الأصفهاني - الأغاني

أخبار عائشة بنت طلحة ونسبها
نسب عائشة بنت طلحة: عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. أخبرني الحسن بن يحيى قال قال حماد قال أبي قال مصعب: كانت لا تستر وجهها وعتاب مصعب لها في ذلك: كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمالٍ أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما في وصممة يقدر أن يذكرني بها أحد. وطالت مرادة مصعبٍ إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق. قال: وكذلك نساء بني تميم هن أشرس خلق الله وأحظاه عند أزواجهن. وكانت عند الحسين بن علي صلوات الله عليهما ام إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني .
غضبت على مصعب فبعث إليها ابن قيس الرقيات: قال: نالت عائشة من مصعبٍ وقالت: علي كظهر أمي، وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرقيات، فسألها كلامه، فقالت: كيف بيميني؟ فقال: ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه. فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أتحلني وتخرج خائباً! فأمرت له بأربعة آلاف درهم. وقال ابن قيس الرقيات لما رآها:
جنية برزت لتقتلنا ... مطلية الأقراب بالمسك
وذكر باقي الأبيات .
غضبت على مصعب فاسترضاها أشعب فرضيت: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق اليعقوبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم قال: كان أشعب يألف مصعباً، فغضبت عليه عائشة بنت طلحة يوماً، وكانت من أحب الناس إليه، فشكا ذلك إلى أشعب فقال: ما لي إن رضيت؟ قال: حكمك. قال: عشرة آلاف درهم. قال: هي لك. فانطلق حتى أتى عائشة فقال: جعلت فداءك! قد علمت حبي لك وميلي قديماً وحديثاً إليك من غير منالةٍ ولا فائدة. وهذه حاجة قد عرضت تقضين بها حقي وترتهنين لها شكري. قالت: وما عناك؟ قال: قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه. قالت: ويحك! لا يمكنني ذلك. قال: بأبي أنت فارضي عنه حتى يعطيني ثم عودي إلى ما عودك الله من سوء الخلق. فضحكت منه ورضيت عن مصعب. وقد ذكر المدائني أن هذه القصة كانت لها مع عمرو بن عبيد الله بن معمر، وأن الرسول إليها والمخاطب لها بهذه المخاطبة ابن أبي عتيق .
وصفت عزة الميلاء لها ولعائشة بنت عثمان وأم القاسم بنت زكريا: وأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي حدثت عن صالح بن حسان قال: كان بالمدينة امرأة حسناء تسمى عزة الميلاء يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء. فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص، فقالوا: إنا خطبنا فانظري لنا. فقالت لمصعب: يابن أبي عبد الله ومن خطبت؟ فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت: فأنت يابن أبي أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يابن الصديق؟ قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة .

قالت: يا جارية هاتي منقلي تعني خفيها فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضاً، فقالت: يا جارية انظري ما هذا. فنظرت ثم رجعت فقالت: امرأة أخذت مع رجل. فقالت: داء قديم، امض ويلك. فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك! كنا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك، فلم أدر كيف أصفك فديتك. فألقي ثيابك ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها. فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك. فقال عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي. قالت عزة: وما هي بنفسي أنت؟ قالت: تغنيني صوتاً. فاندفعت تغني لحنها: صوت:
خليلي عوجا بالمحلة من جمل ... وأترابها بين الأصيفر والخبل
نقف بمغانٍ قد محا رسمها البلى ... تعاقبها الأيام بالريح والوبل
فلو درج النمل الصغار بجلدها ... لأندب أعلى جلدها مدرج النمل
وأحسن خلق الله جيداً ومقلةً ... تشبه في النسوان بالشادن الطفل
الشعر لجميل بن عبد الله بن معمرٍ العذري. والغناء لعزة الميلاء ثقيل أول بالوسطى فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك، فدفعته إلى مولاتها فحملته. وأتت النسوة على مثل ذلك تقول لهن، حتى أتت القوم في السقيفة. فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يابن أبي عبد الله، أما عائشة فلا والله إن رأيت مثلها مقبلةً ومدبرةً، محطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب ، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكنٍ، ضخمة السرة، مسرولة الساق. يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها. وفيها عيبان، أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم القدم والأذن. وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لمرأة قط، ليس فيها عيب. والله لكأنما أفرغت إفراغاً، ولكن في الوجه ردة ، وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به. وأما أنت يابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم، كأنها خوط بانة تنثني، وكأنها جدل عنان، أو كأنها جان يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت. ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر؛ فإذا كا ذلك كان قبيحاً، لا والله حتى يملأ كل شيء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن .
أمها وخالتها، وزواجها من ابن خالها وأولادها منه: أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن عمه، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الزبيري والمدائني، ونسخت بعض هذه الأخبار من كتاب أحمد بن الحارث عن المدائني وجمعت ذلك، قالوا جميعاً: إن أم عائشة بنت طلحة أم كلثوم بنت أبو بكرٍ الصديق، وأمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الخزرج بن الحارث. قالوا: وكانت عائشة بنت طلحة تشبه بعائشة أم المؤمنين خالتها. فزوجتها عائشة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو ابن أخيها وابن خال عائشة بنت طلحة، وهو أبو عذرها ، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه؛ ولدت له عمران وبه كانت تكنى، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة وتزوجها الوليد بن عبد الملك، ولكل هؤلاء عقب. وكان ابنها طلحة من أجواد قريش، وله يقول الحزين الديلي:
فإن تك يا طلح أعطيتني ... عذافرةً تستخف الضفارا
فما كان نفعك لي مرةً ... ولا مرتين ولكن مرارا
أبوك الذي صدق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا
وأمك بيضاء تميمية ... إذا نسب الناس كانوا نضارا
مصارمتها لزوجها وإيلاؤه منها: قال: فصارمت عائشة بنت طلحة زوجها، وخرجت من دارها غضبى، فمرت في المسجد وعليها ملحفة تريد عائشة أم المؤمنين، فرآها أبو هريرة فقال: سبحان الله! كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة أربعة أشهر. وكان زوجها قد آلى منها، فأرسلت عائشة: إني أخاف عليك الإيلاء ، فضمها إليه وكان مولياً منها فقيل له: طلقها، فقال:
يقولون طلقها لأصبح ثاوباً ... مقيماً علي الهم، أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيتٍ أحبهم ... لهم زلفة عندي لإحدى العظائم

زواجها من مصعب بن الزبير:

فتوفي عبد الله بعد ذلك وهي عنده، فما فتحت فاها عليه، وكانت عائشة أم المؤمنين تعدد عليها هذا في ذنوبها التي تعددها. ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير، فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. فبلغ ذلك أخاه فقال: إن مصعباً قدم أيره، وأخر خيره. فبلغ ذلك من قوله عبد الملك بن مروان فقال: لكنه أخر أيره وخيره، وكتب ابن الزبير إلى مصعب يؤنبه على ذلك ويقسم عليه ألا يلحق به بمكة ولا ينزل المدينة ولا ينزل إلا بالبيداء، وقال له: إني لأرجو أن تكون الذي يخسف به البيداء، فما أمرتك بنزولها إلا لهذا. وصار إليه وأرضاه عن نفسه، فأمسك عنه .
كانت تعاسر مصعباً فاحتال له كاتبه ابن أبي فروة حتى ياسرته: قال وحدثني المدائني عن سحيم بن حفص قال: كان مصعب بن الزبير لا يقدر عليها إلا بتلاحٍ ينالها منه وبضربها. فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم! افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا. فأتاها ليلاً ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت له: أفي مثل هذه الساعة! قال نعم. فأدهلته. فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئراً. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم ملاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حيةً وهو أسفك خلق الله لدمٍ حرامٍ. فقالت عائشة: فانظرني أذهب إليه. قال: هيهات! لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجد منه بكت ثم قالت: يابن فروة إنك لقاتلي ما منه بد؟ قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك، ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه. قال: في امتناعك عنه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها. فقال: قد رققت لك، وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني ألا أعود أبداً. قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت. قال: فأعطيني المواثيق، فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعباً فأخبره. فقال له: استوثق منها بالأيمان، ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب .
أخبار لها مع مصعب: قال: ودخل عليها مصعب يوماً وهي نائمة متصبحة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت له: نومتي كانت أحب إلي من هذ اللؤلؤ .
قال: وصارمت مصعباً مرة، فطالت له وشق ذلك عليها وعليه، وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر، فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها. فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه. فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه. فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك الأذفر .
أخبرني ابن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسعر قال: كان مصعب من أشد الناس إعجاباً بعائشة بنت طلحة، ولم يكن لها شبه في زمانها حسناً ودمائةً وجمالاً وهيئةً ومتانةً وعفةً، وإنها دعت يوماً نسوةً من قريش فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب و المجمر، وخلعت على كل امرأةٍ منهن، خلعةً تامة من الوشي والخز ونحوهما، ودعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت، ثم قال لعزة: هاتي يا عزة فغنينا، فغنتهن في شعر امرئ القيس:
وثغر أغر شتيت البنات ... لذيذ المقبل والمبتسم
وما ذقته غير ظنٍ به ... وبالظن يقضي عليك الحكم
وكان مصعب قريباً منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنن منهن والستور مسبلة، فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة! ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت. وخرجت عزة إليه فغنته هذا الصوت مراراً وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحاً. ثم قال لها: يا عزة إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها، وتحدث ساعةً مع القوم ثم تفرقوا .

خطبها بشر بن مروان فتزوجت عمر بن عبيد الله:

وقال المدائني، وذكر القحذمي أيضاً في خبره: فلما قتل مصعب عن عائشة خطبها بشر بن مروان، وقدم عمر بن عبيد الله بن معمرٍ التيمي من الشام فنزل الكوفة، فبلغه أن بشر بن مروان خطبها، فأرسل إليها جاريةً لها وقال: قولي لابنة عمي يقرؤك السلام ابن عمك ويقول لك أنا خير من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك وأحق بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيراً، وحرك أيراً. فتزجته فبنى لها بالحيرة ومهدت له سبعة أفرشةٍ عرضها أربع أذرع، فأصبح ليلة بنى بها عن تسعٍ. قال: فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص فديتك! قد كملت في كل شيء حتى في هذا .
وقال مصعب في خبره إن بشراً بعث إليها عمر بن عبيد الله بن معمر يخطبها عليه، فقالت له: يا مصارع قلة! أما وجد بشر رسولاً إلى ابنة عمك غيرك! فأين بك عن نفسك ؟! قال: أو تفعلين؟ قالت نعم، فتزوجها. وقال مصعب الزبيري في خبره: لما بنى بها عمر قال لها: لأقتلنك الليلة، فلم يصنع إلا واحدةً. فقالت له لما أصبح: قم يا قتال. قال: وقالت له حينئذٍ:
قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر
وهذه الحكاية تحامل من مصعب الزبيري وعصبية. والخبر في رضاها عنه والحكاية في هذا غير ما حكاه وهو ما سبق .
ما كان في يوم زواجها من عمر بن عبد الله: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن القحذمي أن عمر بن عبيد الله لما قدم الكوفة وتزوج عائشة بنت طلحة، فحمل إليها ألف ألف درهم: خمسمائة ألف درهم مهراً وخمسمائة ألف هدية، وقال لمولاتها: لك علي ألف دينارٍ إن دخلت بها الليلة. وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب. وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب؟ قالت: انظري إليه، فنظرت فإذا مال، فتبسمت. فقالت: أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزباً! قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد. قالت: فيم ذا! فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يدك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فرش إلا وهو عندك. وقد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة ، فأدني إليه طعام فأكل الطعام كله حتى أعرى الخوان، وغسل يده، وسأل عن المتوضأ فأخبرته فتوضأ، وقام يصلي حتى ضاق صدري ونمت، ثم قال: أعليكم إذن؟ قلت: نعم، فادخل، فأدخلته وأسبلت الستر عليهما. فعددت له في بقية الليل على قلتها سبع عشرة مرة دخل المتوضأ فيها. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئاً؟ قلت: نعم! والله ما رأيت، أكلت أكل سبعة، وصليت صلاة سبعةٍ، ونكت نيك سبعة. فضحك وضرب بيده على منكب عائشة، فضحكت وغطت وجهها وقالت:
قد رأيناك فلم تحل لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر
ويدل أيضاً على على بطلان خبره أنه لما مات ندبته قائمةً، ولم تندب أحداً من أزواجها إلا جالسةً فقيل لها في ذلك، فقالت: إنه كان أكرمهم علي وأمسهم رحماً بي، وأردت ألا أتزوج بعده وكانت ندبة المرأة زوجها قائمة مما تفعله من لا تريد أن تتزوج بعد زوجها أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن محمد بن سلام. وهذا دليل على خلاف ما ذكره مصعب .
ثم رجع الخبر إلى سياقة خبرها: حديث امرأة عنها وقد اختلى بها عمر: قال المدائني في خبره: قالت امرأة: كنت عند عائشة بنت طلحة، فقيل لها: قد جاء الأمير، فتنحيت، ودخل عمر بن عبد الله، وكنت بحيث أسمع كلامهما، فوقع عليها فجاءت بالعجائب ثم خرج، فقلت لها: أنت في نفسك وموضعك وشرفك تفعلين هذا! فقالت: إنا نتشهى لهذه الفحول بكل ما حركها وكل ما قدرنا عليه .
طلبت ضرتها من مولاة لها أن تراها متجردة ثم ندمت أن رأتها: قال المدائني: وحدثني مسلمة بن محاربٍ قال: قالت رملة بنت عبد الله بن خلفٍ وكانت تحت عمر بن عبيد الله بن معمر، وقد ولدت منه ابنه طلحة الجود لمولاة عائشة بنت طلحة: أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم. فأخبرت عائشة بذلك. قالت: فإني أتجرد، فأعليمها ولا تعرفيها أني أعلم. فقامت عائشة كأنها تغتسل، وأعلمتها فأشرفت عليها مقبلةً ومدبرةً، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم، وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها. قال: وكانت رملة قد أسنت، وكانت حسنة الجسم قبيحة الوجه عظيمة النف. وفيها وفي عائشة يقول الشاعر:
انعم بعائش عيشاً غير ذي رنق ... وانبذ برملة نبذ الجورب الخلق

ويقال: إن رملة قد أسنت عند عمر بن عبيد الله، فكانت تجتنبه أيام أقرائها ثم تغتسل، تريه أنها تحيض، وذلك بعد انقطاع حيضها. فقال في ذلك بعض الشعراء:
جعل الله كل قطرة حيض ... قطرت منك في حماليق عين

أخبرنا بذلك الجوهري عن عمر بن شبة .
أخبار لها مع عمر بن عبيد الله: وذكر هارون بن الزيات عن أبي بكر بن عياش قال: قال عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة وقد أصاب منها طيب نفسٍ: ما مر بي مثل يوم أبي فديكٍ . فقالت له: اعدد أيامك واذكر أفضلها، فعد يوم سجستان ويوم قطريٍ بفارس ونحو ذلك. فقالت عائشة: قد تركت يوماً لم تكن في أيامك أشجع منك فيه. قال: وأي يوم؟ قالت: يوم أرخت عليها وعليك رملة الستر، تريد قبح وجهها .
قال: فمكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله بن معمر ثماني سنين، ثم مات عنها في سنة اثنتين وثمانين، فتأيمت بعده، فخطبها جماعة فردتهم، ولم تتزوج بعده أحداً .
قال المدائني: كان عمر بن عبيد الله من أشد الناس غيرةً، فدخل يوماً على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار، فقال لها: انفضي التراب عني. فأخذت منديلاً تنفض به عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحدٍ قط كان أحسن منه على وجه مصعبٍ، قال: فكاد عمر يموت غيظاً .
وقال أحمد بن حماد بن جميل حدثني القحذمي قال: كانت عائشة بنت طلحة من أشد الناس مغايظةً لأزواجها، وكانت تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب، فإذا قالوا: قد جاء الأمير ضمت عليها مطرفها وقطبت. وكانت كثيراً ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعباً وجماله، تغيظه بذلك فيكاد يموت .
طلبت من الوليد بن عبد الملك أعواناً حين حجت: وقال المدائني حدثني مسلمة بن محارب وعبيد الله بن فائد، وأخبرنا به حرمي عن الزبير عن عمه ومحمد بن الضحاك، قالوا: دخلت عائشة بنت طلحة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة، فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوانٍ فضم إليها قوماً يكونون معها، فحجت ومعها ستون بغلاً عليها الهوادج والرحائل. فعرض لها عروة بن الزبير فقال:
عائش يا ذات البغال الستين ... أكل عامٍ هكذا تحجين
فأرسلت إليه: نعم يا عرية، فتقدم إن شئت، فكف عنها. ولم تتزوج حتى ماتت .
حجت مع سكينة بنت الحسين وكانت أحسن آلة وثقلاً: وقال غير المدائني: إن عائشة بنت طلحة حجت وسكينة بنت الحسين عليهما السلام معاً، وكانت عائشة أحسن آلة وثقلاً . فقال حاديها:
عائش يا ذات البغال الستين ... أكل عامٍ هكذا تحجين
فشق ذلك على سكينة، ونزل حاديها فقال:
عائش هذي ضرة تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف .
بهر موكب عاتكة بنت يزيد في الحج: وقال: إسحاق بن إبراهيم في خبره حدثني محمد بن سلام عن يزيد بن عياض قال: استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج، فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري؛ فإن عائشة بنت طلحة تحج، ففعلت فجاءت بهيئته جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها. فقالت: أرى عائشة بنت طلحة، فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها. ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم، فسألت عنه، فقالوا: هذه ماشطتها. ثم جاءت مواكب على هذا إلى سننها . ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلةٍ عليها القباب والهوادج. فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى .
وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة عن ابن عائشة عن أمه عن سلامة مولاة جدته أثيلة بنت المغيرة بن عبد الله بن معمرٍ قالت: كان كبر عجيزتها مثار العجب: زرت مع مولاتي خالتها عائشة بنت طلحة وأنا يومئذٍ وصيفة ، فرأيت عجيزتها من خلفها وهي جالسة كأنها غيرها، فوضعت أصبعي عليها لأعلم ما هي، فلما وجدت مس أصبعي قالت: ما هذا؟ قلت: جعلت فداءك! لم أدر ما هو، فجئت لأنظر. فضحكت وقالت: ما أكثر من يعجب مما عجبت منه .
إعجاب أبي هريرة بجمالها: وزعم بكر بن عبد الله بن عاصم مولى عرينة عن أبيه عن جده: أن عائشة نازعت زوجها إلى أبي هريرة، فوقع خمارها عن وجهها، فقال أبو هريرة: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك! لكأنما خرجت من الجنة .

وفدت على هشام فأعجب سامروه بعلمها: قال ابن عائشة وحدثني أبي أن عائشة بنت طلحة وفدت على هشام، فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر، ومنع السلطان الحق. قال: فإني أبل رحمك وأعرف حقك، ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي، فاسمروا عندي الليلة فحضروا، فما تذاكروا شيئاً من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا سمته. فقال لها هشام: أما الأول فلا أنكره، وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة. فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة .
مر بها النميري الشاعر فاستنشدته وخبره معها: أخبرني عمي عن الكراني عن المغيرة بن محمد المهلبي عن محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن عمران البزازي قال: لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنةً، وبالمدينة سنةً، تخرج إلى مالٍ لها بالطائف عظيم وقصر لها فتنزه وتجلس فيه بالعشيات، فتناضل بين الرماة. فمر بها النميري الشاعر، فسألت عنه فنسب لها، فقالت: ائتوني به. فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب . فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظاماً بالية. قالت: أقسمت لما فعلت. فأندشها قوله:
نزلن بفخٍ ثم رحن عشيةً ... يلبين للرحمن معتمرات
يخبئن أطراف الأكف من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
فقالت: والله ما قلت إلا جميلاً، ولا وصفت إلا كرماً وطيباً وتقًى وديناً، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها، فقالت: علي به فجاء. فقالت: أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك؟ فوثب مواليها، فقالت: دعوه؛ فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمه، هات. فأنشدها:
ظعن الأمير بأحسن الخلق ... وغدوا بلبك مطلع الشوق
وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق
ما صبحت زوجاً بطلعتها ... إلا غدا بكواكب الطلق
قرشية عبق العبير بها ... عبق الدهان بجانب الحق
بيضاء من تيم كلفت بها ... هذا الجنون وليس بالعشق
قالت: والله ما ذكر إلا جميلاً، ذكر أني إذا أصبحت زوجاً بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين، ولا تعد لإتياننا يا نميري .
أخر الحارث بن خالدٍ الصلاة لتتم طوافها: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام: أن عبد الملك ولى الحارث بن خالد على مكة. فأذن المؤذن، وخرج للصلاة، فأرسلت إليه عائشة بنت طلحة: قد بقي من طوافي شيء لم آته، وكان يتعشقها، فأمر المؤذن فكف عن الإقامة، ففرغت من طوافها. وبلغ ذلك عبد الملك فعزله. فقال: ما أهون والله غضبه وعزله إياي علي عند رضاها عني .
كانت معناة بعجيزتها: أخبرني أحمد بن عبد العزيز حدثني عمر بن شبة قال: قال سلم بن قتيبة: رأيت عائشة بنت طلحة بمنىً أو مسجد الخيف، فسألتني من أنت؟ قلت: سلم بن قتيبة. فقالت: رحم الله مصعباً! ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تنهضانها، فأعجزتها أليتاها من عظمهما، فقالت: إني بكما لمعناة. فذكرت قول الحارث:
وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق
وروى هذا الخبر بن الزيات عن جعفر بن محمد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عمرو بن خلاد عن المدائني قال: قال أبو هريرة لعائشة بنت طلحة: ما رأيت شيئاً أحسن منك إلا معاوية أول يومٍ خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لأنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور .
خطبها أبان بن سعيد على يد أخيه فأبت: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال: كتب أبان بن سعيدٍ إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة، ففعل. فقالت ليحيى: ما أنزل أخاك أيلة؟ قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك:
حللت محل الضب لا أنت ضائر ... عدواً ولا مستنقع بك نافع

.
 
أعلى