قصة ايروتيكية ألف ليلة وليلة - حكاية أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام

ومما يحكى أيضاً أنه في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك عظيم الشأن ذو عز وسلطان وكان له وزير يسمى ابراهيم وكانت له ابنة بديعة الحسن والجمال فائقة في البهجة والكمال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد بأن بنت الوزير كانت فائقة البهجة والكمال ذات عقل وافر وأدب باهر، إلا أنها تهوى المنادمة والراح والوجوه الملاح ورقائق الأشعار ونوادر الأخبار تدعو العقول إلى الهوى رقة معانيها كما قال فيها بعض واصفيها:

كلفت بها فتانة الـتـرك والـعـرب = تجادلني في الفقه والنـحـو والأدب
تقول أنا المفعول بي وخفضـتـنـي = لماذا وهذا فاعل فلـم أنـتـصـب
فقلت لها نفسي وروحي لك الـفـدا = ألم تعلمي أن الزمان قد انـقـلـب
وإن كنت يوماً تنكـرين انـقـلابـه = فها انظري ما عقدة الرأس في الذنب

وكان اسمها الورد في الأكمام، وسبب تسميتها بذلك فرط رقتها وكمال بهجتها وكان الملك محباً منادماً لكمال أدبها، ومن عادة الملك أنه في كل عام يجمع أعيان مملكته ويلعب بالكرة فلما كان ذلك اليوم الذي يجمع فيه الناس للعب بالكرة جلست ابنة الوزير في الشباك لتتفرج فبينما هم في اللعب إذ لاحت منها التفاتة فرأت بين العسكر شاباً لم يكن أحسن منه منظراً ولا أبهى طلعة، نير الوجه ضاحك السن طويل الباع واسع المنكب فكررت مراراً فيه النظر فلم تشبع من النظر فقالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب المليح الشمائل الذي بين العسكر؟ فقالت لها: يا بنتي الكل ملاح فمن هو فيهم؟ فقالت لها: اصبري حتى أشير لك عليه، ثم أخذت تفاحة ورمتها عليه فرفع رأسه فرأى ابنة الوزير في الشباك كأنها البدر في الأفلاك، فلم يرد إليه طرفه وهو بعشقها مشغول الخاطر فأنشد قول الشاعر:

أرماني القواس أم جفنـاك = فتكا بقلب الصب حين رآك
وأتاني السهم المفوق برهة = من جحفل أم جاء من شباك

فلما فرغ اللعب قالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب الذي أريته لك؟ قالت اسمه أنس الوجود، فهزت رأسها ونامت في مرتبتها وقدحت فكرتها، ثم صعدت الزفرات وانشدت هذه الأبيات:

ما خاب من سماك أنس الوجود = يا جامعاً ما بين أنس الوجـود
يا طلعة البدر الذي وجـهـه = قد نور الكون وعم الـوجـود
ما أنت إلا مفرد في الـورى = سلطان ذي حسن وعنده شهود
حاجبك النون التـي حـررت = ومقلتاك الصاد صنع الـودود
وقدك الغصن الرطيب الـذي = إذا دعي في كل شيء يجـود
قد فقت فرسان الورى سطوة = ولم تزل بفرط حسنك تسـود

فلما فرغت من شعرها كتبته في قرطاس ولفته في خرقة الحرير مطرزة بالذهب ووضعته تحت المخدة وكانت واحدة من داياتها تنظر إليها فجاءتها وصارت تمارسها حتى فاقت وسرقت الورقة من تحت المخدة وقرأتها، فعرفت أنها حصل لها وجد بأنس الوجود وبعد أن قرأت الورقة وضعتها في مكانها فلما استفاقت سيدتها الورد في الأكمام من نومها قالت لها: يا سيدتي إني لك من الناصحات وعليك من الشفيقات اعلمي أن الهوى شديد وكتمانه يذيب الحديد ويورث الأمراض والأسقام وما على من يبوح بالهوى ملام فقالت لها الورد في الأكمام: يا دايتي وما دواء الغرام؟ قالت: دواؤه الوصال قالت: وكيف يوجد الوصال؟ قالت: يا سيدتي يوجد بالمراسلة ولين الكلام، وإكثار التحية والسلام فهذا يجمع بين الأحباب وبه تسهل الأمور والصعاب وإن كان ذلك أمر يا مولاتي فانا اولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك.

فلما سمعت منها الورد في الأكمام ذلك طار عقلها من الفرح لكن أمسكت نفسها عن الكلام حتى تنظر عاقبة أمرها وقالت في نفسها: إن هذا الأمر ما عرفه أحد مني فلا أبوح به لهذه المرأة إلا بعد أن أختبرها فقالت المرأة: يا سيدتي إني رأيت في منامي كأن رجلاً جاءني وقال لي: أن سيدتك وأنس الوجود متحابان فمارسي أمرهما واحملي رسائلهما واقضي حوائجهما واكتمي أمرهما وأسرارهما يحصل لك خير كثير وهاأنا قد قصصت ما رأيت عليك والأمر إليك فقالت الورد في الأكمام لدايتها لما أخبرتها بالمنام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام قالت لدايتها لما أخبرتها بالمنام الذي رأته: هل تكتمين الأسرار يا دايتي فقالت لها: كيف لا أكتم الأسرار وأنا من خلاصة الحرار فأخرجت لها الورقة التي كتبت فيها الشعر وقالت لها: اذهبي برسالتي هذه إلى أنس الوجود، فلما دخلت عليه قبلت يديه وحيته بألف سلام ثم أعطته القرطاس فقرأه وفهم معناه ثم كتب في ظهره هذه الأبيات:

أعلل قلبي في الـغـرام وأكـتـم = ولكن حالي عن هـواي يتـرجـم
وإن فاض دمعي قلت جرح بمقلتي = لئلا يرى حالي العذول فـيفـهـم
وكنت خالياً لست أعرف ما الهوى = فأصبحت صباً والـفـؤاد مـتـيم
رفعت إليكم قصتي أشتكـي بـهـا = غرامي ووجدي كي ترقواوترحموا
وسطرتها من دمع عيني لعـلـهـا = بما حل بي منكم إليكم تـتـرجـم
رعى الله وجهاً بالجمال مـبـرقـاً = له البدر عبد والكواكـب تـخـدم
على حسن ذات ما رأيت مثيلـهـا = ومن ميلها الأغصان عطفاً تتعلـم
وأسألكم من غير حمـل مـشـقة = زيارتنا إن الوصـال مـعـظـم
وهبت لكم روحي عسى تقبلونـهـا = فلي الوصل خلد والصدود جهنـم

ثم طوى الكتاب وقبله واعطاه لها وقال لها: يا داية استعطفي خاطر سيدتك فقالت له: سمعاً وطاعة ثم أخذت منه المكتوب ورجعت إلى سيدتها وأعطتها الققرطاس فقبلته ورفعته فوق رأسها ثم فتحته وقرأته وفهمت معناه وكتبت في أسفله هذه الأبيات:

يا من تولع قلبـه بـجـمـالـنـا = أصبر لعلك في الهوى تحظى بنـا
لما علمـنـا أن حـبـك صـادق = وأصاب قلبك ما أصاب فـؤادنـا
زدناك فوق الوصل وصلاً مثـلـه = لكن منع الوصل من حجـابـنـا
وإذا تجلى الليل من فرط الـهـوى = تتوقد النـيران فـي أحـشـائنـا
رجعت مضاجعنا الجنوب وربمـا = قد برح التبريح في أجسـامـنـا
الفرض في شرع الهوى كتم الهوى = لا ترفعوا المسبول من أستـارنـا
وقد انحشى مني الحشا بهوى الرشا = يا ليته ما غاب عـن أوطـانـنـا

فلما فرغت من شعرها طوت القرطاس وأعطته للداية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الورد في الأكمام طوت القرطاس وأعطته للداية فأخذته وخرجت من عند الورد في الأكمام بنت الوزير فصادفها الحاجب وقال لها: أين تذهبين؟ فقالت: إلى الحمام وقد انزعجت منه فوقعت الورقة حين خرجت من الباب وقت انزعاجها. هذا ما كان من امرها. وأما ما كان من أمر الورقة فإن بعض الخدام رآها مرمية في الطريق فأخذها ثم أن الوزير خرج من باب الحريم وجلس على سريره فقصد الخادم الذي التقط الورقة فبينما الوزير جالس على سريره وإذا بذلك الخادم تقدم إليه وفي يده الورقة وقال له: يا مولاي إني وجدت هذه الورقة مرمية في الدار فاخذتها فتناولها الوزير من يده وهي مطوية فرأى فيها الأشعار التي تقدم ذكرها فقرأها وفهم معناها ثم تأمل كتابتها فرآها بخط ابنته فدخل على أمها وهو يبكي بكاءً شديداً حتى ابتلت لحيته. فقالت له زوجته: ما أبكاك يا مولاي؟ فقال لها: خذي هذه الورقة وانظري ما فيها فأخذت الورقة وقرأتها فوجدتها مشتملة على مراسلة من بنتها الورد في الأكمام إلى أنس الوجود فجاءها البكاء لكنها غلبت في نفسها وكفكفت دموعها وقالت للوزير: يا مولاي إن البكاء لا فائدة فيه وإنما الرأي الصواب أن تبصر أن تتبصر في أمر يكون فيه صون عرضك وكتمان أمر ابنتك وصارت تسليه وتخفف عنه الأحزان فقال لها: إني خائف على ابنتي من العشق اما تعلمين أن السلطان يحب أنس الوجود محبة عظيمة ولخوفي من هذا الأمر سببان: الأول من جهتي وهو أنها ابنتي والثاني من جهة السلطان وهو أن أنس الوجود محظي عند السلطان وربما يحدث من هذا أمر عظيم فما رأيك في ذلك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير لما أخبر زوجته بخبر ابنته وقال لها: فما رأيك في ذلك؟ قالت له: اصبر علي حتى أصلي صلاة الإستخارة ثم إنها صلت ركعتين سنة الإستخارة فلما فرغت من صلاتها قالت لزوجها: في وسط بحر الكنوز جبلاً يسمى جبل الثكلى وسبب تسميته بذلك سيأتي وذاك الجبل لا يقدر على الوصول إليه أحد إلا بالمشقة فاجعل لها موضعاً هناك فاتفق الوزير مع زوجته على أن يبني فيه قصراً منيعاً ويجعلها فيه ويضع عندها مؤونتها عاماً بعد عام ويجعل عندها من يؤنسها ويخدمها ثم جمع النجارين والبنائين والمهندسين وأرسلهم إلى ذلك الجبل فبنوا لها قصر منيعاً لم ير الراؤون ثم هيأ الزاد والراحلة ودخل على ابنته في الليل وأمرها بالسير فأحس قلبها بالفراق فلما خرجت ورأت هيئة الأسفار بكت بكاءً شديداً وكتبت على الباب تعرف أنس الوجود بما جرى لها من الوجد الذي تقشعر منه الجلود ويذيب الجلمود ويجري العبرات والذي كتبته هذه الأبيات:

بالـلـه يا دار إن مـر ضـحـى = مسلـمـاً بـإشـارات يحـيينـا
اهديه منا سلاماً زاكـياً عـطـرا = لأنه لـيس يدري أين أمـسـينـا
ولست أدري إلى أين الرحيل بنـا = لما مضوا بي سريعاً مستخـفـياً
في جنح ليل وطير الأيل قد عكفت = على الغصن تباكينا وتـنـعـينـا
وقال عنها لسان الحال واحـربـاه = من التفرق ما بين المـحـبـينـا
لما رأيت كؤوس البعدقد مـلـئت = والدهر من صرفها بالقهر يسقينا
مزجتها بجميل الصبر معـتـذراً = وعنكم الآن ليس الصبر يسلـينـا

فلما فرغت من شعرها ركبت وساروا بها يقطعون البراري والقفار والأوعار حتى وصلوا إلى بحر الكنوز ونصبوا الخيام على شاطئ البحر ومدوا لها مركباً عظيمة وأنزلوها فيها هي وعائلتها وقد أمرهم أنهم إذا وصلوا إلى الجبل وأدخلوها في القصر هي وعائلتها يرجعون بالمركب وبعد أن يطلعوا من المركب يكسرونها فذهبوا وفعلوا جميع ما أمرهم به ثم رجعوا وهم يبكون على ما جرى. هذا ما كان من أمرهم. وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه قام من نومه وصلى الصبح ثم ركب وتوجه إلى خدمة السلطان فمر في طريقه على باب الوزير على جري العادة لعله يرى أحداً من أتباع الوزير الذين كان يراهم ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدم ذكره مكتوباً عليه. فلما غاب عن وجوده واشتعلت النار في أحشائه ورجع إلى داره ولم يقر له قرار ولم يزل في قلق ووجد إلى أن دخل فكتم أمره وتنكر وخرج في جوف الليل هائماً على غير طريق وهو لا يدري أين يسير فسار الليل كله وثاني يوم إلى أن اشتد الحر وتلهبت الجبال واشتد عليه العطش فنظر إلى شجرة فوجد بجانبها جدول ماء يجري فقصد تلك الشجرة وجلس في ظلها على شاطئ ذلك الجدول وأراد أن يشرب فلم يجد للماء طعم في فمه وقد تغير لونه واصفر وجهه وتورمت قدما من المشي والمشقة فبكى بكاءً شديداً وسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:

سكر العاشق في حب الـحـبـيب = كلـمـا زاد غـرامـاً ولـهـيب
هائم فـي الـحـب صـب تــائه = ما لـه مـأوى ولا زاد يطــيب
كيف يهنأ العيش لـلـصـب الـذي = فارق الأحباب ذا شيء عـجـيب
ذبـت لـمـا ذكـــا وجـــدي = بهم وجرى دمعي على خدي صبيب
هل أراهـم أو أرى ربـعـهــم = أحداً يبرى به القـلـب الـكـئيب

فلما فرغ من شعره بكى حتى بل الثرى ثم قام من وقته وساعته وسار من ذلك المكان فبينما هو سائر في البراري والقفار إذ خرج عليه سبع رقبته مختنقة بشعره ورأسه قدر القبة وفمه أوسع من الباب وأنيابه مثل أنياب الفيل فلما رآه أنس الوجود أيقن بالموت واستقبل القبلة وتشهد واستعد للموت وكان قد قرأ في الكتب أن من خادع السبع انخدع له له لأنه ينخدع بالكلام الطيب وينتحي بالمديح فشرع يقول له: يا أسد الغابة يا ليث الفضاء يا ضرغام يا أبا الفتيان يا سلطان الوحوش إنني عاشق مشتاق وقد أتلفني العشق والفراق وحين فارقت الأحباب غبت عن الصواب فاسمع كلامي وارحم لوعتي وغربتي. فلما سمع الأسدمقالته تأخر عنه وجلس مقعياً على ذنبه ورفع رأسه إليه وصار يلعب ذنبه ويديه، فلما رأى أنس الوجود هذه الحركات أنشد هذه الأبيات:

أسد البيداء هل تفـلـتـنـي = قبل ما ألقى الذي تـيمـنـي
لست صيداً لا ولا بي سمـن = فقد من أهواه قد أسقمـنـي
وفراق المحب أضنى مهجتي = فمثالي صورة فـي كـفـن
يا أبا الحرث يا لث الوغـى = لا تشمت عاذلي في شجنـي
أنا صب مدمعي غـرقـنـي = وفراق الحب قد أقلـقـنـي
واشتغالي في دجى الليل بهـا = عن وجودي في الهوى غيبني

فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه بلسانه ومشى قدامه وأشار إليه أن اتبعني ولم يزل سائراً وهو معه ساعة من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل فرأى أثر المشي في البراري فعرف أن ذلك الأثر أثر مشي قوم بالورد في الأكمام فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد يتبع الأثر وعرف أنه أثر مشي محبوبته رجع الأسد إلى حال سبيله.

وأما أنس الوجود فإنه لم يزل ماشياً في الأثر أياماً وليالي حتى أقبل على بحر عجاج متلاطم الأمواج ووصل الأثر إلى شاطئ البحر وانقطع فعلم أنهم ركبوا البحر وساروا فيه وانقطع رجاؤه منهم، والتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً في البرية فخشي على نفسه من الوحوش فصعد على جبل عال فبينما هو في الجبل إذ سمع صوت آدمي يتكلم من مغارة فصغى إليه وإذا هو عابد قد ترك الدنيا واشتغل بالعبادة، فطرق عليه المغارة ثلاث مرات فلم يجبه العابد فصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

كيف السبيل إلى أن أبلـغ الـربـا = وأترك الهم والتكدير والتـعـبـا
وكل هول من الأهوال شـيبـنـي = قلباً ورأساً مشيباً في زمان صبـا
ولم أجد لي معيناً في الغـرام ولا = خلاص يخفف عني الوجد والنصبا
وكم أكابد في الأشواق مـن ولـه = كأن دهري علي الآن قد انقلـبـا
وارحمتاه لصب عـاشـق قـلـق = كأس التفرق والهجران قد شربـا
فالنار في القلب والأحشاء قد محيت = والعقل من لوعة التفريق قد سلبـا
ما كان أعظم يوم جئت منزلـهـم = وقد رأيت على الأبواب ما كتـبـا
بكيت حتى سقيت الأرض من حرق = لكن كتمت على الدانين والغـربـا
يا عابداً قد تغاضى في مغـارتـه = كأن ذلك طعم العشق وانسـلـبـا
وبعـد هـذا وهـذا كـلـه فـإذا = بلغت قصدي فلا هماً ولا تعـبـا

فلما فرغ من شعره وإذا بباب المغارة قد انفتح وسمع قائلاً يقول: وارحمتاه، فدخل الباب وسلم على العابد وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي أنس الوجود، فقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟ فقص عيه قصته من أولها إلى آخرها وأخبره ما جرى له فبكى العابد وقال له: يا أنس الوجود إن لي في هذا المكان عشرين عاماً ما رأيت فيه أحداً إلا بالأمس، فإني سمعت بكاءً وغواشاً فنظرت إلى جهة الصوت فرأيت ناساً كثيرين وخياماً منصوبة على شاطئ البحر وأقاموا مركباً ونزل فيه قوم منهم وساروا به في البحر ثم رجع بالمركب بعض من نزل فيه وكسروه وتوجهوا إلى حال سبيلهم، وأظن أن الذين ساروا على ظهر البحر ولم يرجعوا هم الذين أنت في طلبهم يا أنس الوجود وحينئذٍ يكون همك عظيماً وأنت معذور، ولكن لا يوجد محب إلا وقد قاسى الحسرات، ثم أنشد العابد هذه الأبيات:

أنس الوجود خلي البال تحـسـبـنـي = والشوق والوجد يطويني وينشـرنـي
إني عرفت الهوى والعشق من صغري = من حين كنت صبياً راضع الـلـبـن
مارسته زمناً حـتـى عـرفـت بـه = إن كنت تسأل عني فهو يعـرفـنـي
شربت كأس الجوى من لوعةٍ وضنـى = فصرت محواً بهـمـن رقة الـبـدن
قد كنت ذا قوة لكـن هـي جـلـدي = وجيش صبري بأسياف اللحاظ فـنـي
لا ترتجي في الهوى وصلاً بغير جفـا = فالضد بالضد مقرون مدى الـزمـن
قضى الغرام على العشاق أجمعـهـم = إن السلـو حـرام بـدعة الـفـنـن

فلما فرغ العابد من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن العابد لما فرغ من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه وتباكيا حتى دوت الجبال من بكائهما. ولم يزالا يبكيان حتى وقعا مغشياً عليهما، ثم أفاقا وتعاهدا على أنهما أخوان في عهد الله تعالى، ثم قال العابد لأنس الوجود: أنا في هذه الليلة أصلي وأستخير الله على شيء تعمله فقال له أنس الوجود: سمعاً وطاعة.

هذا ما كان من أنس الوجود، واما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لما وصلوا بها إلى الجبل وأدخلوها القصر ورأته ورأت ترتيبه بكت وقالت: والله إنك مكان مليح غير أنك ناقص وجود الحبيب فيك ورأت في تلك الجزيرة أطياراً فأمرت بعض أتباعها أن ينصب لها فخاً ويصطاد به منها وكل ما اصطاده يضعه في أقفاص من داخل القصر ففعل ما أمرته به، ثم قعدت في شباكالقصر وتذكرت ما جرى لها وزاد بها الغرام والوجد والهيام فبكت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:

يا لمن أشتكي الغرام الـذي بـي وشجوني وفرقتني عن حبـيبـي
ولهيباً بين الـضـلـوع ولـكـن = لست أبديه خفـية مـن رقـيب
ثم أصبـحـت رق عـود خـلال = من بـعـاد وحـرقة ونـحـيب
أين عين الحبيب حتـى تـرانـي = كيف أصبحت مثل حال السلـيب
قد تعدو علـي إذ حـجـبـونـي = في مكان لم يستطعه حـبـيبـي
أسأل الشمس حمل ألـف سـلام = عند وقت الشروق ثم الـغـروب
أحبيب قد أخجل البدر حـسـنـاً = منذ تبدى وفاق قد الـقـضـيب
إن حكى الورد خده قـلـت فـيه = لست تحكي إن لم تكن من نصيبي
إن في ثغره لـسـلـسـال ريق = يجلب البرد عند حر الـلـهـيب
كيف أسلوه وهو قلبـي وروحـي = مسقمي ممرضي حبيبي طبيبـي

هذا ما كان من أمر الورد في الأكمام، وأما ما كان من أنس الوجود فإن العابد قال له: انزل إلى الوادي وائتني من الفخيل بليف فنزل وجاء له بليف فأخذه العابد وقتله وجعله شنفاً مثل أشناف التبن وقال له: يا أنس الوجود إن في جوف الوادي فرعاً يطلع وينشف على أصوله فانزل إليه واملأ هذا الشنف منه واربطه وارمه في البحر واركب عليه وتوجه به وسط البحر لعلك تبلغ قصدك، فإن من لم يخاطر بنفسه لم يبلغ المقصود، فقال: سمعاً وطاعة ثم ودعه وانصرف من عند إلى ما أمره به بعد أن دعا له العابد، ولم يزل أنس الوجود سائر إللا جوف الوادي وفعل كما قال له العابد، ولما وصل بالشنف إلى وسط البحر هبت عليه ريح فزقه الشنف حتى غاب عن عين العابد، ولم يزل سابحاً في لجة البحر ترفعه موجة وتحطه أخرى وهو يرى ما في البحر من العجائب والأهوال إلى أن رمته المقادير على جبل الثكلى بعد ثلاثة أيام من فنزل إلى البر مثل الفرخ الدايخ لهفان من الجوع والعطش فوجد في ذلك المكان أنهاراً جارية وأطياراً مغردة على الأغصان وأشجاراً مثمرة صنواناً وغير صنوان فأكل من الأثمار وشرب من الأنهار وقام يمشي فرأى بياضاً على بعد فمشى جهته حتى وصل إليه فوجده قصراً منيعاً حصيناً فأتى إلى باب القصر فوجده مقفولاً فجلس عنده ثلاثة أيام.

فبينما هو جالس وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه شخص من الخدم فرأى أنس الوجود قاعداً فقال له: من أين أتيت ومن أوصلك إلى هنا؟ فقال أنس الوجود: من أصبهان وكنت مسافراً في البحر بتجارة فانكسر المركب الذي كنت فيه فرمتني الأمواج على ظهر هذه الجزيرة، فبكى الخادم وعانقه وقال: حياك الله يا وجه الأحباب أن أصبهان بلادي ولي فيها بنت عم كنت أحبها وأنا صغير وكنت مولعاً بها فغزى بلادنا قوم أقوى منا وأخذوني في جملة الغنائم وكنت صغيراً فقطعوا إحليلي ثم باعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم الذي خرج من قصر الورد في الأكمام حدث أنس الوجود بجميع ما حصل وقال له أن القوم الذين أخذوني قطعوا إحليلي وباعوني خادماً وهاأنا في تلك الحالة، وبعدما سلم عليه وحياه أدخله ساحة القصر، فلما دخل رأى بحيرة عظيمة وحولها أشجار وأغصان وفيها أطيار في أقفاص من فضة وأبواباها من الذهب وتلك الأقفاص معلقة على الأغصان والأطيار فيها تناغي وتسبح الديان، فلما وصل إلى أولها تأمله فإذا هو قمري فلما رآه الطير مد صوته وقال: يا كريم فغشي على أنس الوجود، فلما أفاق من غشيته صعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

أيها القمري هل بمثلي تـهـيم = فاسأل المولى وغرد يا كـريم
يا ترى نوحـك هـذا طـرب = أو غرام منك في القلوب مقيم
أن تنح وجداً لأحباب مـضـوا = أو خلفت بهم مضنى سـقـيم
أو فقدت الحب مثلي في الهوى = فالتجافي يظهر الوجد القـديم
يا رعى الله محبـاً صـادقـاً = لست أسلوه ولو عظمي رميم

فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشياً عليه، وحين أفاق من غشيته مشى حتى وصل إلى ثاني قفص فوجده فاختاً، فلما رآه الفاخت غرد وقال: يا دايم أشكرك، فصعد أنس الوجود الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

وفاخت قد طال فـي نـوحـه = يا دائماً شكراً على بـلـوتـي
عسى لعل الله مـن فـضـلـه = يقضي بوصل الحب في سفرتي
ورب معسول اللمـى زارنـي = فزادني عشقاً على صبـوتـي
قلت والنيران قـد أضـرمـت = في القلب حتى أحرقت مهجتي
والدمع مسفوك يحـاكـي دمـاً = قد فاض يجري على وجنـتـي
ما تم مخـلـوق بـلا مـحـنة = لكن لي صبراً على محنـتـي
بقدرة اللـه مـتـى لـمـنـي = وقت الصفا يوماً على سادتـي
جعلت للعشاق مـالـي قـرى = لأنهم قوم عـلـى سـنـتـي
وأطلق الأطيار من سجـنـهـا = واترك الأحزان من فرحـتـي

فلما فرغ من شعره تمشى إلى ثالث قفص فوجده هزاراً، فزعق الهزار عند رؤيته، فلم سمعه أنشد هذه الأبيات:

إن الهزار لطيف الصوت يعجبنـي = كأنه صوت صب في الغرام فنـي
وارحمتاه على العشاق ثم قلـقـوا = من ليلة بالهوى والشوق والمحـن
كأنهم من عظيم الشوق قد خلـفـوا = بلا صباح ولا نوم من الـشـجـن
لما جننت بمـن أهـواه قـيدنـي = فيه الغرام ولمـا فـيه قـيدنـي
تسلسل الدمع من عيني فقلت له = سلاسل الدمع قد طالت فسلسلني
زاد اشتياقي وطال البعد وانعدمـت = كنوز صبري وفرط الوجد أتلفنـي
إن كان في الدهر أنصاف ويجمعني = بمن أحب وستر الله يشمـلـنـي
قلعت ثوبي لحبي كي يرى جسـدي = بالصد والبعد والهجران كيف ضني

فلما فرغ من شعره تمشى إلى رابع قفص فوجده بلبلاً، فناح وغرد عند رؤية أنس الوجود، فلما سمع تغريده سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:

إن للبلبل صوتاً في الـسـحـر = شعل العاشق من حسن التوتر
في الهوى أنس الوجود المشتكي = من غرام قد محا منـه الأثـر
كم سمعنا صوت ألحان محـت = طرباً صلد الحديد والحـجـر
ونسيم الصبح قـد يروي لـنـا = عن رياض يانعات بالـزهـر
فطربـنـا بـسـمـاع وشـذا = من نسيم وطيور في السحـر
وتذكـرنـا حـبـيبـاً غـائبـاً = فجرى الدمع سيولاً ومـطـر
ولهيب النار فـي أحـشـائنـا = مضمر ذاك كجمر بالـشـرر
متع الله مـحـبـاً عـاشـقـاً = من حبيب بوصـال ونـظـر
إن للعشاق عـذراً واضـحـاً = ليس يدري العذر إلا ذو النظر

فلما فرغ من شعره مشى قليلاً فرأى قفصاً حسناً لم يكن هناك أحسن منه فلما قرب منه وجده حمام الأيك وهو اليمام المشهور من بين الطيور فوجده ذاهلاً باطلاً ينوح الغرام وفي عنقه عقد من جوهر بديع النظام ونأمله فوجده ذاهلاً باطلاً باهتاً في قفصه فلما رآه بهذا الحال أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:

يا حمام الأيك أقرئك الـسـلام = يا أخا العشاق من أهل الغـرام
إنني أهـوى غـزالاً أهـيفـاً = لحظة أقطع من حد الحـسـام
في الهوى أحرق قلبي والحشى = وعلا جسمي تحول وسـقـام
ولذيذ الـزاد قـد أحـرمـتـه = مثل ما احرمت من طيب المنام
واصطباري وسـلـوى رحـلا = والهوى بالوجد عندي قد أقـام
كيف يهنأ العيش لي من بعدهـم = وهم روحي وقصدي والمـرام

فلما فرغ أنس الوجود من شعره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود لما فرغ من شعره التفت إلى صاحبه الأصبهاني وقال له: ما هذا القصر ومن هو الذي بناه؟ قال له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفاً عليها من عوارض الزمان وطوارق الحدثان وأسكنها فيه هي وأتباعها ولا تفتحه إلا في كل سنة مرة لما تأتي إليهم مؤونتهم فقال في نفسه: قد حصل المقصود ولكن المدة طويلة، هذا ما كان من أمر أنس الوجود وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام فإنها لم يهنأ لها شراب ولا طعام ولا قعود ولا منام فقامت وقد زاد بها الغرام والهيام ودارت في أركان القصر فلم تجد لها مصرفاً فسكبت العبرات وأنشدت هذه الأبيات:

حبسوني عن حبـيبـي قـوة = وأذاقوني بسجني لوعـتـي
أحرقوا قلبي بنيران الـهـوى = حيث ردوا عن حبيبي نظرتي
حبسوني في قصـور شـيدت = في جبال خلقت فـي لـجة
إن يكونوا قد رأوا ستـرتـي = لم تزد في الحب إلا محنتـي
كيف أسلو والذي بي كـلـه = أصله في وجه حبي نظرتي
فنهاري كـلـه فـي أسـف = أقطع الليل بهم في فكرتـي
وأنيسي ذكرهم في وحـدتـي = حين ألقى منم لقاهم وحشتي
يا ترى هل بعد هـذا كـلـه = يسمح الدهر بلقيا مـنـيتـي

فلا فرغت من شعرها طلعت إلى سطح القصر وأخذت أثواباً بعلبكية وربطت نفسها فيها حتى وصلت إلى الأرض وقد كانت لابسة أفخر ما عندها من اللباس وفي عنقها عقد من الجواهر وسارت في تلك البراري والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر فرأت صياداً في مركب دائر في البحر يصطاد فرماه الريح على تلك الجزيرة فالتفت فرأى الورد في الأكمام في تلك الجزيرة، فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هارباً فنادته وأكثرت إليه الإشارات وأنشدت هذه الأبيات:

يا أيها الصياد لا تخشى الـكـدر = غنني إنسية مـثـل الـبـشـر
أريد منك أن تجـيب دعـوتـي = وتسمعن قولي بإسناد الـخـبـر
فارحم وقال الله حر صبـوتـي = إن أبصرت عيناك محبوباً نفـر
فإنني أهوى ملـيحـاً وجـهـه = فاق وجه الشمس نور القـمـر
والظبي لمـا رأى ألـحـاظـه = قد قال إني عبده ثـم اعـتـذر
قد كتب الحسن على وجـنـتـه = سطراً بديعاً في المعاني مختصر
فمن رأى نور الهوى قد اهتـدى = أما الذي ضل تعـدى وكـفـر
إن شاء تعذيبـي بـه يا حـبـذا = فكل ما ألـقـاه أجـراً وأجـر
ومن يواقيت ومـا أشـبـهـهـا = ولؤلؤ رطـب وأنـواع الـدرر
عسى حبيبي أن يوحي بالمـنـى = فإن قلبي ذاب شوقاً وانفـطـر

فلما سمع الصياد كلامها أرسى مركبه على البر وقال لها: انزلي في المركب حتى أعدي بك إلى أي موضع تريدين فنزلت في المركب وعوم بها فلما فارق البر بقليل هبت على المركب ريح من خلفها فسارت المركب بسرعة حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أن يذهب ومكث اشتداد الريح مدة ثلاثة أيام ثم سكن الريح بإذن الله تعالى ولم تزل المركب تسير بهما حتى وصلت إلى مدينة على شاطئ البحر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن المركب لما وصلت بالصياد والورد في الأكمام إلى مدينة على شاطئ البحر أراد الصياد أن يرسي مركبه على تلك المدينة وكان فيها ملك عظيم السطوة يقال له درباس وكان في ذلك الوقت جالساً هو وابنه في قصر مملكته وصارا ينظران من شباك القصر فالتفتا إلى جهة البحر فرأيا تلك المركب فتأملاها فوجدا فيها صبية كأنها البدر في أفق السماء وفي أذنيها حلق من البلخش الغالي وفي عنقها عقد من الجوهر النفيس فعرف الملك أنها من بنات الأكابر والملوك فنزل الملك من قصره وخرج من باب القيطون فرأى المركب قد رست على الشاطئ وكانت البنت نائمة والصياد مشغولاً بربط المركب فأيقظها الملك من منامها فاستيقظت وهي تبكي فقال لها الملك: من أين أنت وابنة من أنت وما سبب مجيئك هنا؟ فقالت له الورد في الأكمام: أنا ابنة إبراهيم وزير الملك الشامخ وسبب مجيئي هنا أمر عجيب وحكت له جميع قصتها من أولها إلى آخرها ولم تخف عنه شيئاً ثم صعدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:

قد قرح الدمع جفني فاقتضى عجبـاً = من التكدر لما فاض وانـسـكـبـا
من أجل خل سوى في مهجتي أبـداً = ولم أنل في الهوى من وصله أربـا
له محيا جـمـيل بـاهـر نـضـر = وفي الملاحة فاق الترك والعـربـا
والشمس والبدر قد مالا لطلـعـتـه = كالصب والتزما في حـبـه الأدبـا
وطرفه بعجيب السحر مكـتـحـل = يريك قوساً لرمي السهم منتصـبـا
يا من له حالتي أوضحت معـتـذراً = ارحم محباً به صرف الهوى لعـبـا
إن الهوى قد رماني في وسط ساحتكم = ضعيف عزم ومنكم ارتجى حسـبـا
إن الكرام إذا ما حل سـاحـتـهـم = مستحسب فحماهم يرفع الحـسـبـا
فاستر فضائح أهل العشق يا أمـلـي = وكن لوصلتـهـم يا سـيدي سـبـا

فلما فرغت من شعرها حكت للملك قصتها من أولها إلى آخرها فقال لها: لا خوف عليك ولا فزع قد وصلت إلى مرادك، فلا بد أن أبلغك ما تريدينه وأوصل إليك ما تطلبينه فاسمعي مني هذه الكلمات ثم أنشد هذه الأبيات:

بنت الكرام بلغت القصد والأربا = لك البشارات لا تخشى هنا نصبا
اليوم أجمع أمـوالاً وأرسـلـهـا = لشامخ صحبة الفرسان والنجـبـا
نوافح المسك والديباج أرسـلـهـا = وأرسل الفضة البيضاء والذهبـا
نعم وتخبره عني مـكـاتـبـتـي = أني مريداً له صهراً ومنتـسـبـا
وأبذل اليوم جهدي في معـاونـه = حتى يكون الذي تهوين مقتـربـا
قد ذقت طعم الهوى دهراً وأعرفه = وأعذر اليوم من كأس الهوى شربا

فلما فرغ من شعره خرج إلى عسكره ودعا بوزيره وحزم له مالاً لا يحصى وأمره أن يذهب بذلك إلى الملك الشامخ وقال له: لا بد أن تأتيني بشخص اسمه أنس الوجود وقل له: أنه يريد مصاهرتك بأن يزوج ابنته لأنس الوجود تابعك فلا بد من إرساله معي حتى نعقد عقده عليها في مملكة أبيها ثم أن الملك درباس كتب مكتوباً للملك الشامخ بمضمون ذلك وأعطاه لوزيره وأكد عليه في الإتيان بأنس الوجود وقال له: إن لم تأتني به تكون معزولاً عن مرتبتك فقال له: سمعاً وطاعة ثم توجه بالهدية إلى الملك الشامخ فلما وصل إليه بلغه السلام عن الملك درباس وأعطاه المكاتبة والهدية التي معه فلما رآه الملك الشامخ وقرأ المكاتبة ونظر اسم أنس الوجود بكى بكاءً شديداً وقال للوزير المرسل إليه: وأين أنس الوجود فإنه ذهب ولا نعلم مكانه فأتني به وأنا أعطيك أضعاف ما جئت به من الهدية، ثم بكى وأنّ واشتكى وافاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:

ردوا علي حـبـيبـي = لا حاجة لي بـمـال
ولا أريد هــــدايا = من جواهـر ولآلـي
قد كان عنـدي بـدراً = سما بأفـق جـمـال
وفاق حسناً ومعـنـى = ولم يقـس بـغـزال
وقـد غـصـن بـان = أثـمـاره مـن دلال
وليس في الغصن طبع = يسبي عقول الرجـال
ربيبه وهـو طـفـل = على مهـاد الـدلال
وإنـنـي لـحــزين = عليه مشغول البـال

ثن التفت إلى الوزير الذي جاء بالهدية والرسالة وقال له: اذهب إلى سيدك وأخبره أن أنس الوجود مضى عام وهو غائب وسيده لم يدر أين ذهب ولا يعرف له خبر فقال له الوزير: يا مولاي إن سيدي قال لي إن لم تأتني به تكن معزولاً عن الوزارة ولا تدخل مدينتي فكيف أذهب إليه بغيره فقال الملك الشامخ لوزيره ابراهيم: اذهب معه صحبة جماعة وفتشوا على أنس الوجود في سائر الأماكن فقال له: سمعاً وطاعة ثم أخذ من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابراهيم وزير الملك الشامخ أخذ جماعة من أتباعه واصطحب وزير الملك درباس وساروا في طلب أنس الوجود فكانوا كلما مروا بعرب أو قوم يسألونهم عن أنس الوجود فيقولون لهم: هل مر بكم شخص اسمه كذا وصفته كذا وكذا؟ فيقولون: لا نعلمه وما زالوا يسألون المدائن والقرى ويفتشون في السهول والأوعار والبراري والقفار حتى وصلوا إلى شاطئ البحر وطلعوا في مركب ونزلوا فيها وساروا بها حتى أقبلوا على جبل الثكلى. فقال وزير الملك درباس لوزير الملك الشامخ: لأي شيء سمي هذا الجبل بذلك الاسم؟ فقال له: لأنه نزلت به جنية في قديم الزمان وكانت نلك الجنية من جن الصين وقد أحبت إنساناً ووقع له معها غرام وخافت على نفسها من أهلها فلما زاد بها الغرام فتشت في الأرض على مكان تخفيه فيه عن أهلها فوجدت هذا الجبل منقطعاً من الإنس والجن بحيث لا يهتدي إلى طريقه أحد من الإنس والجن فاختطفت محبوبها ووضعته فيه وصارت تذهب إلى أهلها وتأتيه في خفية ولم تزل على ذلك زمناً طويلاً حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالاً متعددة وكا كل من يمر على هذا الجبل من التجار والمسافرين في البحر يسمع بكاء الأطفال كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها أي فقدتهم فقيقول: هل هنا ثكلى فتعجب وزير الملك درباس من هذا الكلام.

ثم إنهم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب فانفتح الباب فخرج لهم خادم فعرف ابراهيم وزير الملك الشامخ فقبل يده ثم دخل القصر فوجد في فسحته رجلاً فقيراً بين الخدامين وهو أنس الوجود فقال لهم: من أين هذا؟ فقالوا له: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه وهو مجذوب فتركه، ثم مشى إلى داخل القصر فلم يجد لابنته أثراً فسأل الجواري التي هناك فقلن له: ما عرفنا كيف راحت ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة فسكب العبرات وأنشد هذه الأبيات:

أيها الدار الـتـي أطـيارهـا = قد تغنت وازدهت أعتابـهـا
فأتاها الصب ينعـي شـوقـه = ورآها فتـحـت أبـوابـهـا
ليت شعري أين ضاعت مهجتي = عند دار قد نـأى أربـابـهـا
كان فيها كل شـيء فـاخـر = واستطاعت واعتلى حجابـهـا
وكسوها حلل مـن سـنـدس = يا ترى أين غدت أصحابـهـا

فلما فرغ من شعره بكى وأنّ واشتكى وقال: لا حيلة في قضاء الله ولا مفر مما قدره وقضاه، ثم طلع إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شرارف واصلة إلى الأرض فعرف أنها نزلت من ذلك المكان وراحت كالهائج الولهان والتفت فرأى هناك طيرين غراباً وبومة فتشاءم من ذلك وصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:

أتيت إلـى دار الأحـبة راجـياً = بآثارهم اطفاء وجدي ولوعتـي
فلم أجد الأحباب فيها ولـم أجـد = بها غير مشؤمي غراب وبومة
وقال لسان الحال قد كنت ظالماً = وفرقت بين المغرمين الأحـبة
فذق طعم ما ذاقوه من ألم الجوى = وعش كمداً ما بين دمع وحرقة

ثم نزل من فوق القصر وهو يبكي وقد أمر الخدام أن يخرجوا إلى الجبل ويفتشوا على سيدتهم ففعلا ذلك فلم يجدوها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أنس الوجود فإنه لما تحقق أن الورد في الأكمام قد ذهبت صاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه واستمر في غشيته فظنوا أنه أخذته جذبة من الرحمن واستغرق في جمال هيبة الديان ولما يئسوا من وجود أنس الوجود واشتغل قلب الوزير ابراهيم بفقد ابنته الورد في الأكمام أرارد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده وإن لم يفز من سفره بمراده. فأخذ يودعه الوزير ابراهيم والد الورد في الأكمام فقال له وزير الملك درباس: إني أريد أن آخذ هذا الفقير معي عسى الله أن يعطف على الملك ببركته لأنه مجذوب، ثم بعد ذلك أرسله إلى بلاد أصبهان لأنها قريبة من بلادنا، فقال: افعل ما تريد، ثم انصرف كل منهما متوجه إلى بلاده وقد أخذ وزير الملك درباس أنس الوجود معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك درباس أخذ أنس الوجود وهو مغشي عليه وسار ثلاثة أيام وهو في غشيته محمولاً على البغال ولا يدري هل هو محمول أو لا، فلما أفاق من غشيته قال: في أي مكان أنا؟ فقالوا له: أنت صحبة وزير الملك درباس، ثم ذهبوا إلى الوزير وأخبروه أنه قد أفاق فأرسل إليه ماء الورد والسكر فيقوه وأنعشوه ولم يزالوا مسافرين حتى قربوا من مدينة الملك درباس فأرسل الملك إلى الوزير يقول له: إن لم يكن أنس الوجود معك فلا تأتي أبداً.

فلما قرأ مرسوم الملك عسر عليه ذلك وكان الوزير لا يعلم أن الورد في الأكمام عند ولا يعلم سبب إرسال الملك إياه إلى أنس الوجود ولا يعلم أن الوزير مرسل في طلبه والوزير لا يعلم أن هذا هو أنس الوجود فلما رأى الوزير أن أنس الوجود قد استفاق قال له: إن الملك أرسلني في حاجة وهي لم تقض ولما علم بقدومي أرسل إلي مكتوباً يقول لي فيه: إن لم تكن الحاجة قضيت فلا تدخل مدينتي، فقال له: وما حاجة الملك؟ فحكى له جميع الحكاية فقال له أنس الوجود: لا تخف واذهب إلى الملك وخذني معك وأنا أضمن مجيء أنس الوجود. ففرح الوزير بذلك وقال له: أحق ما تقول؟ فقال: نعم، فركب وأخذه معه وسار به إلى الملك فلما وصلا إلى الملك قال له: أين أنس الوجود؟ فقال له أنس الوجود: أيها الملك أنا أعرف مكان أنس الوجود فقربه الملك إليه وقال له: في أي مكان هو؟ قال: في مكان قريب جداً ولكن أخبرني ماذا تريد منه وأنا أحضره بين يديك فقال له: حباً وكرامة ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خلوة. ثم أمر الناس بالإنصراف ودخل معه خلوة وأخبره الملك بالقصة من أولها إلى آخرها فقال له أنس الوجود: ائتيني بثياب فاخرة وألبسني إياها وأنا آتيك بأنس الوجود سريعاً فأتاه ببدلة فاخرة فلبسها وقال: أن أنس الوجود وكمد الحسود، ثم رمى القلوب باللحظات وأنشد هذه الأبيات:

يؤانسني ذكر الحبيب بـخـلـوتـي = ويطرد عني في التباعد وحشـتـي
وما لي غير الدمع عـين وإنـمـا = إذا فاض من عيني يخفف زفرتي
وشوقي شديد ليس يوجـد مـثـلـه = وأمري عجيب في الهوى والمحبة
فأقطع ليلي ساهر الجفن لـم أنـم = وفي العشق أسعى بين نـاروجـنة
وقد كان لي صبر جميل عدمـتـه = وما منحني في الحب إلا بمحنتـي
وقد رق جسمي من أليم بعـادهـم = وغيرت الأشواق وصفي وصورتي
وأجفان عيني بالدموع تـقـرحـت = ولم أستطع أني أرجع دمـعـتـي
وقد قل حيلي والفـؤاد عـدمـتـه = وكم ذا لاقى لوعة بـعـد لـوعة
وقلبي ورأسي بالمشيب تشـابـهـا = على سادة بالحسن أحسـن سـادة
على زعمهم كان التفرق بـينـنـا = وما قصدهم إلا لقائي ووصلـتـي
فيا هل ترى بعد التقاطع والـنـوى = أيمنعني دهري بوصل أحـبـتـي
ويطوي كتاب البعد من بعد نشـره = وتمحى براحات الوصال مشقتـي
ويبقى حبيبي في الديار منـادمـي = وتبدل أحزاني بصفو سـريرتـي

فلما فرغ من شعره قال له الملك: والله إنكما لمحبان صادقان وفي سماء الحسن كوكبان نيران وأمركما عجيب وشأنكما غريب، ثم حكى له حكاية الورد في الأكمام إلى آخرها فقال له: وأين هي يا ملك الزمان؟ قال: هي عندي الآن، ثم أحضر الملك القاضي والشهود وعقد عقدها عليه وأكرمه وأحسن إليه، ثم أرسل الملك درباس إلى الملك الشامخ وأخبره بجميع ما اتفق له من أمر أنس الوجود والورد في الأكمام، ففرح الملك الشامخ بذلك غاية الفرح وأرسل إليه مكتوباً مضمونه حيث حصل عقد العقد عندك ينبغي أن يكون الفرح والدخول عندي.
ثم جهز الجمال والخيل والرجال وأرسل في طلبهما، فلما وصلت الرسالة إلى الملك درباس أمدهما بمال عظيم وأرسلهما مع جملة عسكره فساروا بهما جتى دخلوا مدينتهما وكان يوماً مشهوداً لم ير أعظم منه، وجمع الملك الشامخ سائر المطربات من آلات المغاني وعمل الولائم ومكثوا على ذلك سبعة أيام، وفي كل يوم يخلع الملك الشامخ على الناس الخلع السنية ويحسن إليهم، ثم إن أنس الوجود دخل على الورد في الأكمام فعانقها وأخذا يبكيان من فرط الفرح والمسرات وأنشد هذه الأبيات:

جاء السرور أزال الهم والحزنـا = ثم اجتمعنا وأكمدنا حواسـدنـا
ونسمة الوصل قد هبت معطرة = فأحيت القلب والأحشاء والبدنـا
وبهجة الأنس قد لاحت مخلـقة = وفي الخوافق قد دقت بشائرنـا
لا تحسبوا اننا باكون من حـزن = لكن من فرح فاضت مدامعنـا
فكم رأينا من الأهوال وانصرفت = وقد صبرنا على من هيج الشجنا
فساعة من وصال قد نسيت بها = ما كان من شدة الأهوال شيبنا

فلما فرغ من شعره تعانقا ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية عشرة بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أنس الوجود والورد في الأكمام لما اجتمعا متعانقين ولم يزالا متعانقين حتى وقعا مغشياً عليهما من لذة الإجتماع فلما أفاقا من غشيتهما أنشد أنس الوجود هذه الأبيات:

ما أحلاهـا لـيلات الـوفـا = حيث أمسى لي حبيبي منصفا
وتوالى الوصل فيما بـينـنـا = وانفصال الهجر عنا قد وفى
وإلينا الدهر يسعى مـقـبـلاً = بعد ما مال وعنا انحـرفـا
نصب السعد لنـا أعـلامـه = وشربنا منه كأساً قد صـفـا
واجتمعنا وتشاكـينـا الآسـى = ولليلات تقضت بالـجـفـا
ونسينا ما مضى يا سـادتـي = وعفا الرحمن عما سـلـفـا
ما ألذ العـيش مـا أطـيبـه = لم يزدني الوصل إلا شغفـا

فلما فرغ من شعره تعانقا واضطجعا في خلوتهما، ولم يزالا في منادمة وأشعار ولطف وحكايات وأخبار حتى غرقا في بحر الغرام ومضت عليهما سبعة أيام وهما لا يدريان ليلاً من نهار لفرط ما هما فيه من لذة وسرور وصفو وحبور، فكأن السبعة أيام يوم واحد ليس له ثاني، وما عرفا يوم الأسبوع إلا بمجيء آلات المغاني، فأكثرت الورد في الأكمام المتعجبات وأنشدت هذه الأبيات:

ومن طيب الوصال فليس ندري = بأوقات البعيد من الـقـريب
ليالي سبعة مـرت عـلـينـا = ولم نشعر بها كم من عجـيب
فهنوني بأسـبـوع وقـولـوا = أدام الله وصلك بالـحـبـيب

فلما فرغت من شعرها قبلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات ثم أنشد هذه الأبيات:

أتى يوم السرور مع التهانـي = وجاء الحب من صد وفـانـي
فآنسني بطيب الوصل مـنـه = ونادمني بألطاف المعـانـي
وأسقاني شراب الأنس حتـى = ذهلت عن الوجود بما سقاني
فطربنا وانشرحنا واضطجعنـا = وصرنا في شراب مع أغاني
ومن فرط السرور فليس ندري = من الأيام أولـهـا وثـانـي
ولا يدري لمر الصد طعـمـاً = وربي قد حباه بما حـبـانـي

فلما فرغ من شعره قاما وخرجا من مكانهما وأنعما على الناس بالمال والخلع وأعطيا ووهبا إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات، فسبحان من لا يحول ولا يزول وإليه كل الأمور تؤول.

.

صورة مفقودة
 
أعلى