بهاء الدين الإربلي - رسالة الطيف

بسم الله الرحمن الرحيم
من الخفيف
يا خليلي من ذؤابة قيس ... في التصابي رياضة الأخلاق
مما أعرف به إخواني، جادتهم الأنواء، وصابتهم السماء، وحلت السحب بأنديتهم أفواه عز إليها، وأهراقت ماء مدامعها بعقوتهم من مآقيها، وروض القطر دارهم ونمقها، واجد أي رسومهم ولا اخلقها، وأصفى مشارعهم ولا رنقها، وملأ حياضهم بنمير الماء وأتاقها.
من الكامل
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
حتى تبعث بمنازلهم أموات النبات، وتنشر رمم الأزهار الهامدات، وتكتسي من مطارف الروض الوشائع المفوفة، والحبرات، وتجلى عرائس الربيع في ملابسها الفاخرة، وتحدق عيون النرجس الناظرة إلى وجنات الورد الناظرة، فيبتسم ثغر الأقاح وتميل قدود الأغصان من الارتياح، فتصفق الأنهار على الإيقاع، وتتمايل الأزهار راقصة على السماع، وتشرب الخمائل من رضاب الطل سلافة عاصرها المعصرات، وساقيها العيون الهاطلات، وتغرد خطباء الأطيار على منابر الأغصان طربا، فينشر الندى على الزهر لآلئا وحبياً من الخفيف
فكان السماء تجلو عروساً ... وكانا من قطرها في نثار
وإن أضر ما على الإنسان في زمانه، أن يجري جواد نظره مرخياً من عنانه، فقد قيل كم نظرة أوجبت حسرة وكانت حلوة فأعقبت عيشة مرة، وطالما أرخى امرؤ زمام طرفة، فعاد بوباله وحتفه، ولهذا أمر بغض الأبصار ونهي عن إرسال النظر في كثير من الأخبار، وجاء شيء من ذلك في الأشعار قال شاعر الحماسة: من الطويل
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك الناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فصرح بأن من أرسل طرفه رائدا، كان إلى العنا والتعب قائدا، وغايته أن يرى ما لا يقدر على كثيرة ولا يصبر عن يسيره، فأي حال اصعب من هذه الحال، وهل الرضى بها إلا نوع من الاختلال، قال السيد الرضي: من الوافر
نظرتك نظرة بالخيف كانت ... جلاء العين مني بل قذاها
فاها كيف تجمعنا الليالي ... وآها من تفرقنا وآها
وقوله يدل على غرام سلبه القرار، ووجد اعدمه الاصطبار، فانه قنع لجلاء عينه بنظرة اختلسها سارقا، وعانى قذى واسماً إن كان كما يقول عاشقاً، وهنا يقول ما يفي الوصل بالصدود ولا يحتمل هذا البخل لأجل ذلك الجود، ليس بسعد عن عامر عوض، ولا بنجد عن رامة بدل، نعم وكم أوقعت العيون القلوب في الحبائل، وكم بات المقتول بها لهجا بحب القاتل،.
من البسيط
فبت ألثم عينيها ومن عجب ... أني أقبل أسيافا سفكن دمي
وقد أجاد من قال، وأوضح هذه الحال: من الكامل
يا قلب عاشقه وسهم جفونه ... من الزم المقتول حب القاتل
ومن أشق الأمور، أنها تؤذي من الطرفين، وكثيرا ما دلت العين على العين، فألقت الناظر من المنظور في الحين.
من الكامل
ومن العجائب أن عضوا واحدا ... هو منك سهم وهو مني مقتل
فلله در هذا الشاعر، إذ عرف الأمر فشرحه، وكان مبهماً فعرفه، ومشكلا فأوضحه، بل كان صعبا فذلله، وحزنا فعبده، ومقفلا ففتحه، ومن العجب أن أهل هذا الشان، فعلوا غررا، ونكبوا من الهوى خطرا، ورضوا بان تذهب دماؤهم هدرا، وان لا جناية على المحبوب، ولو رمى محبه بالفوارق وحتى قال قائلهم، أن أحداق الظباء لا تؤخذ بالجرائر.
من الرجز
كيف تعرضت وأنت حازم ... يوم النقا لأعين الجآذر
أما علمت أن أحداق الظباء الغيد لا يؤخذن بالجرائر
فهل هذا إلا قول من سلط على نفسه حكم الحب، ورضي بما لاحظ فيه لذي لب.
من الكامل
ما أنصفته يكون من أعدائها ... في زعمها وتكون من أحبابه
وموجب هذه المقدمة، أني خرجت في بعض أيامي متفرجا، وعلى الرياض الأنيقة معرجا.
من الكامل
والطل ينثر في الرياض دموعه ... والزهر يضحك في خلال بكائه
وتخال أنفاس النسيم عليلة ... عجبا وتشفي الصب من برحائه

ولي طبيعة تصبو إلى زمن الربيع وتتشوف إلى النبات المريع، أجد من نفسي نشاطا في أيامه، ويهيجني نشر رنده وخزامه، وابتهج ببانه وعراره، وأطرب لدهمه وديناره، واستثنى رياه، ويشوقني محياه، ويروقني منظره ومخبره، ويرق لي أصيله وسحره، ما تفتقت أكمامه، ألا تحرك وجد القلب وغرامه، ولا فتح نواره، إلا وأضرم في الحشا ناره.
من البسيط
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا ... من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النوروز في غلس الدجى ... أوائل ورد كن بالأمس نوما
ومن شجر رد الربيع لباسه ... عليه كما نشرت وشيا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشه ... وكان قذى للعين إذ كان محرما
ولم يكن عندي إذ ذاك باعث غرام، وليس لي هم في غلامة أو غلام، لا سبيل علي لسلطان البطالة، ولا طريق على قلبي لغزال ولو كان كالغزالة، اعجب ممن يهيم وجدا واستغرب متى شكا عاشق هجرا وصدا، وأفوق إلى توبة وجميل سهام كلام، وأسفه رأي قيس وعروة بن حزام، اعد ما نقل من أخبارهم زورا ومينا، وأستبعد من عقل أن يجلب لنفسه حينا، فبينما أنا أروح مسرحا طرفي بين الرياض، وسارحا بطرفي في تلك الربا والغياض، إذ عن لي سرب نساء، كالظباء سوانح، وفي تلك الحدائق سوارح، تبدو عليهن روعة الجمال، وترى فيهن أبهة الجلال، فاتبعهن نظرة المرتاد، وأنسيت ما تجلب العين على الفؤاد،.
القاضي الأرجاني.
من الطويل
تمتعتما يا ناظري بنظرة ... وأوردتما قلبي أمر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغي سعي اثنين في قتل واحد
فبدت إلي منهن فتاة، كأنها مهاة، تسفر عن وجه بديع الجمال، وتنثني فتخجل الأغصان في الميل والاعتدال، بعيدة مهوى القرط، حوراء المدامع، شهية ما فوق اللثات، مضية ما تحت البراقع، ترنو بألحاظ ريم، وتبسم عن در نظيم، ابن الرومي.
من الكامل
نظرت فأقصدت الفؤاد بسهمها ... ثم انثنت عنه فكاد يهيم
ويلاه إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن الميم
كان محياها بدر داجية، أو شمس سماء مصحية، ولا يقال صاحية، قد حار فيه الجمال، وضرجته حركات الدلال.
من الخفيف
أبرزوها مثل تهادي ... بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب
من الكامل
يا سالبا قمر السما بجماله ... ألبستني في الحزن ثوب سمائه
أشعلت قلبي فارتمى بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه
وللشعراء في وصف الخال معان أنيقة ومقاصد رشيقة ملكوا منها واضح الجدد والطريقة، وأتوا بالسحر الحلال على الحقيقة، قال ابن الساعاتي: من الكامل
ذو وجنة ما لاح مائل خالها ... بل لاح أسود مقلتي في مائها
وقال: من الكامل
ما الخال نقطة نون صدغك إنما ... قلبي بحبته حباك تلهفا
وقال الحاجري الاربلي: من مجزوء الخفيف
لك خال من فوق عرش عقيق قد استوى
بعث الصدغ مرسلا ... يأمر الناس بالهوى
وقال: من الطويل
عجبت لخال يعبد النار دائما ... بخدك لم يحرق بها وهو كافر
وأعجب منه أن صدغك مرسل ... يصدق في آياته وهو ساحر
فثنيت في أثرهن جوادي، وإنما تبعت فؤادي، وقد شغلني الحب عن التقية، وقادني الوجد قوة المطية، وأصبحت بعد ذلك الشماس، وملت عن التوحش إلى الإيناس، وهونت ما كنت استصعبه من لوم الناس، وجريت في طلق الصبا، طلق الصبا، وذهبت في نيل البغية مذهبا مذهبا، وأنشدت عاذلي وقد هاجت بلابلي،.
من الطويل
ألا ليقل من شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه فقد تجري الأمور على قدر

فدنوت من ذلك السرب، وأنا ذاهل اللب، معنى بشواغل الحب، وقلت وقد عقل الهوى لساني، وقيد الغرام جنابي، حيا الله هذه الوجوه النواضر، والمحاسن التي هي شرك النفوس، وقيد النواظر، أما ترثون لقتيل غرام، وأسير هيام، وحليف سقام، وصاحب دموع سجام، ومعنى قد عدم الجلد، وقارن الكمد، وملكت العيون فؤاده، ونفت عن جفنه رقاده، ترك الوقار، وكان من أهله وسلب القرار، لذهاب عقله، يسامر النجوم، ويساور الهموم، ويعاني حرق الغليل،ويعرض نفسه للهم العريض الطويل.
من الكامل
يبيت كما بات السليم مسهدا ... وفي قلبه نار يشب لها وقد
وقد هجر الخلان من غير ما قلى ... وأفرده الهم المبرح والوجد
فانبرت من بينهن تلك الظبية الأدماء، والغادة الحوراء، واسطة العقد، وفريدته، ودمية القصر، وخريدته، وقالت وأنت حيا الله دارك، ولا ابعد مزارك، وأكرم إيرادك، وأصدارك، ورفع قدرك، وأعلى منارك، ما الذي جشمك هذه الخطا، وعلام وقفت موقفا كنت نعد الوقوف فيه من الخطا، ومثلك لا يعذر إذا آتى غلطا، أو رام شططا، وكيف غررت بنفس كنت تصونها وأهنتها، وعهدي بك لا تهينها، وعلام أرخيت رسنها، حتى جرت في ميدانها، وأعطيتها في طلق الخلاعة فاضل عنانها، كيف أنسيت الحكم التي كنت نوردها، وهل صدقت بعوادي الهوى التي كنت تستبعدها، أين مواعظك في كف النظر، وزواجرك في غض البصر، فسقت إلى نفسك تعبا، وحملتها بالنظر إلينا على رغمك نصبا، أما علمت أن دم قتيل الهوى مباح، وانه لا حرج على قاتله ولا جناح، وان ناره لا يطلب، وهامته لا تشرب، ألم يقل الشاعر من الرجز
يا مغمدا في القلب سيف لحظه ... الله من دم بغير ثائر
ومن غرام ما له من أول ... فيك وليل ما له من آخر
وقال آخر وتروى للشافعي رضي الله عنه: من الطويل
خذوا بدمي ذاك الغزال فإنه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه أنني أنا عبده ... وفي مذهبي لا يؤخذ الحر بالعبد
هل أجدى ذلك الحذر، حين أوقعك القدر، أما تعلم أن من عير إنسانا ابتلى بدائه، ومن حكم على الأقضية فقد أزرى برأيه، فرابني معرفتها بالقديم والحديث، وأخذت أجاذبها أطراف الحديث، وقد علمت أنها المقصودة بالكلام، المهدية إلي حر الشوق والغرام، ومن القلوب على القلوب شواهد صادقة، والعين تعرف من عيني محدثها صحة الموافقة، فقلت من تعنين بهذه الأقوال، وإلى من الإشارة، بهذه الأحوال، ومن الحذر الذي أتى من مأمنه، والمغرر الذي ألبسه الغرام ثوب حزنه، فقالت اللهم غفراً الست الذي سارت في الآفاق أخباره، وظهرت على صفحات الأيام آثاره، وتنقلت تنقل الشمس رسائله وأشعاره،؟. الست ذا البيان الذي ينفث سحره في العقد، وصاحب اللالي المنظومة والدر البدر،؟. الست ذا الأشعار الناصعة، والخطب الرائعة والنوادر الشائعة، والمعاني التي كل الأسماع إليها مصيخة ولها سامعة، والرسائل التي هي لرسائل الأوائل قارعة، كم جريت في ميدان الأدب طلق العنان، وغيرت بمحاسنك في وجوه فضلاء الزمان، وأتيت بالأوابد الفرائد، والغرر والقلائد والملح الشوارد والمقطعات والقصائد، طالما ففخرت الأسماع على النواضر، وكم كتبت فما نوار الخمائل النواضر، من الطويل
كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست خطك بالسحر
فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر
فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر
فهل شعرك الشعري العبور، أم هل نثرك النثرة أم المنثور، أنت أنت في فضائلك التي لا تجاري، وآدابك أدبك فلا تساجل ولا تباري.
من الكامل
في خطة من كل قلب شهوة ... حتى كان مدادة الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كان مغيبة الأقذاء
ألقى إليك الفصحاء بالمقاليد، وأقر لك البحتري وعبد الحميد، والصاحب وابن العميد، وان شئت مزيد صفة فسلني عن المزيد،
من مخبر الأعراب أني بعدهم ... لاقيت رسطاليس والاسكندرا
ورأيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله زمانا وإلا عصرا
فسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا

فدهشت من فصاحة مقالها، وسحرتني بألفاظها وجمالها، وحرت فما أحرت جوابا، وقيدني العي فما افتتح خطابا، وقلت كفاك الله عين الكمال، من أين لربات الحجال. شقاشق فحول الرجال، وأنى لهذه الشمس المضيئة حدة هذه الفطنة والألمعية، وهل في قدرة هذه الغادة الظريفة الإتيان بهذه الألفاظ البليغة الشريفة، وخاطبتها ولبي ذاهل، ووجدي مقيم وصبري راحل، وعندي من حبها شغل شاغل، فقلت يا اخت الغزالة والغزال وثالثة الشمس والهلال، أفحمت لساني عن المقال وقطعت حجتي في الجدال، من الذي ينتصب لمعارضة هذه الألفاظ، وبم اتقي سهام هذه اللحاظ، وكيف لقلبي يد بسحرين، ومن أين لي قوة بذين، من الطويل
ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر منا ولا قطة
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
ولهم في وصف الحديث فنون ومعان كلها عيون. قال ابن الرومي: من الكامل
وحديثها السحر الحلال لو أنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ... ود المحدث أنها لم توجز
شرك العقول ونزهة ما مثلها ... للمطمئن وعقله المستوفر
وقال ابن حمديس الصقلي.
ذات لفظ تجني بسمعك منه ... زهراً في الرياض نداه طل
لا يمل الحديث منها معادا ... كانتشاق الهواء ليس يمل
وأنشدني السيد محي الدين محمد بن الطوزي الجعفري لنفسه: من البسيط
ومنطق كرضاب النحل مازجه ... مروق شابه بالمسك عاصره
جرى على السمع مثل الطيف خالسي ... وقام مستصحبا للقلب زائره
وما علمت لفكري في حلاوته ... أرق أوله أم راق آخره
وهكذا أشير إلى ما يعرض من المعاني أدنى إشارة، واقتصر على أخصر عبارة، فان الإكثار داعية الملال، والأنفس بالطبع تحب الثقل في الأحوال، ولو أردت مقالا لوجدت سبيلا إلى المقال، فقالت وقد خفرها وارد الخجل، وورد منها مواقع القبل، أمثلي يقعقع له بالشنان؟ أم تظن عقلي من عقول النسوان،؟ ما قدر كلامي، ولو كان درا، ومبلغ بياني ولو استحال سحراً، عند من تذعن له جهابذة النقد، ويسلم إليه أهل الحل والعقد، ويقر له حتى الحسود، ويعترف بفضله السيد والمسود، من الخفيف
وأرى الناس مجمعين على فضلك ما بين سيد ومسود
عرف العالمون فضلك بالعلم وقال الجهال بالتقليد
فقلت أقسم بقدرك الأهيف النضير، ووجهك البهي المنير، وطرفك الفاتن الفاتر، ولحظك الساجي الساحر، وقوامك الذابل الناضر، وورد خدك الجني، ودر ثغرك النقي، وخمر ريقك الشهي ونرجس لحظك البابلي، وليل شعرك الدجوجي، على صبح جبينك المضي، وريقتك المعسولة، ودرر ثغرك التي هي بماء الحياة مطلولة، انك املح من شمس، وأفصح من قس، وأنور من بدر، واغزر من بحر، وأضوا من نهار، وأجرى ألفاظا من صيب لا مدرار، قد أبنت في هذا المقال عن حقيقة السحر الحلال، ونطقت بما يحير أرباب العلوم، ويعجز فرسان المنثور والمنظوم، وجريت على الجدد، واستوليت على الأمد، وأفحمت فصحاء الرجال، ولديك يلقي البلغاء مخاريق العصي والحبال، فأنت أنت في الجمال والكمال، وعذوبة الألفاظ وحلاوة الدلال، من السريع
هويتها كالبدر في حسنها ... أخطأت بل أبهى من البدر
كأنها الشمس ولكنها ... تبدو على غصن نقا نضر
فاقت على كل ملاح الورى ... وفاق في أوصافها شعري
في ثغرها در وفي لفظها ... در وفي نظمي وفي نثري
وفي معانيها وما قلته ... في وصفها ما شئت من سحر

فقالت دع وصفي بما لا يصدقه وهمي وحدسي، ولا يثبت علمه في خيالي وحسي، أعرف الناس بنفسي، وهلم لنعيدها جذعة. ونقول في النسب الذي لأجله لزمنا هذه البقعة، فمعي من أترابي وصويحبات شبابي من هن في غرارة التصابي، وكلهن ينتظرن إيابي، وقد أضربهن لبثي، وطال عليهن مكثي،، وهذا النهار قد ذهب غير القليل، والشمس قد جنحت إلى الأصيل، ولم يبق سوى الرحيل، فابن عما في الضمير، وسل عن الفتيل والنقير، فشكوت إليها غلبة الهوى، وموجبات الجوى، والخوف من عادية النوى، فانصاعت متبسة، وعادت متكلمة، وقالت يا فديتك أتترفع ذيلك قبل المخاض وتدعي السغب قبل الإنقاض، كيف تشكو الغرام وأوصابه، وتستمقر ذعافه وصابه، وتعدد الوجد والقلق، وتصف السهر والأرق، وتدعي مسامرة النجم ومساورة الهم، ومكابدة الغليل والسهر، سحابة الليل الطويل، حتى وصلت السهاد، وهجرت النوم وإنما كانت هذه المعرفة اليوم.
من الطويل
أشوقا ولما تمض بي غير ليلة ... فكيف إذا راح المطي بنا عشرا
وكيف تقدمت هذه الأسباب على مسببها وهو محال، أم كيف أردت خداعي، وطالما خدع النساء الرجال، قدرتك على هذا الشان، ومعرفتك بعلم البيان، أجرت على لسانك الخلوب ما ليس له صورة في القلوب، فقلت قادرا وتلهو سادرا، لا ومن زين صبح الجبين بليل الشعر، وغرس في عذب الرضاب صغار الدرر، وخلق أقمارا أرضية أبهى من الشمس وأحسن من القمر، وحمل العيون بالكحل، ونصب الحدود أغراضا لموقع القبل، وأجرى فيها ماء الحياء فانبتت ورد الخجل، وأبدع في الجمع بين يواقيت الشفاه، ونرجس المقل، وأطلع في أغصان القدور رمان النهود، وأرسل وراد الشعور إلى الأرداف والخصور، وجعل الأسود الغلب فرائس نحور الحور، لست ممن يغتر بالأقوال المزخرفة، ولا ينخدع بالأسجاع المصففة، حتى استعلم أخبارك، وأقتص آثارك، وأسبر أحوالك، وأعلم ما عليك مما لك، وأرود مرادك، فأتحقق مرادك، وأسال عما عندك فؤادك، فإذا استحكم بك الهيام، وتمكن من قلبك الغرام، وأخبرت بما تعاني، وعرفت بالتجربة هذه المعاني، ونطق لسانك بما في قلبك، وظهرت شواهد الصدق على حبك، وشكوت مرارة الفراق، وذقت بعده حلاوة التلاقي، وجربت ما قيل في سهر الليل وطوله، وثبات نجومه وبطء قفوله، فهنالك إلى الاختيار ولى الخيار، وعلى قدر ما يتضح الحال، أكايلك بالمكيال، وميعادنا مثل اليوم بهذا المكان، وركضت إلى صواحبها ركض جواد الرهان فوقفت حائرا انظر إلى منيها واستخرج درر الدموع من أصداف أماقيها، من الطويل
وأصبحت من ليلى الغداة كناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
وأنشدت ما هو شرح حالي، وقد تضاعف بلبالي، من الطويل
لاموا على زفراته فشكا جوى ... واستغزروا عبراته فبكى دما
ركب اللجاجة في الغرام فكلما ... عنفوا عليه اللوم زاد وصمما
ولقد درى أن التهتك لم يفد ... قيسا ولا نفع البكاء متمما
وهي تمشى وتلتفت، وقد سلبت القلب وما اكتفت فاذكرتني شعرا كنت أنسيته دهرا، كشاجم.
من السريع
مستملح من كل أطرافه ... متحسن الإقبال والملتفت
لو بيعت الدنيا ولذتها ... بساعة من وصله ما وفت
سلطت الألحاظ منه على ... جسمي فلو أودت به ما اكتفت
واستعذبت روحي هواه فما ... تصحو ولا تسلو ولو أتلفت
فما كان إلا بمقدار ما غبا عن عياني، حتى اظلم علي مكاني، واعتراني جنون، وفاض عن عيني عيون من الكامل
ولقيت في حبك ما لم يلقه ... في حب ليلى قيسها المجنون
لكنني لم اتبع وحش الفلا ... كفعال قيس والجنون فنون
فقلت لغلام كان عبية أسراري. وجهينة أخباري، ويحك اقتص الأثر، وأوضح لي الخبر، واعرف الورد والصدر، وعرفني أين الكناس. ومن الناس، انطلقت مهرولا وأنشدت مستغربا.
من المتقارب
نظرت المها على غرة ... فعاينت شمسا وبدرا منيرا
وشاهدت إذ نظرت وانثنت ... غزالا غريرا وغصنا نضيرا
وعدت إلى داري، كاسف البال، سيئ الحال، مغلوب الجلد والاصطبار، مسلوب القلب والقرار، لا أجد أنسا بحاضر، ولا أهش لخليل ولا مسامر، من الطويل
إذا غبت لم اجزع لبعد مفارق ... سواك ولم أفرح بقرب مقيم
فيا ليتني أفديك من غربة النوى ... بكل خليل صادق وحميم

ومع الذي أجده من القلق التام وأجنة من الوجد والغرام، فأنا متطلع إلى عود الغلام: من الطويل
وإني إذا ما اشتقت ليلى وعزني ... إليها سلو أو تعذر مطمع
بعثت رسولي كي يراها فاجتلي ... سنا وجهها من وجه حين يرجع
وقيل في رسول الأحباب أشعارا أصفى من رائق الشراب، وارق من ماء المزن تحدر من متن السحاب، وأنشدني المولى الصالح الأعظم علاء الدين صاحب، الديوان أعز الله نصره لنفسه أيام دعاه الهوى، قلبي داعيه، وناداه الغرام فأجاب مناديه، أيام طلبنا في خدمته بالبيان والطيب، ونعمنا بلذة المبيت فيما شئنا من الطيب وجرينا في ميادين الصبا وركضنا إلى اللهو عنقا وخببا من البسيط
أيامنا بالحمى حييت أياما ... وزادك الله إجلالا وإعظاما
قد كنت بالأمس أحلاما بأنفسنا ... فما أصابك حتى صرت أحلاما
كانت لنا من عطيات الشباب فما ... دامت علينا ولا المعطى لها داما
وقال من الكامل
أعوام لهو كان ينسى طولها ... ذكر النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أردفت ... بجوى أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
منازل كانت مراتع الغزلان، ومطالع الوجوه الحسان، ومسانح الضباء الأونس، ومسارح المها الكوانس، ومطامح الأبصار، مطارح الإيراد والإصدار، وفواتح الملاذ والمسار، وبروج الكواكب الشوارق، ومجر الوالي ومجرى السوابق، وديار الأحباب وقرار النطف العذاب، ومجال الجذل والنشاط، ومحال اللهو والانبساط، ومشارق الأنوار، ومنابت النوار، ومنازل الأقمار، ومحاسن الآثار، وصاحب الأذيال، ومناخ الآمال، ومحط الرحال، ومصارع العشاق، وجوامع الرفاق فتركناها رغما، وفارقناها حتما، وعاد الزمان، فيها حربا، وكان سلما.
من الكامل
يا دهر كم لك مثلها من غدرة ... ولأنت اجدر أن تخون وتغدرا
جار الأحبة في قضايا حبهم ... فغدوت اظلم في القضاء وأجورا
أحبابنا النائين هل من عودة ... يصفو بها من عيشنا ما كدرا
قد طال في طول البعاد تعللي ... بعسى وليت وهل يكون وهل ترى
إذا مر ذكرها بالبال، ارتسمت فيلوح الخيال، انشدها لسان الحال،: من الطويل
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي وجددت عهدها ... وأني على أمثال تلك لحاسب
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
وللشعراء في الوقوف على الديار، والتردد في الآثار والبكاء في الأطلال، وتذكر أيام الوصال، معان ترقص لها الأسماع طربا، ويستشعر العشاق هما ونصبا اذكر لمعا من وشيها المرموق، وأعود إلى أبيات الخدوم. قال ذو الرمة: من الطويل
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولازال منهلا بجرعائك القطر
وقال أبو تمام:
وقفوا علي اللوم حتى خيلوا ... إن الوقوف على الديار حرام
لا مر يوم واحد إلا وفي ... أحشائه لمحلتيك غمام
وقال البحتري: من الطويل
رأى البرق مجتازا فصار بلا لب ... وأصباه من ذكر البخيلة ما يصبي
وقد عاج في أطلالها غير ممسك ... لدمع، ولا مصغ إلى عذل الركب
قال السيد الرضي: من الكامل
ولقد وقفت على منازلهم ... وطلوعها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب ... نضوي، وعج بعذلي الركب
وتلفت عيني، فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
وقد جاء السيد بما لا يرد حسنة، ولا يدفع، وغير في وجه من شكا وجع الليت والاخدع، وقال ابن الاردخل.
من المنسرح
وقفت فيها وآي ارسمها ... ممحوة بالمحول أحرفها
مكفكفا عبرتي وودي لو ... أني ابكي ولا اكفكفها
ماذا على الركب من أراقتها ... هل هي إلا بلوى أخففها
وقلت: مجزؤء البسيط
واستعدلي دمع السحاب فقد ... أفنيت دمعي على الرسوم الخوالي
واعد لي ذكر العقيق وأيام تقضت أيامه وليالي
فطلابي رجوع ما فات من ... عصر الصبي والشباب عين المحال
وسؤالي رسما محيلا ونؤيا ... عاطلا من تعللات الضلال
فانظر إلى الهر وتنقله، واعجب من تغير كل حال وتبدله، وثق بمن لا يحول ولا يزول ولنرجع إلى أبيات المخدوم في وصف الرسول، جاءت إليه امرأة من الترك، قد نظمت معاني الجمال في سلك.
من الطويل
أبادية الأعراب عني فإنني ... بحاضرة الأتراك نيطت علائقي
واهلك يا نجل العيون فإنني ... جننت بهذا الناظر المتضايق
كان القمر وهبها جماله والغصن منحها لينه واعتداله، وكانت رسولا من حبيبته الحاكمة على مهجته فاجتمعنا في الخلد من غربي دجلة، فأنشدني لنفسه.
من الطويل
كالصبح قد وافى رسولك فانجلى ... ليل الهموم وذاك فال ناطق
فعملت أنك لا محالة زائري ... أبدا رسول الشمس صبح صادق
وهو معنى أبدع فيه غاية الإبداع، وملأ بالصواب فيه خروق الأسماع، فجاء كما ترى كالتبر المسبوك، وصدق: أن ملوك الكلام كلام الملوك، فعجب لحلاوة مقصده، وحسن مودته فأنشدته بديها: من الطويل
تعشقت رب الحسن لما رايته ... عيانا فجاهدت الهوى في سبيله
ومن حجبت عنه محاسن وجهه ... فغايته أن يهتدي برسوله
فجاء غاية في معناها، نهاية في صحة مغزاهما، وقال زهير المصري: من الطويل
رسول الرضى أهلا وسهلا ومرحبا ... حديثك ما أحلاه عندي وأطيبا
أيا محسنا قد جاء من عند محسن ... ويا طيبا أهدى من القول طيبا
ويا حاملا ممن احب رسالة ... عليك سلام الله ما هبت الصبا
وغلامي وان يكن رسولا يشبهه قليلا، وأنا اذكر الشيء عند ذكر مثله، أو ما هو مأخوذ من اصله، فبينا أنا ارسب في الفكر وأعوم، واستدعي السكون والكرى، وكلاهما معدوم، إذا عاد الرائد، فقلت: أين الصلة يا عائد، هل من جابية خبر، أم هل من دلالة على اثر، ابن حقيقة أمرك، ودلني على خبرك، وخبرك، أين الحبيب خبر فعهدك به قريب واشف قلبا قد احسر به الوجيب، وجفنا أقرحه البكاء والنحيب، من الخفيف
من راني قبلت عين رسولي ... ظن أن الرسول جاء بسولى
إنما حين قال أبصرت مأمولك قبلت من رأى مأمولي أن عيناً تأملت ذلك الوجه أحق العيون بالتقبيل قل ولا تكتم فتيلا ولا نقيرا، واعد حديثهم وزده تكريرا، من الطويل
اعد ذكر نعمان اعد أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع
فإن قر قلبي فاتهمه وقل له ... بمن أنت بعد العامرية مولع
ولو أن هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى قلت دمع مضيع
لقيت أمورا فيك لم الق مثلها ... واعظم منها منك ما أتوقع
فقال: تبعتهن وهن يتمايلن هيفا ولينا، ويتلفن شمالا ويمينا، فتظنهن أغصانا لدانا تقل أقمارا سافرة وظباء عينا من المتقارب
سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدار عونا
سللن سيوفا ولاقيننا ... فلا تسال اليوم ماذا لقينا
يمشين على تؤدي وسكون، وقد حبسن الأبصار وتمنطقن بالعيون، وقد أجاد أبو الطيب حيث قال: - من الوافر
وخصر تثبت الأبصار فيه ... كان عليه من حدق نطاقا
وقال القاضي الارجاني: من الكامل
جاءت بقد كالقضيب غدا ... بلواحظ العشاق منتطقا
وبدت وقد أبدت محاسنها ... خمسا تبين عذر من عشقا
ليلا على صبح على قمر ... في غصن بان في كثيب نقا
ونواظرا مخلوقة فتنا ... قطعت على أبصارنا الطرفا
وبينهن سيدة قلبك، وخازنة حبك، وسالبة لبك، وصاحبة هواك. المخامر، وجالبة همك المسامر، وهي تفوقهن جمالا وتهلوهن كمالا، وتفتن دلالا وتسبي العقول ميلا واعتدالا.
البحتري: من الخفيف
أعطيت بسطة على الناس حتى ... هي صنف والحسن في الناس صنف
نعمة الغصن إن تأود عطف ... منه عن هزة تماسك عطف
فلم أزل اقتص آثارهن، وأبلو أخبارهن حتى وصلن دجلة، طما، وزخر وهما ماؤها، وهمر وطغى مدها، وقهر ونهى السيل فيها وأمر، فكان الموج هضاب، أو ابل صعاب، أو قطع سحاب، أو ليل صد واجتناب، والسفن كأنها عقارب، وأذنابها شائلة، وهي على مثل الصرح المذاب جائلة كما قال السري الرفاء الموصلي: من الطويل
ولا وصل إلا أن أروح مغررا ... على ادهم من فوق اخضر مزبد
شوائل أذناب يخيل أنها ... عقارب دبت فوق صرح ممرد
وقال البحتري، من الكامل
ورمت بنا سمت العراق ايانق ... سحم الخدود لغامهن الطحلب
من كل طائرة بخمس خوافق ... دعج كما ذعر الظليم المهذب
وقلت:
ورب ليل غابت شوائبه ... والبدر كالشمس لاح في الأفق
كأنها جزعة يمانية ... تصقل درجا من ابيض الورق
ركبت فيه سفينة تسبق البرق وهوج الرياح في طلق فقلت ويلك، خل علم البيان، وعرفني حقيقة الشان، قال، فجلسن على شاطئ دجلة متأسفات على الجسور متخوفات من العبور، حذرات من ركوب السفن، في هذا التيار مشفقات من حوض ذلك الغمار دهشات من اضطرب. ذلك البحر الزخار، وأنا بحيث أراهم واسمع نجواهم، عدي بن زيد الرقاع العاملي: من الكامل
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه احور من جاذر جاسم
وسنان اقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم
فقالت إحداهن: لو علمنا إنا ندفع إلى هذا الخطر، ونقدم على هذا الغرر، لما تحلحلت من ذلك المكان، ولسلمت أمرنا الليلة التي تعنيك بالاسم واللقب، وتأتي من شكرك بالعجب، فهو يحب الضيف المفاجئ في الليل الداجي، ويميل إلى الطارق في الجنح الغاسق، فيهش مبتسما، وينشد مترنما: حاتم: من الرجز
أوقد فإن الليل ليل قر ... والريح يا واقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
هذا إلى أخلاق أجري من الزلال، وارق من نسيم الشمال. وأشعار كالسحر الحلال، وأخبار أطيب من ذكر ليالي الوصال، البحتري: من الخفيف
من معان لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
جزن مستعمل الكلام اختبارا ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المرام البعيد فقالت منهن دواء دائك، ومهدية شفائك، والله لو بتنا الليلة عنده، لأحييناها سمرا وجدالا، وأحييناه أنسا ووصالا، ومنعمنا به وأنعمناه بالا، ولقطعناها ليلة انضر من أيام الشباب، وأحلى من رضاب الأحباب، وفزنا بمفاكهته، وشركناه في شرابه وفاكهته، وجرينا معه في فنون وعيون، واجمعنا بين ليلى والمجنون، فقالت أخرى إن كان عزمكم صادقا، فلن تجددوا إلا موافقا، وأنا رسولكم إليه، والقادمة بأخباركم عليه، فما اربحها من تجارة وأحلاها عنده من بشارة فأفوز بوده والثواب، واحصل أجر الشهداء في الجمع بين الأحباب، من الخفيف
إن من بشر المحب بوصل ... وسعى في اجتماعه بالحبيب
لجدير بكل حمد وشكر ... وثواب من المجازى المثيب
فقالت أخرى: بل المصلحة إن نغشاه من غير ميعاد، ونقصده وما أخذ في استعداد، فيتضح لنا حاله عند مشاهدته، ونقرا في ضميره من أسرته، ويكون محبوبه البشير، ويطلع على ليل الهم قمر السرور المنير، أما سمعتن من قال يصف هذه الحال: من المنسرح
افدي حبيبا مثل بدر الدجى ... من فوق لدن العقد مياد
صدوده يذكي غليل الجوى ... والوصل يروى غلة الصادي
رأى جنوني وغرامي به ... فزارني من غير ميعاد

فقالت مصباح النواظر وراحة الأرواح والخواطر، وصقل الإفهام، ونهاية الأقدام، ودرة الغواص، وظبية القناص، وفتنة العام والخاص، اعلمن انه لا نجاة له من الغرام، ولا شفاء من السقام، قد أسرته تلك الإشارات، وقادته إلى الهوى آياته البينات، كم أدعي الحماسة يوم الجلاد، فغادرته تلك المقامات، مسلوب الفؤاد، وحملته العين على تقتحم الخطر، وساقه إلى الصبابة الجمال المعتبر، وملكته العيون، وسلبته السكون، وانتم إخوان الصفاء، وذوات الوفاء، والظفر بمثله غنيمة باردة ونعمة زائدة، وإهمال أمره دليل على فساد الرأي وأفنه، والاهتمام بما يحفظ وده صواب تفهم المصالح من ضمنه، وأنا أرى أنا متى زرناه استحكم وجده، وكمده وغلب صبره وجلده، والمصلحة أن تنفذ إليه من يعرفه. مواقع هذه المنة وينبهه على قطف ثمار الجنة، والتفتت كالظبي إذا رنا، والغصن إذا انثنى فرأتني مستترا وأنا ارعد حذرا، فقالت: هلم يا غلام واقر أستاذك السلام، وقل قد أظفرك حكم القدر المتاح، ونحن ضيوفك إلى الصباح، فهيئ جميع الأسباب، وانظرنا عند الباب، وأخل الدار من الأغيار، واشكر معاونة الأقدار، وانشده عني وصرح ولا تكني: من المنشرح
جاد بما تطلبه الدهر ... وزار في جنح الدجى البدر
أحوى رشيق القد فتانه ... يخجل منه الغصن النضر
في لفظه خمر وفي ريقه ... خمر وفي وجنته خمر
فقلت: جعلت فداك، ومن أستاذي الذي ابلغه معنى هذا الكلام، ومن أنا من هذا الأنام، ومن الذي ابشره، وما البشارة، والى من وقعت هذه الإشارة، فقالت: ويلك عد عن الإطالة، فما أنفذت إلا لهذه الحالة، فقد جاءكم ما لم يكن في الحساب، ولعن الله رزقا لا يدق الباب، وقد كنتم تقنعون من العين بالأثر، ومن العيان بالخبر، فدع موارد النزاع والصداع، فقد كشفنا عن القناع، وسارعنا إلى اللقاء مع اقرب العهد بالوداع، وانشده: من الخفيف كنت ترضى بالطيف إن عاود النوم جفونا كما زعمت قصارا فجرت بالذي تريد المقادير ووافاك من تحب وزارا فلم املك إعادة جواب، ولا إطالة خطاب، وقد سابقت إليك هوج الرياح، وأتيتك في الليل بشمس الصباح، فقم على قدميك، وتلق بالترحاب من قدم إليك، فهذا لم يكن ببالك، ولا تصور في خيالك، وانشد أبياتك الأمثال في وصفك هذه الحال: من السريع
أهلا وسهلا بك من مؤنس ... ينظر عن طرف الطلا النافر
أهلا وسهلا بك من زائر ... يخجل نور القمر الزاهر
أهلا وسهلا بك يا نزهه ... وراحة للقلب والناظر
رددت بالقرب من زمان الصبى ... وطيب عيشى السالف الغابر
وعيشة دلت على حاجز ... جاد الحيا السكب ربا حاجز
فكدت أطير فرحا بخبره السار، وقمت مرحا إلى باب الدار، وقلت رح إلى تلقي الضيف الكريم، وعد أمامه على خط مستقيم، واختصر الطريق، وأحذر التعويق، فقلبي إلى قدومه مائل، ودمع الفرح على خدي سائل، فمر يعد ووقفت أشدو: من المنسرح
إن تم ما جاء رسولي به ... غفرت ما أسلفه الدهر
وإن وفا الحب بميعاده ... وبات عندي ولي الأمر
سمحت بالنفس جزاء له ... إذ لا يؤدي حقه الشكر
وإنا في أثناء ذلك على مثل حر النار، من طول الترقب والانتظار، استنشق ريا الوصل من جهته، وأتطلع إلى قدومه وأوبته، فإذا به قد عاد تاعسا، جده خائبا، قصده مغلولا حده، كابيا زنده، باديا وجومه، زائدة همومه، متجهمة أسرته، نائية مسرته، قد عبس وجهه، واتجه عبوسه، وشمس غائبه، وغابت شموسه، وخبت نار نشاطه، وانقبض بعد انبساطه: من الطويل
وأدمعه تجري على صحن خده ... ونار الأسى تذكي بأضلعه جمرا
وقد صعدت أنفاسه عبراته ... فمقلته عبرى ومهجته حرى


.

2-flaming-june-frederic-leighton.jpg
 
أعلى