ميخائيل سعد - البطل الشعبي..

في سنوات الجمر، أي في بداية الثمانينيات، جاء أحد المسنين الحلبيين الميسورين لزيارة ابنه في بيروت، ولما كنت أعرف الابن، الذي لم يكن يستطيع الذهاب إلى سورية لأنه مطلوب أمنيًا “لتعاطفه” مع الحزب الشيوعي (رياض الترك)، فقد أُتيحت لي الفرصة للجلوس مع العجوز أكثر من مرة، في مقاهي “الروشة”، حيث يدخن أركيلته، ويتحدث هامسًا، ناظرًا إلى اليمن واليسار، عمّا كان يجري في سورية، وما كان يصل إلى مسامعه من قصص وأخبار عن القتال بين سلطة حافظ الأسد والطليعة المقاتلة، وكانت حلب ساحة رئيسية من ساحات القتال تلك. في إحدى المرات، أثناء حديثه، استقام ظهره ولمعت عيناه، وهو يروي كيف أن المخابرات كانت تلاحق أحد المطلوبين من “الطليعة”، وحاصرته في زقاق شعبي ضيق، وعندما اقتربت دورية الأمن منه، التفت باحثًا عن منفذٍ، فلم يجد أمامه إلا فرن الحيّ فدخله، ولما لم يكن هناك مكان للهرب من رجال الأمن إلا “بيت النار” ألقى نفسه فيه، ووقف رجال الأمن ينظرون مندهشين وشامتين بهذا الإرهابي المعادي للنظام “التقدمي”، وهو يحترق.
كان الرجل المسن، الذي لم يكن معجبًا بالطليعة المقاتلة، يتابع بحماس رواية تفاصيل القصة التي وصلته عن هذا البطل الذي فضل الموت حرقًا على الاستسلام والاعتراف بأسماء أصدقائه المجاهدين، قائلا حرفيًا: “لقد شخ على عنتر” في شجاعته. كان يعرف أنه لن يستطيع المقاومة، وأنه في النهاية سيقول كل ما يعرفه عن التنظيم، لذلك فضّل الموت على الذل والخيانة.
رويتُ هذه القصة عشرات المرات، ووجدت نفسي معجبًا بهذه الشخصية الأسطورية في سلوكها، على الرغم من انتمائها الديني والأيديولوجي، فقد استطاع، بتضحيته بنفسه، العبور فوق الأيديولوجيات والأديان، ليقدم لنا نموذجًا عن البطل الشعبي الذي يضحي بحياته من أجل الجماعة وقيمها الإيجابية، سواء كانت هذه الجماعة سياسية أو دينية أو قومية، مستعيدين عبره سيرة الأبطال الشعبيين الذين نعرفهم على ألسنة “الحكواتية”.
كان أغلب من رويت لهم موقفي الإيجابي من ذلك البطل، يخافون أو يلومونني لأنه مسلم، بل مسلم متعصب، ويستغربون تعاطفي معه. كان رأيي -ولا يزال- أن هذا النموذج من البشر لا ينطبق عليه التوصيف الديني، على الرغم من أهمية الدين في حياتنا، لأنه عابر للأديان والطوائف، إنه شوق الشعب للتحرر من العبودية والخنوع، ورغبته في امتلاك مصيره. هذا هو بعض المعنى الذي جعلني أدافع عن ذلك البطل وتضحيته بنفسه، ولم يكن يعنيني إلى أي دين ينتمي.
عبد الباسط الساروت هو نموذج معاصر لذلك البطل، بل إنه فاقه في التضحية، فالأول لم يكن أمامه إلا الفرن وناره، ولكن الساروت كان يمتلك خيارات متعددة إلا أنه أختار الاستمرار في ثورته ودفع ثمن ذلك روحه، مع إدراكه أنه سيصل إلى هذه النتيجة، وهذا ما يجعله متفوقًا، فالسنوات علمته أن نظام الأسد لن يغفر لأي سوري ثار ضده، وقد عرف ذلك من تجارب من سبقه من أبطال الثورة السورية، مثل الشهيد يوسف الجادر “ أبو فرات”، والشهيد باسل شحادة، والشهيد عبد القادر الصالح، المعروف بـ “ حجي مارع”، والشهيد المقدم حسين الهرموش، وعشرات بل مئات الشهداء الآخرين. إن أمثال هؤلاء هم من جعلوا الثورة تستمر، لأنهم لم يكونوا يبحثون عن مكاسب مادية أو معنوية، وإنما كانوا يبحثون عن الحرية، لهم ولشعبهم، التي حرمهم منها نظام الأسدين.
في قادم الأيام، سيروي السوريون لأولادهم وأحفادهم سيرةَ البطل السوري عبد الباسط الساروت ورفاقه، من المهد الى اللحد، كي يكون منارتهم عندما تشتد الظلمات ويريدون العودة إلى منازلهم. وستنتظر أرواح رواد المقاهي السورية عودةَ البطل الشعبي عبد الباسط إلى الحكاية، في كل مرة يتوقف فيها الحكواتي عن الحكي.
  • Like
التفاعلات: ليلى منير أورفه لي

تعليقات

القصة بحد ذاتها جميلة كأسلوب حكاية شعبية لكن في الأدب لا يكفي أن يكون الكاتب مجرد حكواتي بالمعنى الجميل للكلمة فرسالة الأدب الانتصار للحق والخير والجمال كما ليس مطلوباً من الأديب أن يكون مع جهة ضد جهة أخرى في الثمانينات كان هؤلاء المسلمون سفلة وليسوا ثواراً كما هم من تسميهم ثواراً الآن فزملائي " الثوار حسب رأيك" في كلية الاقتصاد فجروا القاعة التي كانوا يدرسون فيها وجرحت أنا بشظايا البلوروكانت الكلية في سيف الدولة . إن كنت ضد نظام الأسدين فهذا شأنك ولكن أن تسمي من فجروا الكنائس وقصفوا بيوتنا في عيد الفصح ودمروها بالصواريخ ثوراً فأنت واهم مهما كنت علمانياً وتحررياً وثورجياً.
 
القصة بحد ذاتها جميلة كأسلوب حكاية شعبية لكن في الأدب لا يكفي أن يكون الكاتب مجرد حكواتي بالمعنى الجميل للكلمة فرسالة الأدب الانتصار للحق والخير والجمال كما ليس مطلوباً من الأديب أن يكون مع جهة ضد جهة أخرى في الثمانينات كان هؤلاء المسلمون سفلة وليسوا ثواراً كما هم من تسميهم ثواراً الآن فزملائي " الثوار حسب رأيك" في كلية الاقتصاد فجروا القاعة التي كانوا يدرسون فيها وجرحت أنا بشظايا البلوروكانت الكلية في سيف الدولة . إن كنت ضد نظام الأسدين فهذا شأنك ولكن أن تسمي من فجروا الكنائس وقصفوا بيوتنا في عيد الفصح ودمروها بالصواريخ ثوراً فأنت واهم مهما كنت علمانياً وتحررياً وثورجياً.
شكرا سيدة ليلى على ملاحظاتك الهامة، علما أنني لم أنو كتابة قصة، إنما هو مقال في الشأن السوري الآن، تحياتي.
 
أعلى