روزا ياسين - في الحديث عن منظري المتعة - الإحساس البشريّ الوحيد الذي يؤلهنا

في محاولة لتأكيد الفرق بين الحاجات والرغبات، عُرّفت الحاجات باعتبارها شيئاً غريزياً حين يُشبع ينطفئ، ولا يعود للظهور إلا حين نشعر بالحاجة من جديد لنشبعه فينطفئ... وهكذا، كما هي الحاجة إلى الطعام والشراب وغيرهما. أمّا الرغبات فلا تنطفئ بتحقّق الإشباع، لأنّها جزء من الطبيعة الإنسانية التوّاقة إلى الجمال والسعادة، إنها أمر لا يرتبط بالحاجة، بل يرتبط بالروح وبالذاكرة الإنسانية وبالتجربة، وبمسيرتها الأزلية من عصر إلى عصر، ومن جسد إلى آخر. ضمن هذا الفرق فالعلاقة الجنسية الميكانيكية تندرج في خانة الحاجة، فيما يندرج الحبّ والمتعة في خانة الرغبة، حيث يبقى الإنسان توّاقاً للمتعة بكافّة أشكالها، وإلى الحبّ، كلّما نهل من وردهما ازداد عطشاً ورغبة.

أحد أهمّ المنظّرين لفكرة المتعة كان الشاعر الفارس “بوبليوس أوفيديوس نازو” (الذي عاش بين سنة 43 ق.م و 17 أو 18م)، والمعروف في الترجمات العربية باسم: “أوفيد”. وهو أوّل رومانيّ يعتبر المتعة أمراً متبادلاً بين الرجل والمرأة، وليس طريقاً ذا اتّجاه واحد. حيث من الضروريّ التذكير بالطابع الذكوريّ المهيمن على الثقافة الرومانية آنذاك، والذي عمل على الإقصاء المتعمّد للمرأة، كجسد بالدرجة الأولى، ومن ثمّ كمبدعة ومنتجة. وكما هي حال الأفكار الكبرى، والصغرى أيضاً، فقد كان هناك تصاديات سابقة ولاحقة ومعمقة لأفكار “أوفيد” السحرية، وربما كانت منها نظرية “أبيقور”، التي سبقت “أوفيد” بقرون، وذلك في القرن الثالث قبل الميلاد، والتي تلخّص ما أصبحت عليه نظرية “فرويد” في بداية القرن العشرين، وقد لعبت كلتا النظريتين دوراً اجتماعياً متشابهاً، كلّ منهما في عصرها وبين معتنقيها والمؤمنين، أو غير المؤمنين، بها. فأبيقور، أوفيد، ومن ثمّ فرويد، استطاعوا أن يكونوا منظّري المتعة بامتياز. كان إصرار “أوفيد” الأوّل، الذي صار مرجعاً حقيقياً لكلّ راغب في تعميق نظرته إلى المتعة، حول وجوب كبح رغبة الذكر أثناء ممارسة الحبّ للاستشعار بالمتعة التي ستصل إليها المرأة بمثابة الكفر الاجتماعي، حين كانت العاطفة بالنسبة للرومانيّ فحشاً، والرغبة بالحلول محلّ شخص من مرتبة اجتماعية أخرى، كما يحدث حين يعشق رجل امرأة، ضرباً من الجنون. فكل استمتاع وضع في خدمة الآخر هو فعل منحطّ برأي الرومانيّ، وهو من الرجل دلالة على نقص الفضيلة والفحولة، وبالتالي العجز. ذلك أنّ عاطفة الحبّ لا تقود إلا إلى العبودية التي يرفضها الرجل الروماني الحرّ، كما يرفضها معظم الرجال الخاضعين للسيطرة الذكورية، هذا ما جعل مؤسسة الزواج الروماني جمعية أو شركة للتوالد ليس إلا.

نشر “أوفيد” كتابه الشهير: فنّ الهوى (أو فنّ الحبّ)، وهي سلسلة من القصائد الشهوانية، بناء على تجربة خاصّة به، كما اعترف مراراً، فقد كان الكاتب الوحيد في روما الذي فضّل النساء المتقدّمات في السنّ، ممّن تجاوزن الفزع إلى المتعة، على الفتيات غير البالغات أو غير الناضجات اللواتي كان الذكور يفضّلونهن. لأنّ المتقدّمات في السنّ، برأيه، كنّ أشبه بالثمار الناضجة الأشدّ حلاوة، والأكثر قدرة على العطاء وتبادل المتعة، وليس لعب دور المستقبل السلبيّ في العملية الجنسية: فليشرب المستعجلون النبيذ الجديد... علماً بأنّ “هوراس” الروماني قال قبله في النشيد الخامس من أناشيده: (ما أتعس الفتيات الصغيرات اللواتي لا يستطعن الانخراط في لعبة الحبّ، وتجعلهنّ الكلمات الفظّة لعمٍّ عبوس يرتجفن من الخوف).إثر صدور كتاب “أوفيد” ذاك، الذي اعتبر معادياً لبرنامج الإمبراطور أغسطس في الإصلاح الاجتماعيّ، نفاه الأخير من إيطاليا إلى (طرف العالم)، أي إلى مدينة تومسيس على ضفاف الدانوب. ثم ثبّت “تايبيريوس”، خلف “أغسطس” على عرش روما، ذلك النفي وأصرّ عليه، وفي العام 17م مات “أوفيد” وحيداً بعد مرور عشر سنوات في المنفى.

أمّا فلسفة أبيقور، التي يطلق عليها فلسفة اللذّة المادية، فتجد أنّ كلّ المتع تنبع من الجسد، ولكلّ متعة وحدة حيوية فوق انعدام الألم. وبعبارة أخرى، وإمعاناً، فالمتعة هي الإحساس البشري الوحيد الذي يؤلّهنا، والذي يجعلنا أكثر ممّا نحن عليه في الحقيقة كمجموع ذرات، وذلك حسب نظريته الشهيرة عن الذرات: (المتعة تمنح الجسد إحساساً أعلى بذاته، تجعل من الروح كائناً إلهياً). تجربة المتعة هي التي تشعر الإنسان بأنه حيّ، وهي التي توحّد الجسد بالروح في وحدة واحدة. ولنقل بتعبير آخر، وحسب أبيقور أيضاً، المتعة هي اللحظة القصوى في مواجهة الزمن الذي لا نستطيع القبض عليه. وقد عمل الشاعر الروماني لوكريت 55 ق. م على شرح فلسفة “أبيقور” تلك في قصيدته الشهيرة: “في طبيعة الأشياء”.

أمّا النظرية الفرويدية، وهي نظرية سيغموند فرويد (1856ـ 1939) في التحليل النفسي، فأساسها أنّ الغريزة الشهوية، كما يسمّيها، هي أوّل أسس الحياة، وأعمق وأشدّ غريزة روحية وشخصية إنسانية فهي ظمأ الروح التي لا ترتوي، وهو بذلك يتفق مع أفلاطون. والفرويدية تفسّر السلوك الإنساني تفسيراً جنسياً، وتجعل الجنس هو الدافع وراء كلّ شيء. واللبيدو، وهي الطاقة الجنسية أو الجوع الجنسيّ، نظرية فرويدية أيضاً تعتمد على أساس التكوين البيولوجي للإنسان الذي تعتبره حيواناً بشرياً. فكلّ ما نصرّح بحبّه أو حبّ القيام به في أحاديثنا الدارجة يقع ضمن دائرة الدافع الجنسيّ حسب فرويد. فالجنس عنده هو النشاط الذي يستهدف اللذّة، وهو يلازم الفرد منذ مولده إذ يصبح الأداة الرئيسية التي تربط الطفل بالعالم الخارجي في استجابته لمنبهاتها، كما يعتبر فرويد أنّ القيم والعقائد والقوانين حواجز تقف أمام الإشباع الجنسي، مما يورث الإنسان عقداً وأمراضاَ نفسية. فالسعادة ترتبط بمسألة واحدة عند فرويد وهي كيفية استهلاك الطاقة الجنسية، وهنا لا قيمة لأية توصية فعلى كل فرد البحث عن الطريقة التي يمكن بواسطتها أن يكون سعيداً.

رغم مضيّ السنوات، تبقى نظريات فرويد من أكثر النظريات إثارة للجدل ولاهتمام العديد من النفسانيين الذي تلوه و نقلوا عنه وطوّروا أقواله أو حتى خالفوه، فقد أثارت نظرياته حتى اليوم موجة من الصخب عندما تحدّث عن الكثير من التابويات ومنها جنسانية الطفل، فالناس لم تفهم حتى اليوم أنّ جنسانية الطفل لا تعني تطبيق النشاط الجنسي الكامل المعروف للبالغين، ولكنها قد تكون بحثاً مبكراً عن المتعة.

كلّ نظرية من نظريات المتعة الثلاث آنفة الذكر، لأوفيد وأبيقور وفرويد، أثّرت بشكل مقيم على إبداعات عصرها والعصور اللاحقة ربما، فما زالت تصاديات أوفيد واضحة في نزعاتها الرومانطيقية وأبيقور في نزعاتها الماورائية وفرويد في نزعاتها الحسية.

يبدو الحديث عن المتعة شيقاً جداً وطويلاً جداً أيضاً، والحديث عن أشكال المتعة أطول وأكثر تنوعاً، فالعشق متعة، والقراءة متعة، تحسس الجمال أينما كان متعة، الإبداع متعة، والخلق كذلك متعة، وما الحديث عن متعة أوفيد الجنسية ومتعة أبيقور الروحية إلا شذرات من فكرة المتعة الغنية والممتدة والمتبدّلة عبر الزمن والكتابات وتغيّرات الإنسان المتواصلة كلما أوغل أبعد في حياته الإنسانية.

http://www.alawan.org/local/cache-vignettes/L300xH385/arton5349-19dfe.jpg
.
 
أعلى