سالم العوكلي - مقتطفات من كتاب بنات الغابة سيرة النص والجسد

شوك تحصن بالصخر .. يشد الروح بنزيف الوحشة ، فطر يربو على تلال الروث، صمته خُلّب القوس .. مفرد العزف على أهبة البوح ، بنات البئر منشورات في الماء كعَلَقٍ ، والريح متاخمة للأغاني .. تشيّد من الغبار أعمدة السماء ، أعبُّ من أوعية الحجر حليب الغيوم العابرة .. سابحاً في بحيرات القمح، أتقي حمو الظهيرة بفحول البصل مطعونةً بماء العين ، أذرع مع خيوط النمل دروب الذاكرة ، شوك في وبر الدواب يرد الثغاء إلى معطن الدبيب المسترسل في قطن الثياب ، ليل نداري معطفه بالكيروسين واحتدام النباح في شراب الحضائر...أينك تغافلين تيوس المعاطن .. تعيثين في القلب بذاراً ، وتمرين من تلف الملابس إلى جسدي الضانِّ .. أينك مرسولةً من إله مغامر .. تعابثين أعضاء الصغار ، وتضيئين بنهدك الناشئ عتمة المراهق الخجول .. أينك تتنفسين قرب أذني ، وتمرقين حافية خلف الجرابيع ، ثوبك إلى السماء وفخذك مقروراً يحط قاب قرابيني المهدرة .. أينك تنفخين في نار الجسد وتلبسين من الدخان رداء النزوات ، مالحة أصابعك ، وسابح لسانك في عشب المضايق.. يرتخي الحطب على ردفك مبلولاً ، وعلى ظهور الدواب تُهرّبين لذتك ، فخذاك مشرعتان للوبر واهتزاز الظهور المتعبة .. أينك تمشين على مهل في مسرب البئر .. تسحبين الدلاء من قلبي وأعوي في بيوت البطوم أعوي .. أتعبد مغزلك المضمخ بعرق ساقيك ، شوك تمدد بيننا ، وعلب تلمع في الضحى ، نهيق يخفق في الوادي صداه .. والحشائش تتراكم في مخابئك الهائجة ، نتحسس شواء الفطر .. مكابرَ النار المبلولة .. وصهيل النساء الراشدات على قش الكهوف ..بعيد مجرى العيون وشوك ، والملح في فمك عذب .. أينك مشاعةً للعابرين .. مسفوحةً حيث يباع الزنباع ، وحيث المحاريث تقض هجعة التراب ، الزهر على ثوبك يجفله قيظ الجسد ، والزغب في ساقيك ينعشه شجن المزمار القريب , دم العشب يصيح على ركبتيك .. تمرين إلى الرفاق من صوب خليل ، وتمرين إلى الحبيب من طريق التبن المضيء

2
تنام (القيقب)* باكراً ، والندى يتكثف فوق صفيح البيوت .. أمد يدي يقطعها الظلام .. مختونة ذاكرة أحجارك الغرقى .. برد ثيابك تخفق فوق مخالب الشبرق .. برد مساطبك الهاجعة تحت كلح الليالي البيض وخطوط الشيزة .. برد ليلك المولع بضبح الصنوبر .. بردٌ وأنا فيك أفلي الخيال الجامح .. أُنقّب في سروك المرسل عن حتف كوابيسي .. أجر الكلاب إلى آخر الطريق .. مخاتلاً نوافذك المواربة .
في غرة العام تسلل صوتها هامساً إلى مخدعي .. صوتها يتسقط أوتار القلب المغامر ، يشخب كضرع مسمر في جفن القمر .. يمر دافئاً عبر النحاس البارد ، ومشافهاً يبيض أوجاعه في تبن صدري .. تعرفنا الغابة ، والحضائر نفزع سكانها بالعواء .. ورادك مهدر على الطرقات ومستساغ البذاءة يحفر في خفر الصبايا نفق الضحك الموارب .. يطرز بالشعر المباح معدن براميله السائحة ، ماؤه الوضوء باكراً ، وماؤه اختلاس الفخذ للمسة العابر .. الوراد غسق العيون تحدق في رذاذ السقوف الرطبة .. معاداً كأسواق القرى يعلق ثيابه الرثة في هجيع المراهقات ، ماؤه صَدَف الأرامل الواثقات من ليل كسيح ، وشَرَك العابرين من لسانه الرجيم إلى نساء مستحيلات .. وراد القيقب نبي الشهوات الخرساء .. يهذي في مساربها الترابية بسُكّر الحرام .. يقايض الضحك بالشراب ، ويتسرب إلى فساتين البنات .. نبي العطش وخاتم الراقدين ، ماؤه ارتجاف النهود في ندى الصباح الباكر .. يداه مِخيَط الوسن الرائب ، وحماره ساعي بريد ، ماؤه اقتراب القصب من مهجة العازف الأوحد.. يلعب في بطن ثور محفوفاً بلظى الآخرين .. يعبر سلسا إلى أعوادهم المثقوبة .. خلسة ينوء بما لا يجرءون .. وحده متقداً كأوهامهم البعيدة ، مرشوقاً في صدور الواجفات خرزَ الشيطنة اللماع ، عينه على الجدار الآخر .. يولج الخيط في عقيق المسبحات .. يولج الدلو في عتمة البئر .. يولج العصا في شهقة الفأس .. يولج السلك في ثقب الإبرة ويولج الإبرة في خيال القماش .. يولج الخرطوم في فم البرميل .. يولج الليل في النهار .. يولج الزر في عروة القميص .. يولج النمل في ثقوبه .. يولج الإصبع في خاتم الريح .. يولج المغزل في وجع الصوف .. يولج القمح في لولب الرحى .. يولج الله في جبته .. ويولج السرير في رعد الليل .. ماؤه رغوة الطشت المعدني .. ماؤه صحو الصباح مدهوناً بعَرَق اللهاث .. وصوتها صندل الأيام الوشيكة .. منجل الحقول المضيئة في آخر الصيام .. مرت من شجن الوراد إلى منسكي.. قريرةً تبتهل عيناها الصغيرتان .. يهطل نداها على خشب الأصابع الممدودة في الغبار .. توصد باب غرفتها الخشبي ، وتفر كعصفورة سانحة من النافذة .. تقتحم ضباب القرية راكضةً خلف نهديها .. عيناها مغمضتان والحصى يتكسر تحت سباطها .. تمر الأشباح تحت جفنيها والجنادب تصدح في وجل الطريق .. تحط لاهثة قرب فراشي كفراشة أتعبها الدوران.. جميلة تنشد في أصابعي مغفرة الشبق القروي .. تلج البطاطين عارية .. قدماها باردتان والعرق في إبطيها ملح البحار العنيدة .. خائفة والجسد شراعها الخفاق .. متعبة واللذة عكازها إلى مطرحي .. تلجني كظل أجفله الضوء .. تعصر على صدري فاكهة النهد وتصهل في بئر غوير .. مقذوفة إلى ما لا تحتمل .. تعلو جوادها الجبلي فيرقص ظلها على الجدار .. هرّبت للشفق الحميم لون بكارتها ، وغابت في أغطيتي تفرك الوسائد بخديها، وتريق في عنقي عصير عينيها ..
كانت صغيرة يحبو الصغار إلى ألعابها .. تُصفِّر في حقول القمح وتدنو من الحسك الجارح بجلدها الطازج .. جميلة كدمية .. نتسابق على خيول من خشب إلى خصها الفوضوي .. نرقب على مهل انتفاخ القفطان المزهر تحت عنقها ، وعلى مهل تتلمس العشب المتفشي في وهادها .. تمر من ودع العرافة إلى ماء الوراد .. الحامل في جيوبه رسائلها وخبز تنورها .. مرت من الأسلاك إلى ريبتي ، ومن الشارع الطيني مرت إلى سريري .. تركض حين القرية تنام .. تركض حين الرغبة في وركيها دبيب .. تركض والكلاب تنبح رائحة عطرها .. تركض والماء يرقد لامعاً على النوافذ الساكتة .. تركض وحذاؤها قنديل في يدها .. تركض والخرز يصدح كسرب قطا على جمر الترائب .. تركض والتراب ينسخ شكل قدميها .. تركض وآذان الفجر يفزع عصافير المئذنة .. الصلاة خير من النوم ، وهي تركض لا تنام .. صلاتها في معبدي .. تركع ولسانها يهذي ويلعق ما يطال .. جبينها عباد للوسائد .. تُسبِّح الأصابع بعقيقها الذارف دموعه كل رعشة .. ساخنة في أندلسها المشاع.. باردة في الطريق إلى مثوى رغباتها وشاسعة كالدوار .. منهكة تحط بجانبي جثة من الوهج القرير .. تبحث في فوضى اللحاف عن قرطها .. جندلت وقار النهار وأطلقت ساقيها لجمر المواعيد .. الصغيرة التي كنا نبيعها الصدف الفارغ ، فتتحسس سراويلنا القصيرة وتنتقي .. تركض خلف عصفور الجنة ولا تلوي على أحد .. تركض في حِجْر أمها إلى رائحة القرنفل .. تركض في القماط وتتعثر بآية الكرسي .. تركض في الرحم تجر مشيمة اللهب إلى موعدها الأزلي .. تركض .. تركض .. وتأوي مع الضوء إلى فراشها البعيد.. تذيب في صوف النطع لحمها الثري ، وتلبس وقار النهار ثانية .. حتى ليل آخر خرافي .
 
أعلى