جمانة حداد - جسد

"والكلمة صار جسداً"
إنجيل يوحنا

هذا ليس مانيفستو. فأنا لستُ من محبّذي المانيفستات والعرائض والبيانات، ولا من المؤمنين بمفعولها.
ولا هو مرافعة مسبقة درءاً لتهمة مقبلة، على طريقة "أتغدّاك قبل أن تتعشاني". فالتهمة، أو التهم، أعرف، آتية لا محالة. ولن تنفع في صدّها على الأرجح أيّ مرافعة، عاجلة أكانت أم آجلة.
ولا هو استجداء دعم، أو انتباه، أو تعاطف، أو تكاتف.
ولا هو شكوى، أو استنكار، أو نقّ، أو صريف اسنان.
ولا هو تمرّد، أو استفزاز، أو نداء، أو محاولة افتعال ضجة.
إنما، في واقع الحال، أكتبُ ما أكتب اليوم عجباًً. وحيرةً أكتب، ورغبةً في الفهم. فما أن نُشر خبر تأسيس مجلة "جسد" الثقافية الفصلية في بعض الصحف والمواقع العربية لبضعة أيام خلت، حتى شرعتْ تردني، الى جانب الأصداء الرائعة والمتحمّسة والمؤيدة (هي، في المناسبة، أكثر وأغزر مما كنتُ لأجرؤ أن آمل فيه)، العجائب والغرائب من ردود الفعل والتعليقات، عبر الايميل خصوصاً، ولكن ايضاً من طريق بعض "فاعلي الخير"، هواة نقل كلام السوء بحجّة المحبة والمساعدة و"التنبيه".
هذا، طبعاً، أمرٌ منتظر، ستقولون، ولا مفرّ منه إزاء نبأ صدور مجلة ورقية تُعنى بـ"آداب الجسد وفنونه". وهي، كي "تزيد الطين بلّةً"، مجلة باللغة العربية. وهي، فوق هذا كلّه، مجلة ترأس تحريرها امرأة. أي أنها "كوكتيل مولوتوف" برسم الانفجار. "فماذا كنتِ تتوقّعين؟"، ستسألون.
لم أكن أتوقّع أعجوبة، في طبيعة الحال. ولا كنتُ أتوهّم أن "الوسط"، كلّ الوسط، سيتلقف فكرة هذه المجلة بالأحضان، وسيفرح ويبارك ويشجّع ويشيد. لكني، في المقابل، لم أعرف بلداً في حياتي، ولا ثقافةً تستحق هذه التسمية، تُهاجِم منتَجاً ثقافياً قبل تحققه الملموس، وتحاسبه بناء على تصوّره المجرّد فحسب، أي على فكرته، مثلما تكاد تفعل باستمرار بلادُنا وثقافتنا، وحريّ بي أن أقول: ثقافاتنا. ثقافاتنا المتنوعة المختلفة المتناقضة التي، إذ تتخاصم وتتبارى في ما بينها، لا تتبارز غالباً، للأسف، سوى لإعلاء شأن الرداءة والخساسة والحِطّة.

*

عذراً، فأنا قد نسيتُ. نسيتُ – وأقول ذلك بدون تعميم - أن الجميع في جمهورياتنا وممالكنا وإماراتنا العربية السعيدة، الجميع تقريباً، الجميع تقريباً ما شاء الله، أثيريون وغير ترابيين، قديسون وأنبياء. كائنات هيولية تولد وتكبر بلا أجساد، بلا أعضاء جنسية، ولا حاجات، ولا غرائز، ولا فانتاسمات، ولا رذائل، ولا "خطايا"، ولا عادات سرية أو علنية...الخ.
ونسيتُ، يا لهول ما نسيت، أن الجميع في جمهورياتنا وممالكنا وإماراتنا العربية السعيدة، الجميع تقريباً، الجميع تقريباً ما شاء الله، "غيور" على شيء ما. عدِّدوا معي:
هناك حزب الذين يدّعون المحافظة، "الغيورين"- في الظاهر نعم، ولكن بشراسة ما بعدها شراسة- على مفاهيم العفة والحشمة والطهارة، وعلى حماية بكارات العين والأنف والأذن والحنجرة واللغة والخيال والحلم، والى ما هنالك من لزوم ما لا يلزم: حمايتها من اي "اختراق" اباحي قد يمزّق غشاءاتها الرهيفة الحسّاسة، التي تصون، وحدها هي التي تصون، شرف تقاليدنا من الوحل والبهدلة والجرصة.
هناك أيضاً حزب المحافظين بحقّ، "الغيورين" على أخلاقيات هذا القرن وأدبياته، لكنهم في معظمهم يمسكون بهذه الأخلاقيات من أذنابها، كمن يضحك على نفسه ويكنس غباراً تحت سجادة لكي يشعر بالأمان، ثم يروح يصدّق وهم تلك النظافة الكاذبة الى حد ان الوهم يصير هو الحقيقة.
وهناك حزب الغربان، "الغيورين" على حاجتهم شبه الدائمة الى نعي المبادرات الطامحة الى تغيير مياه المستنقع قبل ولادتها، إثباتاً لفلسفتهم الرخوة التي تنعق، بلا انقطاع، اللازمة إياها: "لا جدوى، فلِمَ عذاب القلب"؟
وهناك حزب الثرثارين، "الغيورين" على حسن دوران محرّكات ألسنتهم الديزل، التي كانت لتصدأ وتتفكك لولا الشائعات والدسائس والفتن والهلوسات والافتراءات والأكاذيب الرخيصة.
وهناك حزب المفخِّخين، "الغيورين" على اندفاعهم الحيوي والفطري الى وضع العصيّ بين الدواليب لكي يتعثّر كل ما يقوم ويمشي بلا جميل عجائبهم عليه.
وهناك، أخيراً وليس آخراًً، حزب الخبثاء، "الغيورين" أيما غيرة على توقهم العارم الى بثّ السموم، تحت مزاعم "الحرص" على السلامة الشخصية والسمعة الحسنة، وما يقع تحت أيديهم من ذرائع أخرى قابلة للتصديق من هذا القبيل.

*

حسناً حسناً. إسمحوا لي، من باب التوضيح ليس إلا، أن أعلن عالياً وقوياً:
ليست "جسد" مجلة بورنوغرافية أيها السادة. وهي لا تتنصّل، بسبب الطهرية والتزمت، من وصمة البورنوغرافيا. فنحن نعيش في لبنان ما يكفي من البورنوغرافيا السياسية والاجتماعية والاعلامية والفنية والثقافية والعقلية والفكرية والأخلاقية، كي لا نخشى الأقل ضرراً بين أنواع من البورنوغرافيا: أي النوع الحرفي والمباشر.
وليست "جسد" مجلة نضالية ذات قضية (إن في سبيل النسوية، كما يتوهّم البعض، أو ضدّ النسوية).
وليست "جسد" مجلة وعظ وإرشاد وتربية جنسية (اطرقوا باب "غوغل" تجدوا).
وليست "جسد" مجلة منوعات فنية تستهدف حصراً الجمهور "النسائي" (معاذ الله!).
وليست "جسد" نزوة ظريفة. ولا مزحة خفيفة. ولا لعبة طريفة.
"جسد" هي في اختصار (وسوف تخبر عن نفسها بنفسها بالتفصيل، عندما يصدر عددها الأول في الخريف المقبل) مشروع ثقافي وفكري وأدبي وفني جدّي، تطلّب الكثير من التفكير والتمحيص قبل أن يتبلور ويتكوّن. وهو مشروع ينتمي الى الجسد، جسد الحياة، جسد العقل وجسد القلب وجسد اللغة. بل ينتمي الى جسد الجسد. وهذا المشروع ليس له من هدف سوى ذاته. أي أن يسأل عن وعي الجسد، وعن لاوعيه، متأملاً، باحثاً، منقّباً، مختبراً، مسلساً، متمرداً، مستيقظاً، نائماً، حالماً، رائياً، مهلوساً، كاتباً، ناحتاً، راسماً، راقصاً، وخالقاً جسداً للجسد، وهذا كلّه ضمن مغامرة الحرية التي لا يزال الجسد في أوّلها، ودائماً في أوّلها، كما لغاته وتجلياته، لا تزال في أوّلها. وتظلّ.
"جسد" هذه، تريد أجساداً كهذه الأجساد، ولغات كهذه اللغات، وتجليات كهذه التجليات، لتحيا وتنمو وتتوالد وتتواصل، من أجل أن تكون جديدة الجسد باستمرار، وجديدةً من حيث لغاته وتجلياته. كما لو أنها تكتشف هذا الجسد للتوّ، ماضيه وحاضره ومستقبله. وكما لو أن هذا الجسد لم يكن ولم يولد من قبل. أي أنها تتوق الى أن تكون بيتاً رحباً لأقلام واختبارات أدبية وفنية وفكرية، طليعية، وخلاّقة، لتشارك في مختبر هذه المغامرة الثقافية وتحدياتها، ولتصنع من الجسد المتخلص من محظوراته، ومن لغاته واختباراته وتجلياته، باباً مفتوحاً على الحرية.

*

سؤال:
"لماذا لم تجعلي "جسد" مجلة الكترونية، لتجتنبي بذلك أي رقابة محتملة عليها؟"
جواب:
"لأن الورق من أرقى الاجساد التي يؤتى لنا أن نلامسها، ومن أشهاها.
ولأن "الدخول من الباب الضيّق"– مثلما قال أحد العظماء منذ نحو الفي عام– أجمل من رحابة الطريق الانترنتية؛ أليس كذلك؟!

*

هكذا نحن يا سادة:
نصفّق لصور روبرت مابلثورب ومان راي وسبنسر تونيك القائمة على عري الجسد، لكننا في المقابل نسمّي عرضها وعرض شبيهاتها من الأعمال الفوتوغرافية الفنية، لفنانين عرب وغربيين على السواء، في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا.
نهلّل لعظمة هنري ميللر وأناييس نين وفلاديمير نابوكوف، على سبيل المثال لا الحصر، ولأمثالهم من الكتّاب الذين كسروا ويكسرون التابوهات بامتياز، فنثني عليهم حتى يكاد لا يخلو حوار مع كاتب/ة عربي/ة من ذكر احدهم ومديحه والتلويح به كتأثير أدبي حاسم؛ لكننا في المقابل نسمّي نشر قصائد أو قصص أو نصوص أو ترجمات تنتمي الى الكتابات الأدبية الايروتيكية في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا.
نحتفي بعبقرية بيكاسو وبالتوس وكوربيه، واسلافهم وأحفادهم، من اصحاب الشهوات التشكيلية الفاقعة، احتفاء ما بعده احتفاء، لكننا في المقابل نسمّي دراسة لوحات مماثلة، لرسامين عرب وغربيين على السواء، في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا.
نصرخ "برافو" للياباني ناجيزا أوشيما ("مملكة الحواس") وللايطالي برناردو برتولوتشي ("التانغو الأخير في باريس") وللبولوني – الأميركي - الفرنسي رومان بولانسكي ("بيتر مون")، ولسواهم من السينمائيين الأجانب الذين انتهكوا وينتهكون الممنوعات بجرأة وفنية عاليتين، لكننا في المقابل نسمّي الحديث عن هذه الأفلام وسواها في مجلة ثقافية عربية: بورنوغرافيا.
هكذا دواليك: الحديث عن الختان هو بورنوغرافيا. والحديث عن المثلية؟: بورنوغرافيا. وعن طقوس تشويه الذات؟: بورنوغرافيا. وعن تأثير العقد النفسية على الجنسانية؟: بورنوغرافيا. وعن العلاقة بين العين والجسد الاجتماعي؟: بورنوغرافيا. وعن الفيتيشيسم والكانيباليسم؟: بورنوغرافيا. وعن خداع الوجوه للمرايا؟: بورنوغرافيا. وعن سؤال الهوية الجنسية؟: بورنوغرافيا. وعن الرؤية النقدية للجنس في الروايات المعاصرة؟: بورنوغرافيا. وعن الرغبة من منظور الانتلجنسيا النسائية؟: بورنوغرافيا. وعن جسد الرجل بين التغييب والتغيّب؟: بورنوغرافيا. وعن لحظات النشوة لدى المتصوّفين؟: بورنوغرافيا.
لا تُتعِبوا عقولكم ونفوسكم. "ما في نوى": بورنوغرافيا. بورنوغرافيا. بورنوغرافيا.

*

هكذا هي غالبيتنا: "نريد الشيء ونبصق عليه"، على ما يقول مثلنا اللبناني الشهير. ننهى عن المنكر بيد، ونمارس الدعارة الفكرية (وهي الأدهى) الجنسية) باليد الثانية. أمّةٌ عربية سكيزوفرينية واحدة، متحدة، في غالبيتها الكاسحة، حول دساتير الجهل والفصام والتخلّف والخبث والتكاذب وفنون الاختباء وراء الإصبع الوسطى.

*

فيا أصدقائي والأعداء، دعوا أنفسكم من مواويل التحذير والتهويل والنصح والهداية. ومن مساعي التخويف والتأديب والتفزيع والإخجال. قد سبق السيف العزل، ولا حياة للتراجع الذي تنادون عليه ها هنا.
يا خصومي والحلفاء، "جسد" هي لكم. "جسد" هي جسدكم، سواء أشئتم ذلك أم أبيتم.
عانِقوها، أو ارجموها: هي ستكون مستعدة (جيداً جداً) للإحتمالين.
... وبيتها لن يكون من زجاج.


* عن كيكا
 
أعلى