نبيل محمود - قالت أمي


((هذا ما أعرفه : الموت هو الموت.
وما من أحدٍ عاد من موته
ليقول لنا شيئاً.))
سركون بولص، عظمة أخرى لكلب القبيلة.
لستُ شخصاً مختلفاً أو استثنائياً، فأنا أيضاً كنت صغيراً. وكنت أُصغي للحكايات كثيراً، برغبتي أو رغماً عني. كان أبي يزجرني إذا ما تجاوزت حدودي. أما أمي فكان أسلوبها في التربية يعتمد على موهبتها في الحكي. لقد كانت حكواتية بالفطرة. فحينما كانت تريدني أن أذهب إلى النوم مبكراً تقول لي:

- اِغمض عينيك يا صغيري.. اِغمض عينيك ولا تبحلق كثيراً.. اِغمض عينيك ونمْ بسرعة قبل أن يأتي.. !

فإذا ما تململت في فراشي كثيراً دون أن أغفو، يتحوّل أمرها إلى حكاية، وتكمل:

- إن لم تنمْ بسرعة فإنه سيراك ! وسيباغتك طير السهر الأسود الصغير.. الذي يحوم فوق أسرّة الأطفال، وما أن يلاحظ أية عينين صغيرتين مفتوحتين، حتى ينقضّ عليهما وينقرهما بمنقاره الأحمر..

خطر لي ذات ليلة أن أحاججها، فسألتها:

- ولماذا لا يفعل الأمر ذاته مع عيون الكبار، مع أنهم يسهرون أكثر من الصغار ؟!

لم تفكّرْ.. بل أجابتني على الفور:

- لأنه يخشى الكبار وهو الصغير الضئيل، لن يجازف بإغضاب الكبار ولا يجرؤ على منازعتهم.. حينما تكبر ستعرف وتفهم كثيراً من الأشياء، سوف ترى كيف إنه سيخشاك وسيتحاشاك أنت أيضاً..

مع أنني سمعت تلك الحكاية مرات ومرات، إلاّ أنني كنت أصدّقها في كل مرة، وتثير المخاوف في نفسي دائماً. فأُسارع إلى إغماض عينيَّ والنوم، خوفاً من ذي المنقار الأحمر الذي لم أره في حياتي، مطلقاً، حتى اليوم. هذا ما كان عندما كنت صغيراً، أما الآن فما إنْ أغمض عينيَّ حتى أرى أكثر ! وتحتشد الصور وتتدافع الأفكار في رأسي دونما توقّف.. وإذا ما جاء النوم فبشكل متقطّع تخالطه الكوابيس.

وفي ليالي الشتاء كانت تردّد وصية ما قبل النوم:

- تدثّرْ جيداً، ولا ترفس الغطاء بعيداً عن جسمك أثناء النوم. فطفل الثلج الأبيض، بمجرفته الزرقاء اللامعة، يترصّد أي طفل مكشوف الجسم وبلا غطاء، ليهيل عليه نثار الصقيع القارس..

كم كان الدفء لذيذاً في الطفولة ؟ يسرى في الجسد، بنعومة ويسْر، كالحكايات المشبعة برائحة المواقد.. أمّا الأن فلا يدفئني أي شيء، مهما كدّستُ، فوق جسمي، من أغطية.. ومهما أوقدت حولي من مواقد.
إنّ البرد في الداخل.. !

التخويف كان من عناصر حكايات أمي التربوية ! فعندما تلاحظ بوادر التباطؤ والتلكؤ وعدم انصياعي، بسرعة، لأمرها بالذهاب المبكّر إلى النوم، كانت تُشهر بوجهي حكايتها الشهيرة عن الحرامي:

- الحرامي.. ! ها هو هناك.. ! أراه يدور حول البيت، ويتلصّص عبر النوافذ، ويراقب الأطفال.. وإذا ما شاهد طفلا ساهراً حتى هذا الوقت، ولم يأوِ إلى سريره بعْد، سيأتي ويسارع إلى خطف ألعابه !

ومع أنني سمعت ذلك التهديد لمرات ومرات، أيضاً، فقد كنت أشعر بالقلق على ألعابي فأجري إلى غرفتي لتفحّصها، وبعد اطمئناني عليها أقفز كالأرنب إلى فراشي ! أما الآن وبعدما كبرت كثيراً فقد صرت أخاف الحرامي فعلاً.. ! ليس حرامي ألعاب الطفولة، ولكن الحرامي الأعظم الذي يرعب الكبار.. حرامي الوقت..
يا للطفولة ! كيف كنا نصدّق تلك الحكايات الساذجة وبتلك السهولة ؟
***​

ما بين نقطتي البداية والنهاية، وحينما يُشرف الوعي على الهاوية الأخيرة، يصبح الالتفات إلى الماضي ضرورةً وحيلةً نفسيةً للانشغال عن التطلّع في المكروه الماثل أمامنا. لكن الامتناع عن النظر إلى الخارج، سحرٌ خائب، لن يخدع الطبيعة ولا يمنع ما فينا من السير إلى منتهاه.. لابد لكل مسير من مصير.. غالباً ما يكون للتذكّر طعم فوات الأوان ورائحة الطعام المحترق.. المائدة جاهزة لتقديم الوجبة المنتظرة ! شرائح ديستويفسكي الحمراء، وطحالب كافكا الخضراء، وتوابل ادجار آلان بو الصفراء.. يا لها من وجبة ! حساء طلاسم كثيف.. أطباق غرائبية.. رشفات من نبيذ الكوابيس.. دخان متصاعد من غلايين الرعب.. وموسيقى اصطكاك الروح !

أحيانا يكون الوضوح غامضاً بما يكفي لفضح اليقين الراسخ. يقين يضلّلنا ويطمس صلاتنا الخفية بتقلّبات واندفاعات الأهواء الجوفية، ويُنكر أثر الرغبات الليلية المتسلّلة إلى أطراف النهار.. فتنحرف خطانا عن مقصدها رغماً عن إرادتنا تحت شمس الوضوح. لكننا لا نجرؤ على الاعتراف بغموض الوضوح.. الكثافة مرعبة، تكديسٌ مخيفٌ للظلمات، اِنحسارٌ مقلقٌ للرؤية. لذلك نتظاهر بأننا نمتلك ما يكفي من الفطنة والضوء، لتشتيت الغرائب وتبديد التناقضات وتطويع الشرور.. ونزعم أن الرماديَّ سيُلاشي الرماديَّ وينتصر الوضوح في النهاية..

ما قبل الفجر وفي ساعات الليل الأخيرة، حينما يرتجف الوقت عارياً، يكون الطرق على الباب مريباً. رغم استغرابه وارتيابه من الطرق في ذلك الوقت، فإنه لم يتردّد في النهوض من سرير أرقه والتوجه نحو الباب ليفتحه. لم يندهش كثيراً لرؤية تلك الكائنات وجهاً لوجه، لكن ما أدهشه هو اجتماعها سوية، وقدومها معاً لاقتحام كونه الصغير. كان الشخص الطويل ملثّماً ويرتدي بدلة رمادية غامقة، وعلى كتفه اليمنى يقف طير أسود صغير بمنقاره الأحمر.. يمسك بيده اليسرى يد طفل لا يرتدي أية ملابس، طفل من صقيع خالص، يحمل مجرفةً زرقاء لامعة. لم يكد يسيطر على ما اعتراه من اضطراب لهذا الاجتماع الماكر، لكائنات ما كان ليخطر بباله، أبداً، بأنه سيلتقيها ثانية، حتى انقضّ الطير الأسود على عينيه وفقأ عينه اليسرى، بعد أن أشبع عينه اليمنى نقراً بمنقاره الأحمر. طفرت الدماء الغزيرة من عينيه، وغرقت نفسه المتخبّطة في ظلام دامس. يبدو أن صراخه المتأوّه قد استفزّ الطفل الثلجي كثيراً، فهجم على عقب قدمه اليسرى وغرز أنيابه الصقيعية المتلألئة عميقاً فيها.. وبمجرفته الزرقاء راح يحفر ويثقب نهاية عظم قدمه، تضخّم صوت حفر المجرفة في العظم كدوي قضيب فولاذي يضرب رأسه بلا توقف.. وتعالى الصداع كرنين مطارق، تُهشّم جدران جمجمته من الداخل، دونما رأفة.. لم يعُدْ يجد ما يكفي من الصراخ ليستوعب فائض ألمه. شفط الطفل الثلجي النخاع الأبيض من تجويف العظم وضخّ سائلاً ثلجياً مكانه. كاد الظلام والبرد اللذان غمرا الرجل أن يزهقا روحه، ولكن كان ما يزال لديه بقية من الألم وقليلاً من التحمل.. في تلك اللحظة بالذات، لم يستطع الملثّم من كبح جماح نفسه أكثر من ذلك، دون المشاركة في الهجمة الضارية. خطا نحو الرجل المتألم المتأوّه، وطوّق جسده من الخلف بذراعه اليسرى الطويلة، وبراحة يمناه أغلق فم وأنف هذا الكائن الذي لا يكفّ عن التأوه والصراخ.. وليكتم أنفاسه إلى الأبد. راح الصراخ بعد أنْ لم يجد منفذاً للخروج يدور ويدوّم في الداخل.. في الأعماق التي تزداد انطفاءً وبرداًً.. تقطّعت جميع صلاته بالخارج، ولم يعد سوى ركام أزرق من الألم المكتوم، وعذاباً ممنوعاً من الصراخ.. بدأ صراخه المحبوس ينهشه، ويصدّع كيانه من الداخل، ويمزّق أحشاءه، فانتفخت خلاياه حدّ الانفجار. تناقص الأوكسجين وتفاقم الألم. بعد انقطاعه الكلي عن الخارج، وسقوطه المتسارع إلى مركز ذاته المتلاشية، التي تحولت إلى نقطة كثيفة ومتخثرة من الظلام، كثقب أسود يبتلعه بجاذبيته المتعاظمة، حاول التشبث يائساً بشيء ما في داخله.. لا شيء يتشبّث به، فكل ما فيه كان يسقط ويهوي في فراغ سديمي حالك. مع امتناع شهقته الأخيرة لم تجد آخر كلماته سبيلها إلى الخارج بل ظلت دفينة روحه المنطفئة:

- يا إلهي، لم يعد الأمر مجرد حكايات ! إنْ كان لما يحدث أن يحدث.. فليحدث على الفور، إذن !

أنقذته الغيبوبة أخيراً.. !
صمتٌ وظلام..
لا شيء يُحِسّ أو يُحَسّ.. في الفجر الرمادي الأخير !
وسينقشون أيضاً.. سطراً بليداً على شاهدة قبره:

لترقد روحه بسلام !
______________________________________________
اللوحة : جون ستارك

bc31bd998765bb6e063ea39a22b0dab0.jpg

تعليقات

تحية اخي السي نبيل
سرد مائز ما قرأت هنا والآن ، حيث يتشعب الحكي بين النص الاصلي للطفل والجكواتية الام ، والنص الموازي حيث الخرفات تصنع المفاجأة كما الشان عند اندرسن مثلا .. والدهشة والفضول والخوف الذي يؤثت نوم الاحداث

مزيدا من الابداع
 
تحية اخي السي نبيل
سرد مائز ما قرأت هنا والآن ، حيث يتشعب الحكي بين النص الاصلي للطفل والجكواتية الام ، والنص الموازي حيث الخرفات تصنع المفاجأة كما الشان عند اندرسن مثلا .. والدهشة والفضول والخوف الذي يؤثت نوم الاحداث

مزيدا من الابداع
وللصديق العزيز والأستاذ المبدع والمثقف الموسوعي ألف تحية.. سرتني كلماتك كثيراً وأتمنى أن أكون بمستوى ما تفضلت به.. أكرر تحياتي السي المهدي العزيز ودمت بألف خير..
 
أعلى