أحمد الشيخي - المرأة العربية بين حضور الجسد وغياب العقل

احتلت المرأة جانبا مهما في الموروث الثقافي العربي، إلا أننا حين نقترب منها فإننا نقترب جسديا، إذ تم التركيز، بشكل مفرط، على الجسد باعتباره أداة للمتعة واللذة دون إغفال بعض الجوانب التكميلية، كالحياء، والخجل، والصمت، والدلال، والغنج..

ـ لماذا لم يتم النظر إلى الجنسين (الرجل/المرأة) بعين واحدة، وكأنهما من ماهيتين مختلفتين..؟
ـ لماذا ارتبط الفكر والعقل بالرجل؟ وارتبط الجسد بالمرأة؟
ـ هل هذا التوجه العام في النظرة إلى المرأة راجع إلى ظروف بيولوجية، طبيعية خلقية، أم إلى ظروف لها ارتباط بمستوى تفكير الجنسين، والصراع التاريخي بينهما؟ بمعنى هل هذا التمايز الحاصل بينهما راجع إلى طبيعتهما أم إلى عوامل ارتبطت بكل ما هو وضعي، عرف، تقاليد، عادات..؟
ـ لماذا تم تغييب عقل المرأة؟ هل هذا التغييب راجع إلى اتقاء عقلها الموسوم "بالمكر والحيلة"؟! أم أن الأمر تقصير منها؟
ـ لماذا تم التفكير في المرأة جسديا ولم يتم التفكير فيها عقليا؟
ـ ألا يحاول الرجل من خلال تناوله جسد المرأة تضليل فكرها ومحاولة توجيهه نحو جسدها والاعتناء به؟ لأنه لو تم العكس لربما كانت ثقافة أخرى ومجتمع من نمط آخر؟!
ـ ماذا قدمت الفلسفة في ظل هذا الوضع؟ هل حاولت الإجابة عن أسئلة وقضايا الإنسان كجسد وعقل؟

لمقارنة هذه الأسئلة سنحاول البحث عموديا/حفريا فيما احتفظت به الذاكرة العربية شعرا، حكاية، وأمثالا..

إذا رجعنا إلى العصر الجاهلي وحاولنا تلمس واستكناه خصوصية ووضع الجنس الرجل/المرأة فإن الفارق بينهما في الذهنية)الواقع والمتخيل (العربية شاسع ومتمايز، إذ كانت تقام الأفراح وتزف البشرى بازدياد الولد/الذكر. فتنتقي له أفضل الأسماء وأكثرها تعبيرا عن الشجاعة والجسارة وشدة البأس تيمنا أن يكون كذلك في المستقبل كالغضنفر، شأس، جساس، ضرار، صخر، المهند، القاطع.. لأن الواقع يحتاج إلى القوة والفتوة، والقبائل في اقتتال وتصادم مستمر لامتلاك الماء والعشب والسيادة، فالوضع إذن يحتاج إلى الذكور/الفرسان) الأجسام الصلبة والعقول الراجحة( للذود عن القبيلة وجعلها قوية مهابة الجانب:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا = ويشرب غيرنا كدرا وطينا[1]
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما = تخر له الجبابر ساجدينا[2]

في حين ارتبطت ولادة الأنثى في العرف الجاهلي بالمهانة والوضاعة، فكانوا يئدونها خوفا من العار، ويحيطونها بضروب وأصناف من الحراسة والرقابة الاجتماعية.

تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا = علي حراصا لو يسرون مقتلي[3]
قد خفت غفلة قومها = يمشون تحت قبابها
حذار عليها أن ترى = أو أن يطاف ببابها[4]

هكذا حددت القبائل طقوسا وأعرافا تهدد كيان المرأة ووجودها إذ كان مجرد التغزل بها يحط من شأنها فتنبذ ويهدر دم القائل. وهما وضعان (الوأد + التغزل) لا دخل للأنثى في صنعهما.

فإذا كانت القبيلة توسمت في الذكور القوة والصلابة ورجاحة العقول، فإنها توسمت في الإناث سمات وأوصاف حسية لا يمكن أن تتأتى لجميعهن.

يقول امرؤ القيس:

وصادتك غراء وهنانة = ثقال فما خالطت من عجل
رقود الضحى ساجيا طرفها = يميلها حين تمشي الكسل
عظيمة حلم إذا استنطقت = تطيل السكوت إذا لم تسل
بلهاء من غير عي بها = يرى لبها ظاهرا من عقل[5]

الغراء هي البيضاء، والوهنانة ذات الوقار، وثقال التي أثقلها ردفها عن النهوض، رقود الضحى أي لها من الخدم ما يجنبها عناء الخدمة. يكفيها التفرغ لرعاية جسدها والعناية به وحفظه من كل ما قد يشينه من تعب أو كلل أو حرارة شمس. ساجيا طرفها أي فاترة العيون، عظيمة حلم إذا استنطقت، فالأصل هو إطالة السكوت وعدم الكلام، فنطقها لا يكون إلا جوابا عن سؤال أو ردا عن استنطاق.

إنهم ينطقون جسدها، ويخرسون لسانها، ويغيبون عقلها، ويتغنون ببلهها ويستحسنونه. لهذا أسكتها العرف وأحالها على الصمت؛ لأنها إن نطقت عظيمة حلم، وهذا غير مقبول عند الرجل الذي يتملك كل شيء (اللغة، العقل، القوة..).

وهيفاء لفاء خمصانة = مبتلة الخلق ريا الكفل
خدلجة رؤدة رخصة = كدرة لج بأيدي الخول
وثغر أغر شتيت النبات = لذيذ المذاقة عذب القبل
تطول القصار ودون الطوال = فخلق سوي نما فاعتد[6]

الهيفاء الضامرة البطن، واللفاء، الممتلئة الحسنة الجسم والخلق، والريا: الممتلئة الفخذين والعجز، الخدلجة الحسنة الساقين، والرؤدة الناعمة اللينة المعتدلة القوام (لا طول ولا قصر). بيضاء الأسنان عذبة القبل.

يقدم الشاعر من خلال هذين النموذجين نموذجا للجمال الأنثوي/الجسدي المخلوق للمتعة واللهو والاستمتاع.

وبيضة خدر لا يرام خباؤها = تمتعت بها من لهو غير معجل[7]

فلم العجلة والجسد مستلق مستسلم خاضع خنوع.
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها = تميل عليه هونة غير مجبال[8]

بمعنى إذا مالت على ضجيعها مالت في لين ولطف لا في جفاء وثقل.

وقد تفنن الشعراء ولا سيما الفحول منهم في وصف الجسد ودققوا في تفاصيل مكوناته، ويشكل الجسد الممتلئ صورة مهيمنة ونموذجا تغنى به جل الشعراء مثل الأعشى:

غراء فرعاء مصقول عوارضها = تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها = مر السحابة لا ريت ولا عجل[9]
يكاد يصرعها لولا تشددها = إذا تقوم إلى جاراتها الكسل[10]

والمرار بن منقد:

راقــــه مـــنــها بـيـاض نـــاصــع = يؤنــق الــعـيــن وضــاف مــســبـكـــر
تهـــلــك الــمــدرارة فــي أفنانـــه = فـــإذا مـــا أرســلــــتـــه يـــنـــعـــفـــر
ولـــهـــا عــيــنـا خـدول مــخرف = تــعــلـق الضال و أفـــنــان الســـمــــر
و إذا تــضــحـــك أبدى ضحــكها = أقــحــوانــــــــا قــيـــدتـــه ذا أ شــــــر
لـــو تـــطــعمــت به شــبــهــــتــه = عـــســـلا شيــب به ثــــلــج خــــضـــر
صـلــتة الــخــد طــويل جــــيدهـا = نــاهــد الــثدي ولــمــا يــــنــكـــســـــر
مــثل أنـف الـرئـم ينبني درعــهـا = فـــي لـــبــان بــادن غـــيـــر قــفـــــــر
فــهــي هــيــفاء هــضـيم كشـحها = فــخـمة حــيــث يـــشـــد الــــمــؤتـــزر
يــبــهظ الــمـفـضل من أردافهـــا = ضــفــر أردف أنـــــقـــــاء ضــــــفــــر
وإذا تــمشــي إلــــى جـــارتهــــا = لـــــم تــكـد تــبــلغ حــتــى تــنـــبـــهــر
دفــعـت ربــلــتها ربــــلـــتهــــــا = و تـــــــهــادت مــثــل مــيــل المنقعـــــر
يـضـرب الـسـبعون في خلخالهــا = فـإذا مـا أكــــرهــتـــه يـــــنـــكـــســــــر
نــــاعـــمــتهـا أم صــدق بــــــرة = وأب بـــر بــــهـــا غـــــيــر حــــــكـــــر
فـــهــي خــوداء بــعيــش نــــاعم = بــرد الـــعــيـش عــلـيـهــا وقصر [11]

لقد راق الشاعر في هذه الأنثى بياضها الناصع وشعرها المسترسل الذي يغوص ويتلف فيه المشط لكثافته، وينعفر بالتراب لشدة طوله، ومبسمها الناصع الأسنان اللذيذ الريق فهي منجردة الخدين غير مرتهلة، واقفة النهدين ضامرة البطن والخصر، وافرة العجز، ممتلئة الأفخاذ، يعجز الخلخال عن ساقيها فينكسر لشدة امتلائهما. لقد ربيت في بيت عزيز وكريم.

وطرفة بن العبد:

ندماي بيض كالنجوم وقينة = تروح إلينا بين برد ومجسد
رحيب قطاب الجيب منها رفيقة = بجس الندامى بضة المتجرد
إذا نحن قلنا اسمعينا انبرت لنا = على رسلها مطروفة لم تشدد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب = ببهكنة تحت الخباء المعمد[12]


وزهير بن أبي سلمى:

وفيهن ملهى للصديق ومنظر = أنيق لعين الناظر المتوسم[13]


فالجسد ملهى ومنظر للراغبة المتوسم في سياحة العيون وسماع الغناء وتحقيق اللذة والشهوة والاستمتاع، ولا سيما إذا كانت بيضاء دقيقة الخصر وافرة العجز ممتلئة الساقين.

هكذا استحسن في المرأة/الجسد الجمال بكل مقاييسه المتواضع عليها، وقلة التفكير وغياب/تغييب العقل، لأن ذلك يجهد النفس ويذهب النضارة والطراوة والارتواء. وعلى الرجل ألا يتناول في المرأة غير الجسد تحفيزا لها حتى لا تهمله فيذبل ويجف ماؤه ويخبو بريقه ويذهب ألقه. فكلما كانت العناية بالشيء أوفى وأحسن كان ذا باع وقيمة، وكان الإقبال عليه أشد وأرغب. فالنفس دائما راغبة مشتاقة إلى ما جلبت عليه ولا سيما حب اللذة والشهوات، لهذا يطلب في المرأة حسن الجسد وجماله، أما العقل فهو عارض وثانوي، وإن كان يؤنس لا يحقق اللذة والاستمتاع لأن الأصل في ذلك كله يعود إلى الجسد وحده، فالذميمة وإن كانت راجحة عقل لا أحد يرومها ويبتغيها والجميلة وإن لم تكن راجحة عقل فالتهافت عليها كبير وجليل. لهذا استحسنوا البلهاء القليلة الكلام.

فالمفاضلة بين النساء تكون على أساس سمات جمالية للجسد من قد ونهد وقوام وأعجاز وأرداف وأعطاف وأفخاذ ونعومة ولون بشرة.. إضافة إلى الدلال والغنج والحشمة والوقار وقلة الكلام والعفة. أما الرجال فالمفاضلة بينهم تقوم على أساس القوة والشجاعة والعفة والسماحة ورجاحة العقل وامتلاك اللغة والقدرة على الكلام وحسن صناعته.

***

عرفت الحياة العربية، بفضل الدين الجديد، عدة تحولات همت مختلف مستويات الحياة العامة للكائن البشري، دينيا ودنيويا. فشرعت سنن وأحكام، وحرمت ممارسات وأعراف، وشاعت قيم روحية وأخلاقية كصيانة المحارم والمناكح وتزكية النفوس بالعبادات والعقائد وتحصيل العلوم والمعارف، وعدم الإسراف في الشهوات ومجانبة الرذائل.

فكان لزاما في ظل هذا الوضع الجديد أن تتغير النظرة إلى الجسد/المرأة وهو ما كرسه الشعراء العذريون حينما غيبوا الصورة الإباحية المتهتكة للجسد واكتفوا بالصور الروحية الناطقة بكل ما هو عفيف وشريف. وهو تناول سرعان ما تم تجاوزه بشكل لافت بفعل تطور الدولة العباسية وبروز الجانب المادي نتيجة الانفتاح على ثقافات أمم أخرى.

يقول صاحب الغلمان: لو نظر كثير وجميل وعروة ومن سميت من نظائرهم، إلى بعض خدم عصرنا ممن قد اشتري بالمال العظيم فراهة وشطاطا ونقاء لون، وحسن اعتدال، وجودة قد وقوام، لنبذوا بثينة وعفراء من حالق وتركوهن بمزجر الكلاب. ولكنك احتججت علينا بأعراب أجلاف جفاة غذوا بالبؤس والشقاء، ونشأوا فيه لا يعرفون من رفاهة العيش ولذات الدنيا شيئا وإنما يسكنون القفار وينفرون من الناس كنفور الوحش.. وإذا بلغ أحدهم جهده بكى على الدمنة ونعت المرأة ويشبهها بالبقرة والظبية والمرأة أحسن منها.

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند = واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها = أجدته حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة = في كف جارية ممشوقة القد
تسقيك من يدها خمرا ومن فمها = خمرا فمالك من سكرتين بد[14]

يقول أبو نواس:

الخمر يسكر = أداة للمتعة والنشوة
الجسد يسكر = أداة للمتعة والشهوة

الخمر = الجسد(الأنثى) فكلاهما يمتع ويسكر ويؤنس.

يا ليلتي تزداد نكرا = من حب من أحببت بكرا
حوراء إذا نظرت إليـ = ك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها = قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها = هارون ينفت سحرا
وتخال ما جمعت عليـ = ـه ثيابها ذهبا وعطرا
وكأنها برد الشرا = ب صفا ووافق منك فطرا
جنية إنسية = أو بين ذلك أجل أمرا[15]

يرسم الشاعر صورة أنثاه التي تملك جمالا ماديا ومعنويا يفعل به ما تفعله الخمرة بالعقول والسحر بالقلوب والألباب.

فالمتعة الكاملة لا تتحقق إلا بأنثى كاملة مع تغييب العقل الذكوري عن طريق السكر (تسقيك من يدها خمرا ومن فمها خمرا). تسقيك بالعينين خمرا) والسحر الكلامي (تحت لسانها هاروت ينفت سحرا). فالمرأة/الجسد لم تعد هنا صامتة كسلانة أعياها ردفها عن النهوض بل رشيقة (والتثني في مشيتها أعظم ما فيها) في محل (دير، حانة) هي سيدته وأميرته لامتلاكها مقومات الجمال وحسن الكلام والأداء الغنائي فهي متأدبة، شاعرة، مغنية، وفوق هذا كله جميلة وفاتنة.

لقد أصبح الجسد الأنثوي هنا مالكا للغة الإغوائية واللغة الشعرية واللغة العادية إضافة إلى خاصيتي السحر والإسكار.

"على أن الغناء من الوجه الحسن والبدن الحسن أحسن، والغناء الشهي من الوجه الشهي أشهى، وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة.. وكم بين أن يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه".

يبرز هذا النص سلطة الجسد ومدى تأثيره على أحكام لها ارتباط بفن السماع والإنشاد، من حيث التنصيص والتركيز، إضافة إلى حسن الصوت، على جمال الوجه وحسن الهيئة والقوام، لتحقيق المتعة الكاملة عن طريق طرب الفؤاد وسياحة النظر.

وقد استحسنوا غناء الجسد الأنثوي على الجسد الذكوري، ومعيارهم في ذلك ليس حسن الصوت وقوته وإنما البعد الجمالي للجسد.

يقوم الجاحظ: فأيهما أحسن وأملح وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة، أو من فضة مجلوة.

وصورة الجسد الأنثوي المقدمة في هذه البيئة تكاد تجمع على نموذج جمالي معين. فالبصراء بجواهر النساء، الذين هم جهابذة هذا الأمر يقدمون المجدولة، والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة. ولا بد أن تكون كاسية العظام، بين الممتلئة والقظيفة.ووصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: أعلاها قضيب وأسفلها كثيب.

فلنتمعن قول الجاحظ "البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابدة هذا الأمر" وكأننا أمام لجنة تحكيم في معرض للأجساد النسائية، تختار وتنتقي أجملهن وفق شروط وضوابط ومعايير وأحكام تم الاتفاق والتواضع عليها، وهو أمر شبيه بما يعرف اليوم باختيار ملكة الجمال في مجتمع المال والأرستقراطية الباذخة.

وبموازاة ذلك ارتبطت المرأة/الجسد عند بعض الفقهاء والعامة بالحيل والمكر والخديعة والمكائد.

إن النساء شياطين خلقن لنا = أعود باللغة من كيد الشياطين
فهن أصل البليات التي ظهرت = بين البرية في الدنيا وفي الدين[16]

لقد تحولت المرأة إلى شر مطلق "إنها تستجمع ميزات المكر والحيلة والخدعة والغواية والفتنة.. وحتى جمالها يعتبر مبدأ للشر وانتهاك القانون الإلهي والاجتماعي وعموما إنها كائن شيطاني، إن جسدها جسد الخطيئة لأنها أخرجت الرجل من الخلد الأصلي وكانت سببا في سقوطه وشقائه. ولذلك تتحمل وحدها مسؤولية الخطيئة الأصلية.

يقول حجة الإسلام في شرح "بيانه" عن المرأة وتفصيل توصياته قائلا: فإن كيدهن عظيم وشرهن فاش، والغالب عليهن سوء الخلق وركاكة العقل.

ولسنا نقول ولا أحد يقول ممن يعقل إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر. ولكننا رأينا ناسا يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقروهن أشد الاحتقار، ويبخسوهن أكثر حقوقهن.

وقد التقت صرخة الجاحظ بالشرق بصرخة ابن رشد بالغرب الإسلامي لتعكس واقع الحال.

يقول ابن رشد: فنحن نقول عن النساء طالما أنهن والرجال من نوع واحد في ما يخص الغاية القصوى من ذلك. فإنهن متساويات مع الرجال بالنوع مختلفات معهم بالدرجة فقط. وإن هذا ليعني أن الرجل في معظم أفعاله أكفأ من المرأة، وإن كان المستحيل أن تؤدي المرأة بعض الأعمال بكفاءة أعلى.. وفي مدننا القائمة فإن قابلية النساء ليست واضحة كأن النساء غالبا ما يؤخذن للإنجاب لهذا فإنهن يوضعن في خدمة أزواجهن وما عليهن إلا الإنجاب والرضاعة والعناية بالولد، وإن كان هذا الأمر يعطل أفعالهن الأخرى، والذي يبدو للعيان أن نساء مدننا لا يصلحن لفضيلة غير هذه، وهن بذلك يشبهن النباتات وكونهن عالة على الرجال في هذه المدن جعلها فقيرة.

هكذا نلاحظ كيف حدت الثقافة السائدة من فعالية العقل، وأعطت الأولوية والأهمية الكبرى للبعد الوظيفي للجسد (الجنس، الإنجاب، الرقص..).

***

لم تقتصر حياة اللهو والمجون على الجسد الأنثوي بل تعدته إلى الجسد الذكوري (الغلمان). والغلمان فتيان مخنثون مسرفون في التبرج والتأنث. فالثقافة الذكورية لم يعد يكفيها حيازة الشجاعة والعقل والسلطة واللغة والجسد الأنثوي، بل حاولت امتلاك الجسد الذكوري/المخنث والاستمتاع به. منافسين بذلك أشياء منحت فطرة وطبيعة للأنثى، كالدلال والغنج، وحسن القد والقوام وقابلية الاحتواء.

يقول أبو نواس:

أقل ما فيه من فضائله = أمنك من طمثه ومن حبله[17]
وأقسم الورد إيمانا معلظة = أن لا يفارق خديه عجائبه
كلمته بجفون غير ناطقة = فكان من رده ما قال حاجبه
أحلى وأحسن ما كانت شمائله = إذ لاح عارضه واخضر شاربه
وصار من كان يلحى محبته = أن يحك عني وعنه قال صاحبه[18]

وقد سئل رجل عن أسباب تفضيله الغلمان على الجواري، فقال: فلولا أن الغلام أفضل وأحسن لما شبهت به الجارية.

غلامية الأرادف تهتز في الصبا = كما تهتز في ريح الشمال قضيب[19]

فهو سهل الانقياد، موافق على المراد، حسن العشرة والأخلاق، مائل عن الخلاف إلى الوفاق، ولا سيما إن نما عذاره واخضر شاربه وجرت حمرة الشبيبة في وجنتيه حتى صار كالبدر التمام.

وقال آخر مفضلا الجارية على الغلام وليس تجد في الغلام معنى إلا وجدته في الجارية وأضعافه. فإن أردت التفخيد فأرداف وثيرة، وأعجاز بارزة لا تجدها عند الغلام وإن أردت العناق فالثدي النواهد، وذلك معدون في الغلام. فإن أردت طيب المآتي فناهيك ولا تجد ذلك عند الغلام، فإن أتوه في محاشه حدث هناك من الطفاسة والقذر ما يكدر كل عيش وينغص كل لذة.

وفي الجارية نعمة البشرة وليونة المفاصل، ولطافة الكفين والقدمين ولين الأعطاف، والتثني وقلة الحشن وطيب العرق ما ليس للغلام، مع خصال لا تحصى.

وهو تصور يتفق مع ما قالته الواعظة أثناء مناظرتها لرجل يستحسن الغلمان: أين الغلام من الفتاة ومن يقيس السخلة على المهاة، إنما الفتاة رخيمة الكلام حسنة القوام فهي كقضيب الريحان وبثغر كالأقحوان وشعر كالأرسوان، وخذ كشقائق النعمان، ووجه كتفاح وشفة كالراح، وثدي كالرمان، ومعاطف كالأغصان، وهي ذات قد معتدل وجسم منجدل وحد كالسيف اللائح وجبين واضح. وحاجبين مقرونين وعينين كحلاوين. إن نطقت اللؤلؤ الرطب يتناثر من فيها. ويجذب القلوب برقة معانيها وإن ابتسمت ظننت البدر يتلألأ من بين شفتيها وإن رنت فالسيوف تسل من مقلتيها. إليها تنتهي المحاسن وعليها مدار الظاهن والقاطن، ولها شفتان حمراوان ألين من الزبد وأحلى مذاقا من الشهد..ومن قال الدنيا عبارة عن النساء كان صادقا.

لقد انبنت جميع الحجج التي قدمتها الواعظة على عنصر الإثارة والاستمالة من حيث التركيز على الخصائص والمفاتن الجسدية مكرسة بذلك ثقافة سلطة الجسد.

والنساء المطلوبات في ظل الثقافة السائدة هن الجميلات الصغيرات، فلا مكان للعجوز أو القبيحة لأنهما يعلنان موت الجسد وفنائه. ومما قيل في هذا الشأن قول جارية تخبر هارون الرشيد عن المجامعة: إياك إياك من مجامعة العجوز فإنها من القواتل. قال علي كرم الله وجهه: أربع يقتلن ويهرمن البدن دخول الحمام على شبع وأكل المالح والمجامعة على الامتلاء ومجامعة المريضة فإنها تضعف قوتك وتسقم بدنك والعجوز سم قاتل.

وقالت الجارية جوابا عن سؤال ما أطيب الجماع؟

إذا كانت المرأة صغيرة السن مليحة القد حسنة الخد كريمة الجد بارزة النهد فهي قوة في بدنك وتكون كما قال فيها بعض واصفيها:

مهما لحظت علمت ماذا تبتغي = وحيا بدون إشارة وبيان
وإذا نظرت إلى بديع جمالها = وأغنت محاسنها عن البستان[20]

وقد قاومت هذه النزعة المادية التي اختزلت الجسد في جانبه الشبقي الجنسي، نزعة روحية-أخلاقية أعطت أهمية للبعد النفسي ودوره في تهذيب الأخلاق.

فالإنسان عبارة عن قوى مختلفة، بعضها يكون بالشهوات وبعضها بطلب الكرامات. وأن هذه القوى إذا تغالبت وتهايجت حدث في الإنسان باضطرابها أنواع الشر وجذبته كل واحدة منها إلى ما يوافقها، وهكذا سبيل كل مركب من كثرة إذا لم يكن لها رئيس واحد ينظمها.. وليس ينظم هذه الكثرة التي ركب الإنسان منها إلا الرئيس الواحد الموهوب له من الفطرة أعني العقل الذي به تميز عن البهائم، وهو خليفة الله عز وجل عنده، فإن هذه القوى كلها إذا ساسها العقل انتظمت وزال عنها سوء النظام الذي يحدث مع الكثرة.

يقول بشر بن المعتمر:

لله در العقل من رائد = وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب = قصية الشاهد للأمر
وإن شئنا بعض أفعاله = أن يفصل الخير عن الشر
لذو قوى قد خصه ربه = بخالص التقديس والطهر

فالعقل يجب أن يكون في خدمة الجسد وإصابة الفضائل والحرص عليها. لهذا لا بد من إصابة اللذة التي تطلبها الشريعة ويقدرها العقل حتى لا يتجاوز إلى الإسراف فيها. ولا يقصر عنها تهاونا بها.فالإنسان عظيم بالحكمة شريف بالعقل، والعقل يفوق جميع الخلائق لأنه الجوهر الرئيس.

لهذا على الإنسان أن لا يجهل ما وهب له من نفسه وما ركب فيها من القوى والملكات التي لا نهاية لها. وما أمدها به من فيض العقل ونوره وبهائه وبركاته.

فالنفس الخيرة تشتاق إلى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها أن يعاشر من يجانسه، ويطلب من يشاكله، ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشرور والمجون والمجاهرين بإصابة اللذات القبيحة وركوب الفواحش المفتخرين بها المنهمكين فيها.

والعلة في ذلك أن محبة اللذات البدنية والراحات الجسمية طبيعة للإنسان لأجل النقائص التي فيه فنحن بالجبلة الأولى والفطرة السابقة إلينا نميل إليها ونحرص عليها، وإنما نزم أنفسنا عنها بزمام العقل حتى نقف عندما يرسم لنا، ونقتصر على المقدار الضروري منها.. ذلك أن النفس متى تعطلت من النظر وعدمت الفكر والغوص على المعاني تبلدت وتبلهت وانقطعت عنها مادة كل خير، وإذا ألفت الكسل وتبرمت بالروية اختارت العطلة، قرب هلاكها لأن في عطلتها هذه انسلاخا من صورتها الخاصة بها، ورجوعا منها إلى رتبة البهائم وهذا هو الانتكاس في الخلق.

لهذا يجب أن تحصر وظيفة الجسد في العمل والصلاة والسعي إلى المواقف الشريفة في المعاملات والمناكح، وجهاد الأعداء وحماية الحريم مع تزكية النفس بالاعتقادات الصحيحة كالعلم بالتوحيد وتحصيل العلم واتساع المعارف.

***

لم ينظر الصوفي إلى الجسد كأداة لتحقيق النهم الجنسي وإشباع الرغبة وتحقيق المتعة أو اللذة الجنسية التي تنتهي وتزول بانتهاء الفعل أو الممارسة الجنسية، وإنما نظر إليها في إطار الوحدة الأصلية، إذ الذكورة والأنوثة لا يكونان ماهيتين منفصلتين عن بعضهما البعض، إنما عنصران لجسد واحد هو الجسد الأصلي جسد آدم الإنسان الكامل الذي خلق في البداية ثم حدث انفصام أولي داخل نفس الجسد فانشطر إلى عنصرين: عنصر الذكورة وعنصر الأنوثة.

فشرط وجود الرغبة الجنسية هو وجود فراغ داخل الجسد الأصلي، وهو الذي نتج بفعل انشطار ذلك الجسد إلى طرفين متمايزين.. إن شرط الفعل الجنسي هو انفصام بدائي حصل في الجسد الأصلي لكل من الذكر والأنثى، ولذلك كان ذلك الفعل على الدوام نزوعا لتذويب وجود الذكر والأنثى المؤسس على الانفصال. إن الفعل الجنسي حركة لعودة الجسم المنفصم إلى وحدته الأصلية البدائية.

إن حركة الأجساد في الفعل الجنسي تهدم الجسد الخاص لكل واحد منهما فالجنس هنا ليس انحدارا وسقوطا في عالم الشيطان، ولا هو مبدأ من مبدأ السيطرة الذكورية على الأنثى بل يرفع الجسد الأنثوي إلى أعلى مرتبة في الوجود: مرتبة الكمال الوجودي، لذلك يقول ابن عربي "من عرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، بل من كمال العارف حبهن إنه ميراث نبوي وحب إلهي".

لهذا جعل الصوفي النكاح عبادة للسر الإلهي، إنه يجمع بين العبادة والمتعة والافتتان: (= كعبادة لأنه يجدد العلاقة بالألوهية، كمتعة لأنه يجدد العلاقة بالمرأة، كافتتان لأنه يجدد العلاقة بالطبيعة ومشاهد الجمال) من هنا يصبح الجسد الأنثوي قبسا من الجمالية الإلهية فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله.

وأعظم الوصلة النكاح، وهو نظير التوجه الإلهي على من خلقه على صورته. إن الجسد عند الصوفي هو أكبر من جسد يمنح اللذة والمتعة الجنسية لأنه، إضافة إلى ذلك كائن يرمز إلى السر الإلهي والكوني: الحياة، الأصل، الجذور.

***

يعتبر الجسد في بعض مكونات الثقافة الحالية عنصرا فاعلا ومحوريا، إذا تم التركيز عليه واستغلاله، بشكل كبير لتحقيق أغراض تجارية محضة في مجتمع المال والأعمال فلا نجاح للأعمال التالية: إشهار، أفلام سينمائية، أغاني، مجلات، صحف، أزياء، بدون جسد يليق بالعرض.

لقد اعتمد الجسد كمثير أو كطرح "ديماغوجي" للتأثير في المستهلك، فجل الخطابات الإشهارية تخاطب في المشاهد- المستمع/المستهلك الجانب الغريزي: شهوة ولذة فإذا حاولنا أن نبحث عن العلاقة التي يمكن أن تربط سيارة بجسد أنثوي فاتن وجميل لفهمنا بدون عناء أن ركوب تلك السيارة يساوي ركوب ذلك الجسد بجامع ما قد يجمع بينهما من روعة وجمال والغريب في الأمر أنه تم في بعض المجالات التعسف على المستمعين العائقين للصوت والنغم والكلمة بفعل شيوع الصورة Vidéo-clip المرافقة للأداء الغنائي، والتي غالبا ما تكون أجسادا طرية فتية منثنية.

فالكلمات والصوت لم يعودا جوهريين لقد حل محلها الجسد، فكأن الغناء يخاطب العين لا الأذن والفؤاد.

يكفي أن تكون المغنية فاتنة وجميلة لتحقق الأغنية عن طريق الصور المصاحبة للأداء الغنائي نجاحا كبيرا وجمهورا واسعا (الذي شب على هذا النمط من الأغاني).

فما يصاحب الأغنية من أجساد جميلة ومناظر طبيعية فاتنة يغطي على ضعف الصوت والكلمات.

هكذا نستخلص أن جل الأعمال الفنية التي لا تتضمن أجسادا جميلة ومثيرة لا تحقق جمهورا عريضا ومتلقين كثر بخلاف الأعمال التي تركز وتشتغل على الجسد. إنها الثقافة القديمة الجديدة الخاضعة بشكل تام وكامل لسلطة الجسد.


[1] - شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها للشيخ أحمد أمين الشنقيطي، حققه وأتم شرحه محمد عبد القادر الفاضلي، ص141.
[2] - نفسه، ص، ن.
[3] - نفسه، ص28.
[4] - قراءة جديدة لشعرنا القديم، صلاح عبد الصبور، ط1/1982، ص71.
[5] - ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط5، ص296.
[6] - نفسه، ص297-298.
[7] - نفسه، ص13.
[8] - نفسه، ص31.
[9] - شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها، ص201-202.
[10] - نفسه، ص، ن.
[11] - المفضليات، المفضل بن محمد بن يعلى الضبي، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، ط6، ص89-90.
[12] - شرح المعلقات العشر، ص59-61.
[13] - نفسه، ص79.
[14] - تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ط6، دار المعارف، ص234-235.
[15] - نفسه، ص217.
[16] - ألف ليلة وليلة، الكتاب الثاني، 299.
[17] - ألف ليلة وليلة، الكتاب الثالث، ص197.
[18] - نفسه، ص198.
[19] - نفسه، ص، ن.
[20] - نفسه، ص256.


.


صورة مفقودة
 
أعلى