أجده في القصيدة الموزونة ، وللأسف فالقصيدة النثرية الحاملة للشعر نادرة جدا جدا.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

الاستاذ الرائع السي المصطفى معروفي
تحية المحبة والتقدير

قرأت بتمعن مقالك الشائق الطي كان منصفا في مجمل القول .. بل ولا يغلب لونا ادبيا على لون .. وانتصر لقصيدة النثر كما انصف القصيدة العمودية بدون شطط او نعصب في الرأي.
صحيح أن النظم هو مهارة وموهبة ودربة .. وقد قرأت العديد من المقالات التي تدور حول قصيدة النثر .. لا من خلال ما كتب حولها في الادب الفرنسي او النقاشات حولها في الأدب العربي خاصة..
نعم كتب حولها الكثر واثيرت العديد من النقاشات بين مؤيد ورافض لهذا اللون الادبي

لكن نتساءل كما تساءلت انت
هل كل ما كتب في باب قصيدة النثر صائب؟ وان كل ما كتب في قصيدة التفعيلة شعر
فقصيدة النثر تعتمد الفقرة الشعرية .. والتكثيف الدلالي ، والموسيقى ، ةالثقافة العالية ، وهي أصعب بكثير من القصيدة الموزونة التي يضع لها البعض ( كروكي) كأن يختار القوافي ثم يطفقون في نسج الكلام..

ولا بد الاشارة الى قصائد عبدالقاادر الجنابي وانسي الحاج وادونيس وصلاح فائق وجان دمو عقيل علي وعبدالرحمن طهمازي وكزار حنتوش وغيرهم وغيرهم .. هذا ما الجيل الاول ، ويليهم جيل الشباب
في القصيدة المغربية استطيع ان اجزم ان من كثبوا فصيدة النثر في احسن حالاتها لا يكاد يتعدى اصابع اليد أشهرهم محمد بنيس ، مبارك وساط ، وجلال الحكماوي ، ووفاء العمراني ، محمد السرغيني

محبات
 
أخي الأستاذ الجميل نقوس المهدي،
أسعدني تعقيبك المفيد و أقول:
قصيدة النثر رغم أنها حديثة جدا أراها و كأنها متعبة من ثقل الزمن ،فلا جديد في مضومنها و لا في شكلها أيضا.و الغريب العجيب فيها أن من يكتبها اليوم يدعي غدا و في واضحة النهار أنه شاعر.
في تعقيبك الجميل فوجئت بكون السرغيني يكتب قصيدة النثر،لأنه على حد علمي يكتب القصيدة التفعيلية ،و هو في بعض الأحيان يكتبها على شكل نص يوهم مظهره بأنه نص نثري ،و بنيس يزاوج بين العمودي و التفعيلي أما وساط و الحكماوي و العمراني فهم نثريون بامتياز.
عبد ربه هذا كان يراهن في قصيدة النثر في المغرب على الشاعرأحمد بركات الذي وافته المنية في عمر الزهور و هو صاحب ديوان"أبدا لن اساعد الزلزال" و ديوان"دفاتر الخسران".هذا الشاعر الجميل كان سيذهب بقصيدة النثر بعيدا لو كان العمر أسعفه ببقية فيه،و ما كان يعجبني فيه شخصيا هو اهتمامه بالتفاصيل و إحداث الدهشة من خلال تشريحه ـ إن جاز التعبير ـ للمألوف.
أخي السي المهدي:
أريد أن أسألك سؤالا ربما سيبدو لك غريبا ، لكن و على أية حال ستشفع لي في طرحه براءتي و يرخص لي حبي للمعرفة:
ـ هل تعرف شخصا ـ واحدا على الأقل ـ يحفظ قصيدة نثر واحدة؟
التحيات الزكيات مولانا.
 
اهلا السي مصطفى

شكرا لك على تعقيبك الجميل .. الذي يجرنا الى قصيدة النثر .. والتي لا يمكن بحدسي المتواضع ان نكتب بدونها النصوص السوريالية والتجريدية .. فقصيدة النثر تفسح لك مجالا ارحب للتعبير ، واظهار المهارات الفنية واللغوية والاسلوبية .. هناك اسماء عديدة من كتاب قصيدة النثر بالعالم العربي .. واتذكر الشاعر جان دمو الذي كان يحفظ نصوصه عن ظهر قلب ولم يكن يكتبها .. واغلب نصوصه في ديوانه اسمال جمعت من اصدقائه .. وكتب بعضها لقاء وجبة غذاء

يحيى الطاهر عبد الله شاعر القصة القصيرة كان يحفظ قصصه .. وهو الوحيد الذي كتب في مهنته كاتب قصة


كل الود
 
تحية لك السي المهدي،
ذكرتني بالسي أحمد بركات فهو كان يحفظ نصوصه عن ظهر قلب ،و لكن لا أتذكر أحدا كان يحفظ نصوصه ،و خاصة أنني كنت أجالسه و أجالس أصدقاءه في مقاهي الدار البيضاء.
على العكس من قصيدة النثر نجد قصيدة التفعيلة و القصيدة العمودية تحظيان بالحفظ و الترديد من القراء و المهتمين،و هو ما يشي في نظري بوجود جاذب في هاتين القصيدتين يجعلهما موضع احتفاء و حفظ بينما تفتقر قصيدة النثر إلى هذا الجاذب،و الله أعلم.
دامت لك المسرات مولانا.
 
وافر الود والشكر للكاتب القدير الأستاذمصطفى معروفي، وللقدير الأستاذ نقوس المهدي ولحوارهما الشيق.
وبوحيٍ من حروفكما وبما أفدته من نقاشكما، أتساءل لماذا نشترط إمكانية حفظ قصيدة النثر لنقرَّ لها بالتميز أو لنمنحها الإعتراف؟!
أليس هناك من لا يحفظ أي نص من الكتب المقدسة؟! ومع ذلك لايعني هذا أنها ليست ذات قيمة!، ثم ألا يبدو إن الحفظ أمر ٌآخر يتعلّق بذات المتلقي وقدراته وعاداته ومهاراته ، ولا علاقة له بجودة أو رداءة ما تلقّاه.
ثم إلى أي حد يمكننا أن نرى أن الحديث عن الحفظ من عدمه أمرٌ موضوعي في معاينة قصيدة النثر ومقاربتها جمالياً ودلالياً ؟
ثم ألا يكون من تقييد الإبداع سواءٌ كان كتابةً أو رسماً أو غناءً ...إلخ، أن نرهنه لتواضعات سابقة على لحظة إنجازه، مهما كانت الفروق بين الإنفلات والتفلّت؟! ومهما أردنا بالإنقياد لتلك التواضعات تحقيق مستوى من الإنضباط والتقنين،وتحقيق التمايز بين المواهب والمَلَكات؟!
وبعيداً عن أحكام القيمة وثنائية الصواب والخطأ، قبل هذا وذاك لماذا علينا أن نعنى بتجنيس ما يُكتب ولماذا لا نكتفي بالبحث عما يدهشنا بغض النظر عن إطاره أو جنسه أو نوعه أونمطه أو شكله، وما تحتمه مثل هذه التصنيفات من تهيئة أفق التلقي للقبول أو الرفض.

محبةً وتقديراً دائمين لحروفكما المضيئة
 
تحية لك أستاذنا المحترم محد فائد البكري،
أشكرك على ردك الهادئ المتزن الذي يروم الاستفادة و الإفادة معا و قد أعجبتني تساؤلاتك فيه لوجاهتها و عمقها،و أقول:
لا أحد حسب علمي اشترط الحفظ للنص كي يكون هذا النص متميزا و يحظى بالاعتراف ،فكثير من النصوص حظيت بالحفظ الواسع عن ظهر قلب و مع ذلك هي ليست من الشعر في شيء (المنظومات النحوية و الفقهية مثلا)إلا أن الحفظ دليل على أن النص له جاذبية و عامل إغراء ،فلو أخذنا القصيدة العمودية و قصيدة التفعيلة لألفينا لهما القدح المعلى في هذا ~ الخفظ عن ظهر قلب ~ بينما النثيرة أو قصيدة النثر لا.أنا هنا لا أتكلم عن كاتبها ،فالسي أحمد بركات رأيته و سمعته بأذني كيف يردد قصائده عن ظهر قلب بشكل عجيب جدا .ثم إنني سائلك أخي الاستاذ محمد :لماذا لا يحفظ الناس قصيدة النثر مع أنهم يحفظون العمودية و التفعيلية؟أليس في هذا مؤشر ما؟
لماذا؟كثير من الناس يحفظون نصوص الكتب المقدسة ،الواقع يشهد بهذا و لسنا في حاجة إلى دليل.
مرة أخرى أقول بأن الحفظ عن ظهر قلب ليس معيارا لجودة النص أو لقيمته لكنه بكل تأكيد دليل على أن شيئا جاذبا يوجد فيه.
أعجبني جدا ما جاء في آخر تعقيبك ،و لو أن النثريين كانوا يأخذون به لكفى الله المومنين القتال ،و لكنهم يتمحلون السبل ليثبتوا أنهم يقرضون الشعر في حين أنهم له ليسوا بقارضين.
التحيات الطيبات لك مولانا.
 
أعلى