حسن عبدالرزاق العابد - اختيار الممثل بين معطيات النص و رؤى الاخراج

الملاحظ في التجارب العالمية، أن اختيار المخرج للممثل يستند على التخيل الافتراضي للنص ، او الاختبار بالتجريب المادي الذي يتولد على وفق الرؤى والقراءات المتنوعة للمخرج وخلفيته الثقافية والاجتماعية والسياسية والفكرية ، وهذه العملية تعد بمثابة معادلة رياضية تُحل للكشف و البرهنة على فرضيات و أفكار المؤلف في بعض الاحيان ، واحيانا اخرى لفعل العرض ؛ وعلى هذا فالعرض يتخذ أشكالاً متعددة , أما ان يمتثل العرض لإرشادات المؤلف بخط مستقيم واحد ، او يتقاطع معه، او تحميل لرؤى دلالية بشكل متوازي . إن هذه التعددية تؤثر في خيارات المخرج ، فهي إما أن تجعل اختيار الممثل مستوحى من النص باستخدام الفرضية الشعورية واخضاعه في تجربة الشخصية (النص) اندماجاً , او ينطلق الاختيار من وحي افكار المخرج لينتج صيغ فنية مختلفة , او يترك العنان للممثل و الشخصية كي يبرهنا لنا من منهما يختار الاخر.
فلو احلنا قضية اختيار الممثل الى تراجح كفة السطوة بين من يموت او يحيى في العرض المسرحي : فمرةً تكون الغلبة للمؤلف ومرةً تكون للمخرج , ولكن الحقيقة تكمن في انه ( لن يقوم العرض وسيتلاشى المسرح بغياب الممثل , و هي حقيقة . فالحياة اذن تفارق المسرح عندما يفارقها الممثل . يموت المسرح بموت الممثل , ولو تهيأت كل مكونات العرض لن تكون مسرحية في حالة غياب الممثل ) ( ) . وانما تميل كفة ميزان معايير اختيار الممثل باتجاه السطوة على العرض دائما, نتيجة التحول في النظام الاجتماعي او الفلسفي او الايدلوجي السائد في العصر الذي تقدم فيه العروض المسرحية , ويؤكد ( ارنست فيشر ) على ان الفن لازم وضرورة للإنسان كي يفهم عالمه ويغيره , لان الفنان يعبر عن تصوره للعالم , كما يعبر عن قدرة الانسان المطلقة في التغيير , ولان التغيير لا يقوم به فرد بل تقوم به جماعة , ولا يتحقق هدفهم الا من خلال ذوبان عالم ( الانا ) بعالم ( النحن ) أي ان يفكر الفرد بعقل الجماعة ( ) , فالفن والفنان يتأثران بهذه التحولات لذا فمن الضروري ان تتأثر معايير اختيار الادوات الانتاجية للفن – الممثل اداة انتاجية للفن المسرحي - نتيجة لتطور تلك الادوات من مرحلة فكرية الى اخرى ومن فكر الى اخر, اما عن طريق التحكم بالإنتاج والانتاجية او عن طريق نشر النظام الجديد ورغبتهما بسيادته , فقد ادت الرأسمالية و تابعتها العولمة الى تفكيك العالم القديم وحطمت العلاقة المباشرة بين المنتج والمستهلك , أي قطع العلاقات الانسانية المباشرة , مما ادى الى ان يصبح الفن سلعة والفنان منتجا للسلع , وقد اصبح الفنان فنانا منعزل عن الجماهير, واصبح الفن مهنة نصف رومانسية ونصف تجارية تحيط بها الشكوك والظلال , مما ادى للمنافسة من اجل الانتاج التراكمي بعيدا عن النوعية والنموذج , وبالتالي يسقط الفن في القوانين العامة للإنتاج الرأسمالي والعولمي باعتبارها قوانين خارجية الزامية ( ), وبالنتيجة يكون اختيار الفنان الممثل خاضعا لمعايير الانتاج وتطوره مع تطور الحياة المادية التي تحيط بالمجتمع وبثقافته : فالناس من اجل ان يعيشوا ينبغي ان ينتجوا الخيرات المادية , ليس بنفس المقاييس السابقة بل بمقاييس اعظم , وهذا ما يفسر : ان عدد الناس على كوكبنا يتعاظم باستمرار وحاجاتهم تتنامى وتكثر كذلك , والفن هو واحد من تلك الحاجات الضرورية التي تتأثر بمقاييس متغيرة ( ) , التي تتطور وتتنامى باستمرار , لذلك فان سبل تطوير الانتاج الفني ينبغي ان تبدأ من هذه النظرة ( حاجه ضرورية ) , لهذا فان عمل المخرج في اختيار الممثل يبدأ من النظر في تطور الحياة الانتاجية والمادية في المجتمع و كذلك النظر في حاجات المجتمع على جميع المستويات : الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية والثقافية, انطلاقاً من العلاقات التأسيسية في اختيار الممثل سواء كان في ارشادات النص او في رؤى الاخراج .
و من ملاحظة التطور الانتاجي ( الجمالي ) في تنوع أساليب المخرجين، فأحياناً يتبع (مخرج ما) أنساقاً تربوية لتطوير مهارات الممثل وكفاءته السيكولوجية والفيزيقية والذوقية ، وربّ مخرج اخر يتوقف دوره عند مهامه الإخراجية فحسب ، كذلك قد يحضّر مخرج ثالث تسجيلاً كاملاً لكل التفاصيل العملية الاخراجية (دفتر الإخراج) فيما يتعلّق بـ(الرؤى) ، وما تتعلق بـ(الممثل، الديكورات، الأزياء...)، ولا تترك الأمور بيد الممثل وهو ( من يهب الحياة لمكونات العرض لوحده )، بل يتم توجيهه على وفق سياقات المخرج وخططه المعدة سلفاً، وبحسب النظرية الاجتماعية الماركسية , فان توزيع العمل الذي يجعل الانسان احادي الجانب : يجعل الانسان والمجتمع ضدان . وانطلاقاً من مفهوم الضدين هذا ينبثق الصراع بين الافكار المطروحة ( فكرة المسرحية – عند المؤلف ) وبين افكار المخرج المطروحة لدى المتفرجين. ويخضع اختيار الممثلين في أغلب الأحيان لتطابقات جسدية ونفسية مع النص، وإن عملية تحليل الشخصيات تخضع لاستكشافات عقلية (جلسات الطاولة) واستكشافات (فعلية- تطبيقية) تتلاءم مع البنية الشعورية والجسدية للممثل، وهنا لا تتشكّل هيئة الدور بمعزل عن طبيعة الشخصية المكتوبة، وفعل التعبير الخارجي يكتسب الإقناع بفكرة المشهد، وأن الممثل هو الشخصية عينها، او يكون الهدف تحقيق الوضعية المؤثرة ذات الطابع الجمالي التي تتضمن بعداً فلسفياً بحسب ( ستانسلافسكي )( ).إن أفكار الشخصية المكتوبة تملي أفعالاً على الممثل تقرّبه من الدور والشعور به، لأنها نابعة من رغبة وشعور وإحساس انساني من لدن المؤلف . ومثل هذه المعالجات تتطلب نوعاً من التعاون الفكري والانسجام الفني والجمالي وإطلاق روح المبادرة للمثل لاختيار الأداء المناسب في العرض المسرحي، ومهمة المخرج هنا هي : الإشراف والتصحيح والمساعدة , وهذا ما قصده البحث في ما يدور من علاقة التعارف بين الممثل والشخصية و من منهما يختار الاخر .
وإن تقاطعت مهمة الاخراج مع النص المكتوب لخضع الاختيار الى رؤى وفلسفة خاصة بالمخرج ، فالبعض ينظر الى التمثيل بوصفه ظاهرة سمعية- بصرية، في حين يرى آخرون أنه ظاهرة بصرية ذات علائق تشكيلية أكثر مما هي سمعية، وعلى وفق هذا السياق ، فإن الممثل قد ينساق وراء تجربة المخرج ، او يفرض وجوده بوصفه مبدعاً على جميع العناصر الفنية والمكونات الجمالية، او إنه يمتزج مع مكونات العرض في وحدة تركيبية جمالية، فالكثير من المخرجين في اختياراتهم ينظرون الى الممثل بوصفه كائناً عضوياً له تجربته الشخصية، يَفيض بالطاقة الصوتية والجسدية و الحسية ، ويعد عمله عودة الى الأصول الفكرية التلقائية المخبئة في لا وعي الممثل ، بحيث تكون استجاباته متغيرةً تنسجم مع الحالات المختلفة ومع التنوّع المكاني والفضاء ومكوناته بما في ذلك المشاركين, حيث يتفق كل من ( جان لوي باروه ) و ( موريس بيجار ) في الاعمال التي تجمع بين الدراما والرقص , حيث يتصوران ان الممثل صاحب القدرة على غيره من الادوات الاخراجية في العملية المسرحية , والذي يحقق التوازن والتوائم بين عناصر العرض , والممثل هو الذي يعطي معناً لكلمة ( اتحاد ) والتي يقصد بها التالف بين الممثل والمتفرج , من خلال الانسجام الداخلي للقلب والجسم والراس والعضلات والاطراف بعيدا عن النص المكتوب الى حياة حقيقية قادرة على الامتزاج مع الحياة ( ). ويقصد بالحياة الحقيقية هنا هي الحياة المسرحية على الخشبة , الا ان ( باروه وبيجار ) جعلا من الممثلين ومن خلال الاداء بمصاحبة الموسيقى : تارةً امواج وتارةً رياح , ومرةً هم ظلال , ومرةً هم الحياة والممات : أي ان الممثلين قد اصبحوا هم الشخصيات وهم الادوات والمكملات المسرحية على حد سواء, وهنا يكون اختيارهم للممثل الاقدر على التكيف والتحول والاقناع بانهم هم ادوات العرض والمكملات بأجسادهم واصواتهم واحساسهم.
ان الانتقالات المتعددة والوفيرة في حالات الممثل ادت الى الاعتقاد بان اختيار الممثل يقع ضمن معايير اختيار ( الة - ماكنة ), تستطيع التأثير في المتفرجين كل الاثر الذي ينفعهم , وسرعان ما يبقى الاثر وينسى المؤثر , ان اختيار الممثل لا ينبغي ان يبنى على اساس انه الاداة التي تتخذ للتعبير عن اراء الاخرين , وانه هو الذي يشيع الحياة في كلمات المؤلف ورؤى المخرج الميتة , بل هو ليس كائن مستعبد بل خليق بان يكون عبدا لعقلة ( ), والا ستضيع القيمة الانسانية للممثل الفنان , الا ان الفنان اعلى قيمة في سموه من الانسان , وهنا يبرز معيار اخر في اختيار الممثل على انه الشخص القدير على ان يعطي عناصر الاخراج الميتة و ادوات الاخراج الجامدة و الخطاب المسرحي الميت: حياة .
وبحسب (برشت) ودعوته الى الثورة وقلب النظام الاجتماعي القاسي , فهو لم يكن يهتم بتجسيد القوى الثورية التي تبعث التفاؤل , كما لم يؤمن بمبدأ التعبيريين عن ان الانسان هو الخير كله , بل وقف على اعتاب النقد الفاضح والمباشر والصريح , وذلك لاعتناقه الماركسية , فوضع مجموعة من المسرحيات التعليمية لتوضح مبادئ وقوانين فائض القيمة , والوعي كانعكاس للوضع الاجتماعي , والعمل كمصدر لكل قيمة مادية , والفعل او التطبيق كمعيار لكل فكر , والفلسفة العلمية كمنهج لكل عمل ثوري ( ) , نفهم من هذا ان (برشت) كمخرج ومؤلف وهب الممثل حرية اتخاذ موقفا (على وفق مبادئ الممثل ) من انعكاسات الوضع الاجتماعي والفكري والفلسفي والسياسي الذي يحيط به , أي ان ( برشت ) يضع معايير الانسان الثوري الحي في اختياره للمثل , وهنا نفهم كيف يكون الممثل هو الذي اختار الشخصية في الدور.
اما تجربة المخرج ( بيتر بروك ) في مسرحية (اورجاست ) , لم يكن هناك نص مكتوب بل هناك لغة بشرية اشارية عالمية تعبر عن مكنونات النفس : من الاصوات والنداءات والموسيقى التي لا تشكل صعوبة في فهمها من قبل اناس من جنسيات مختلفة , لذلك فقد اختار مجموعة (25 ممثل) من عشرة من دول العالم : من إنجلترا والولايات المتحدة واليابان وفرنسا والبرتغال ومالي والكاميرون ورومانيا و سويسرا وايران ( ) , ومن الواضح ان في اختياره لهذا الجمع من الممثلين وعدم التزامه في العرض بنص مكتوب , لإشارة واضحة في مشروعية الوجود الحقيقي للممثل الانسان وفضله في التوصيل الحسي والفكري والجسدي للمعاني الانسانية السامية المستوحاة من أنثروبولوجيا الشعوب والاساطير القديمة , فاصبح اختيار الممثل تأويلاً ايحائياً.
ومن تجربة ( بيتر بروك ) نكتشف ان اختيار الممثل هو ابداع , وخلق الشخصية من الممثل في الدور لهو ابداع اخر , أي ان اختيار الشخصية للممثل من قبل المؤلف او المخرج عملا جماليا ابداعيا يختلف عن اختيار الممثل للدور , شيء اشبه باعتلاء الفارس لصهوة جواد جامح , فيتمثل فن الممثل لاختياره لدور ما عبر موهبته و قوته وقدرته على ان يحقق هدفه بصورة دقيقة وهو الاقتراب من تلك الشخصية في الدور, مما يتفق مع الناقد ( بليسنكي ) في اختيار الممثل للدور (وهو يحضر شخصية لها هيئتها المعلومة ولونها ولون شعرها , وصوتها وعاداتها كشخصية حية )( ) , كما ان المخرج ( ماكس راينهارت ) يبني اختياره للممثل على القدرات الذاتية الموجودة في الممثل : اذ ( يختار ممثلاً يعتقد فيه بعد تجربة انه يمتلك شرارة الابداع , ويتميز بذكاء الممثل المبدع , وبالجرأة التي تجعله قادراً على الوقوف امام الجمهور على الخشبة , فهو غالبا ما يهمل الممثل الخجول الذي قد يخذله حين يسند اليه دوراً هاماً في مسرحيته )( ).
ومما تقدم : ان اختيار الممثل يتأثر بالنص , وذلك لان النص هو المحرك الاساسي في العملية التكاملية لرؤى للعرض المسرحي سواء اتفق المخرج مع النص ام لم يتفق , لان ما تفعله الشخصية هو في سياق الخطاب الدرامي , وان النص يرسم ابعادها المختلفة ويحقق انسجامها مع الافعال والدوافع والدلالات التي تحركها , وما ينتج من صراعات او خلافات بينها وبين الشخصيات الاخرى ويمكن تحديد عناصر التشخيص في النص التي تساعد على الاختيار, كما يأتي:
1- العناصر الاساسية :
أ‌- التشخيص بالفعل : هو ما تقوم به الشخصية من سلوك وحركات ومواقف وهي افعال ظاهرية .
ب‌- التشخيص الفكري : وهو الكشف عن الاهواء والرغبات والمشاعر والنوايا .....الخ وهي افعال باطنية محركة .
2- العناصر الثانوية :
أ‌- التشخيص بالرأي : وهي اماطة اللثام عن الشخصية من خلال ما تطرحه الشخصيات الاخرى من انطباعات او تصورات , وهو غير ملزم دائما بالتشخيص.
ب‌- التشخيص بالمظهر : وهو وصف المؤلف او الكاتب عن لسانه او عن لسان الشخصيات وهو ملزم من قبل الكاتب وغير ملزم من الشخصيات .( ) .
اختيار الممثل واتجاهات المسرح العراقي المعاصر:
اذا عد عام 1920 م (على وجه التقريب) هو مخاض حركة المسرح العراقي المعاصر , فان الربع الاول من الحياة المسرحية المعاصرة في العراق تعد بمثابة المحاولة لقبول لهذا المولود الجديد, اذ يشترك المجتمع العراقي مع بقية المجتمعات العربية بهيمنة التقاليد الدينية والعشائرية بمواقفها الواضحة من فنون الاداء , وعدتها غريبة , ولان المسرح العراقي مكون انساني حيوي استطاع ان يوجد مقاربات اجتماعية تقرب وجهات النظر بين المجتمع والمسرح من خلال مناقشة المشاكل والقضايا السياسية والدينية والاقتصادية والفكرية المطروحة آنذاك, فبرزت اتجاهات فاعلة في طبيعة الخطاب المسرحي العراقي , وبالتالي يمكن الكشف عن معايير اختيار الممثل لكل اتجاه, ومن الاتجاهات المهمة هي:
1- الاتجاه الاجتماعي/ التأسيسي : يمكن ملاحظة هذا الاتجاه من خلال واحدة من اهم الفرق المسرحية في العراق ( فرقة المسرح الفني الحديث ) وذلك في الكراس الذي اصدرته الفرقة عام 1977 : اذ تطمح الفرقة ومن خلال اعضائها الذين يربطهم الفكر والهدف والانتماء والموقف الواحد باتجاه اثارة وعي الجمهور وتثقيفه , والالتزام بالمسرح الاجتماعي والسياسي .
2- الاتجاه الاكاديمي / التطويري : ويلاحظ هذا الاتجاه في النزعة التطويرية في فكر عدد من المخرجين الذين سنحت لهم الفرصة للسفر خارج العراق , والذين درسوا في معاهد وكليات الفنون الجميلة واطلعوا على احدث نتاجات الفكر العالمي ؛ وما يميز هذا الاتجاه هو عدم السماح للمتلقي باستدعاء مرجعيات التأويل لمعنى مختلف عن قصد العرض المسرحي , من خلال عرض لا معقولية ما يجري للإنسان في المجتمعات الرأسمالية ومضار العولمة , مما يحيد رائي الممثل باتجاه العرض .
3- الاتجاه الاحتفالي/ التأصيلي : وهو الاتجاه الذي يعني بالسعي وراء المشاركة الوجدانية , والبحث عن هوية عربية للمسرح العراقي , وقد اشتغل اعضاء الفرقة القومية للتمثيل على هذا الاتجاه بالتخلص من قيود المسرح الغربي , والتجريب في ساحة العرض على قدرة الممثل في التواصل مع الجمهور بالتعايش بـ ( احتفالات شعبية وطقوس دينية ) , هذه العروض التي كان ممثليها يقومون بدور جمهور داخل العرض, اختيار الممثل ذو المهارات الاحتفالية .
4- الاتجاه الحداثوي/ المعاصرة : تعد المصطلحات الاشارية والدلالية في النقد فتحا جديدا في تطوير منظومات الخطاب المسرحي , لا سيما ان الممثل يعد علامة مهمة بل واساسية في هذا الاتجاه , وقد برع في هذا الاتجاه عدة مخرجين ( صلاح القصب , عوني كرومي , عزيز خيون ) استطاعوا استنطاق الممثل وتحويله علاماتياً الى دلالات اخر غير مألوفة , باستخدام عدة وسائل : كالاقتصاد بالحوارات والاستعاضة عن القدرة الايحائية الرامزة للغة بالعلامات , والتأكيد على روح الجماعة والاعتماد على ممثلين يتقبلون التجديد ويغامرون من اجله دون الاهتمام بخاصية النجومية التي تقتل الابداع .( ).
فالممثل والمخرج العراقي (سامي عبد الحميد) ، يتميز بإخلاصه للنص أحياناً، ويهدف في عمله الى إبراز فكرة المؤلف، او يُدخل عليه التعديلات ، ويترك الأمر للممثلين الذين يحرص على اختيارهم على وفق المواصفات الجسدية والقدرة الصوتية وجاهزيتهم السيكولوجية، إنه لا يعد عمله مع الممثل عملاً تربوياً او فرصة لصقل مواهب الممثلين وتطويرهم.( ) .
أما (صلاح القصب) فيرى تفضيلاً للصورة المسرحية على الصورة الحياتية لدى الممثل، ويعتمد القصب في مسرح الصورة على التوزيع التشكيلي البصري لبناء صور تعبيرية حية ، تعتمد الانعكاس المرئي عن عالم خيالي ذي كثافة دلالية (جسدية) يكون فيه النص محطة من محطات الذاكرة . حيث يغدو أداء الممثل مجموعة من الأنساق الدلالية الاستعراضية المتحولة التي يلفّها الغموض والصمت، وهدف الممثل تفجير العمق النفسي والفكري (الغير ظاهر) للكلمة. إن الممثل يخلق الشخصية ولا هوية الا هوية الكائن الوهمي المتماهي مع الممثل. إنه يعمل على استفزاز الممثل جسدياً وشعورياً, إن الممثل لديه مشروع، اقتراح. إن القصب ينظر الى الممثل بوصفه قوة عضوية ونفسية قادرة على الجمع والتركيب والتأليف بين المتناقضات الصادرة من أعماق اللاشعور، وأداءه متغير باستمرار، ليس هناك قوالب او مهارات تقليدية، بل اعتماد على عقلية الممثل وتلقائيته .( ) .
بينما يطمح الممثل والمخرج ( عزيز خيون ) كممثل : الى ان يتعامل معه مخرج يفهم ان الممثل ليس أداة معرفة جامدة , وكمخرج : عندما يختار ممثل فانه يعتمد الجانب الشخصي من العلاقة الانسانية , فهي التي تولد الفهم المشترك , وان الممثل ليس اداة للتأمل , بل اداة للتفسير , اما ( د. عوني كرومي ) , فهو يعزل بين الشخصية والممثل , فالممثل انسان يحيا معه ويحبه , اما الشخصية فهي فكرة في النص , فهو يسعد عندما يجد اصدقاءه من الممثلين من الكبار والشباب قادرين على تمثيل اية شخصية , لذا فعندما يختار الممثل : ينطلق من خلال وعيه الاجتماعي بالدور , وصوته الجماعي ( ذوبان الانا في النحن ) , وثقافته التي تجمع بين الفهم الخاص للشخصية والفهم العام لمنعطفات المجتمع , ولديه قدرة فنية ولغة مرتفعة الصوت باستمرار وحضور صادق فنيا وتاريخيا .( ) وعندما يتحقق هدف هذا الصوت الانساني ويتردد صداه في فضاءات السياسة والاقتصاد والقانون والمعتقدات وشتى مجالات العلوم والمعرفة والانشطة الاجتماعية والانسانية , يصبح بالإمكان ان يتعلم كل فرد مهما كان انتماءه – الى أي من النشاطات الانسانية والاجتماعية والعلوم والمعارف- كيف يختار من يمثله على خشبة الحياة الواقعية , أي ان يتعلم درس الاختيار من المسرح .

ما اسفر عنه الاطار النظري:
1- الممثل الحقيقي هو من يعرف لعبة الانتقال من ( الانا ) إلى الذات (الاخر).
2- من المعايير الهامة لاختيار الممثل في مختلف المدارس هي البحث عن ممثل قادر على ان يدخل في الدور, ولا يتم او يتحقق ( الدخول في الدور) الا بسلسلة من التجارب التي تجعل وجود الممثل مركزاً للاستقطاب والجذب حيث ان عملية الاختيار بأجمعها تهدف إلى تعميق الانسجام بين الافكار والافعال على المسرح .
3- ان محور الاختيار يبنى على افتراض لما سيكون عليه الممثل في المسرح ( بين ان يعيش الممثل مشاعر الدور الحقيقية ام يشخص الشكل الخارجي للمعاناة ).
4- ان الاختيار كفعل , ينطلق من الشخص المتخير نحو الذات الاخر للشيء الذي يرجح الاختيار, أي ان فعل الاختيار لا يقع على الشيء نفسه بل على ما سيبدو عليه او على ما يتوقع ان يكون عليه ذلك الشيء , او ما يرجى ان يكون عليه , ويرتبط هذا الفعل بمتغيرات عدة , أهمها المتغير الثقافي والاجتماعي والنفسي والبيولوجي.
5- ان عملية الاختيار تقوم على اربع مبادئ اساسية هي الافتراض والاختبار والتجربة والبرهان , ويقوم الافتراض على الحدس والتوقع والاحتمال , بينما يقوم الاختبار على الملاحظة والتحليل والفحص, اما التجربة فتقوم على الاضافة والتركيب والنتائج الواقعية, والبرهان يقوم على اليقين والدليل المادي العياني الذي لا يقبل الشك
6- فعل الاختيار فعل منطقي عقلي لا سباب مادية عيانية ليست غيبية او ميتافيزيقية .
7- ان اختيار الممثل لم يبق داخل حدود عالم المسرح وطرائقه ومناهجه , بل بدا يستعين و يستدعي جميع العلوم الاخرى ويبني علاقة معها: علم النفس , علم اللغة , علم الدلالة , علم التشريح , علم الانثروبولوجيا , علم الاجتماع , علم المساحة , علم الادارة.
8- يعد الشكل واحدا من المعايير في الاختيار, ولكن لا يعتد به بشكل اساسي.
9- ان ما فعله ( ستانسلافسكي ) انه كشف عن طبيعة اختياره للممثل القادر على ان يستمد قوة تعبير الحياة لوضعها على المسرح ، لان دوافع الحياة هي التي تحرك الانسان.
10- ان مسرح (برشت) يقتضي بالضرورة في اختيار الممثل الذي يكون صاحب موقف معين تجاه الحدث المعروض في المسرح الملحمي .
11- ان ( برشت ) يضع معايير الانسان الثوري الحي في اختياره للمثل , وهنا نفهم كيف يكون الممثل هو الذي اختار الشخصية في الدور.
12- أن اختيار المخرج للممثل يستند على التخيل الافتراضي للنص ، او الاختبار بالتجريب المادي الذي يتولد على وفق الرؤى والقراءات المتنوعة للمخرج وخلفيته الثقافية والاجتماعية والسياسية والفكرية.
13- أن اختيار الممثل اما مستوحى من النص باستخدام الفرضية الشعورية واخضاعه في تجربة الشخصية (النص) اندماجاً , او ينطلق الاختيار من وحي افكار المخرج لينتج صيغ فنية مختلفة ,
14- ان كفة ميزان معايير اختيار الممثل تميل باتجاه السطوة على العرض دائما, نتيجة التحول في النظام الاجتماعي او الفلسفي او الايدلوجي السائد في العصر الذي تقدم فيه العروض المسرحية.
15- ان اختيار الممثل يخضع لمعايير الانتاج وتطوره مع تطور الحياة المادية التي تحيط بالمجتمع وبثقافته.
16- ان عمل المخرج في اختيار الممثل يبدأ من النظر في تطور الحياة الانتاجية والمادية في المجتمع و كذلك النظر في حاجات المجتمع على جميع المستويات : الاقتصادية والسياسية والدينية والاجتماعية والثقافية, انطلاقاً من العلاقات التأسيسية في اختيار الممثل سواء كان في ارشادات النص او في رؤى الاخراج .
17- يخضع اختيار الممثلين في أغلب الأحيان لتطابقات جسدية ونفسية مع النص، وإن عملية تحليل الشخصيات تخضع لاستكشافات عقلية (جلسات الطاولة) واستكشافات (فعلية- تطبيقية) تتلاءم مع البنية الشعورية والجسدية للممثل، وهنا لا تشكّل هيئة الدور بمعزل عن طبيعة الشخصية المكتوبة.
18- ان الكثير من المخرجين في اختياراتهم ينظرون الى الممثل بوصفه كائناً عضوياً له تجربته الشخصية ، يَفيض بالطاقة الصوتية والجسدية و الحسية ، ويعد عمله عودة الى الأصول الفكرية التلقائية المخبئة في لا وعي الممثل ، بحيث تكون استجاباته متغيرةً تنسجم مع الحالات المختلفة ومع التنوّع المكاني والفضاء ومكوناته بما في ذلك المشاركين.
19- ان البعض من المخرجين في اختيارهم للممثل يبنى على البحث عن الاقدر على التكيف والتحول والاقناع بانهم هم ادوات العرض والمكملات بأجسادهم واصواتهم واحساسهم.
20- ان اختيار الممثل لا ينبغي ان يبنى على اساس انه الاداة التي تتخذ للتعبير عن اراء الاخرين , وانه هو الذي يشيع الحياة في كلمات المؤلف ورؤى المخرج الميتة , بل هو ليس كائن مستعبد بل خليق بان يكون عبدا لعقلة.
21- ان ( بيتر بروك ) في اختياره لجمع من الممثلين وعدم التزامه في العرض بنص مكتوب , لإشارة واضحة في مشروعية الوجود الحقيقي للممثل الانسان وفضله في التوصيل الحسي والفكري والجسدي للمعاني الانسانية السامية المستوحاة من أنثروبولوجيا الشعوب والاساطير القديمة , فاصبح اختيار الممثل تأويلاً ايحائياً.
22- ان اعطاء الحرية للممثل في اختاره لدور ما , يعطي مساحة اكبر لإبراز موهبته و قوته وقدرته على ان يحقق بصورة دقيقة ذلك الدور.
23- ان المخرج ( ماكس راينهارت ) يبني اختياره للممثل على القدرات الذاتية الموجودة في الممثل : اذ يختار ممثلاً يعتقد فيه بعد تجربة انه يمتلك شرارة الابداع , ويتميز بذكاء الممثل المبدع , وبالجرأة التي تجعله قادراً على الوقوف امام الجمهور على الخشبة , فهو غالبا ما يهمل الممثل الخجول الذي قد يخذله حين يسند اليه دوراً هاماً في مسرحيته.
24- ان فرقة المسرح الفني الحديث تطمح ومن خلال اختيار اعضائها الذين يربطهم الفكر والهدف والانتماء والموقف الواحد باتجاه اثارة وعي الجمهور وتثقيفه , والالتزام بالمسرح الاجتماعي والسياسي .
5- ان الاتجاه الاكاديمي التطويري في المسرح العراقي يحيّد رائي الممثل باتجاه العرض, أي انه يبني اختياره للمثل على اساس العرض .
6- ان الاتجاه الاحتفالي التأصيلي في المسرح العراقي: يعتمد في اختياره للمثل على قدرة الممثل في التواصل مع الجمهور بالتعايش بـ ( احتفالات شعبية وطقوس دينية ) , هذه العروض التي كان ممثليها يقومون بدور جمهور داخل العرض.
25- ان الاتجاه الحداثوي المعاصر في المسرح العراقي: يؤكد على روح الجماعة والاعتماد على اختيار ممثلين يتقبلون التجديد ويغامرون من اجله دون الاهتمام بخاصية النجومية التي تقتل الابداع.
26- ان المخرج العراقي (سامي عبد الحميد ): يحرص على اختياره للمثلين على وفق المواصفات الجسدية والقدرة الصوتية وجاهزيتهم السيكولوجية، إنه لا يعد عمله مع الممثل عملاً تربوياً او فرصة لصقل مواهب الممثلين وتطويرهم.
27- إن المخرج العراقي (صلاح القصب) ينظر في اختياره للممثل بوصفه قوة عضوية ونفسية قادرة على الجمع والتركيب والتأليف بين المتناقضات الصادرة من أعماق اللاشعور، وأداءه متغير باستمرار، ليس هناك قوالب او مهارات تقليدية، بل اعتماد على عقلية الممثل وتلقائيته.
28- ان الممثل والمخرج ( عزيز خيون ) كمخرج : عندما يختار ممثل فانه يعتمد الجانب الشخصي من العلاقة الانسانية , فهي التي تولد الفهم المشترك , وان الممثل ليس اداة للتأمل , بل اداة للتفسير.
29- ان على الممثل عندما تهيئ له فرصة اختيار دور ان ينطلق من خلال وعيه الاجتماعي بالدور , وصوته الجماعي ( ذوبان الانا في النحن ) , وثقافته التي تجمع بين الفهم الخاص للشخصية والفهم العام لمنعطفات المجتمع.

د. حسن عبدالرزاق العابد


د. حسن عبدالرزاق العابد
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

أعلى