سعيد بوخليط - الفلاسفة والحب

هل الفلاسفة يعشقون؟ أي تساؤل هذا! بقدر ما يبدو تافها وبدون معنى، على اعتبار أن الفلاسفة، هم أولا وأخيرا، جنس ينتمي لبني البشر. بالتالي، يمتثلون للحكايات البيولوجية ذاتها، وإن بشكل حر أكثر. فإن السؤال في الجوهر استشكالي وعميق جدا، يوحي بمجموعة من التأويلات تتأسس انطلاقا من تمازجات أولية، يكشف عنها تضمين الفلاسفة نصوصهم لعبة الحب. هناك، إشارات واضحة بذاتها:
* الفلاسفة بشر بالقطع : يأكلون، يشربون؛ ينامون؛ يفرحون؛ يبكون؛ يعقلون؛ يجنون ... .
من الثابت أن الفيلسوف يحب الفلسفة : أي أنه يطوي العالم بين ثنايا جمجمته. والفلسفة هي الجسد، العقل ؛ المرأة ؛ قهوة الظهيرة ؛ جريدة الصباح ؛ الشعر، الفيزياء، الآخر ... بمعنى يكفيك أن تكون فيلسوفا لكي تتحول إلى عقل كوني.
لكن كذلك من الضروري التأكيد أيضا، رفعا لكل لبس :
• لا يجب اختزال الحب هنا إلى عشق رجل / فيلسوف لامرأة من خلال السياق نفسه للثقافات الاجتماعية. لذلك، حينما يتحدث أو يكتب الفيلسوف عن الحب، فإنه يخترق القوالب والتنميطات لتلك العلاقة الثنائية الشبقية الإيروسية أساسا، بين جنسي المذكر والمؤنث.
• حتى وإن اتفق الفيلسوف، على أن موضوع الحب هو المرأة. فلا شك، أن طبيعة تفكيره ورؤياته، تدفعه إلى صياغة ممكنات لا نهائية لهذه العلاقة.
• لم تتحدث سير الفلاسفة كثيرا، عن حكاياتهم مع العشق. مسألة، سيشير إليها الباحث في تقديمه لعمله هذا. حيث يصعب وضع اليد على مادة زاخرة تغني موضوعنا، وتطعمه فحصا وتدقيقا. مع ضعف المتن إذن، وقلة النصوص، يجدر بالباحث في تاريخ الحب عند الفلاسفة أن يكون ذكيا فطنا حاضر البديهة. حتى يسبر الفقرات المنثورة هنا وهناك عند هذا الفيلسوف أو ذاك، لكي يستخلص ما يشفي غليله في هذا الإطار.
إنه الأفق المفهومي الذي أراد من خلاله الباحث سوفاني Sauvanet الاشتغال على هذا الموضوع الشيق واللذيذ، المرتبط بسيناريو إخراج مجموعة صناديد وأساطين الفكر البشري، من امبراطورية الفيلسوف بجغرافيتها الصارمة وتعاليها المتعجرف. ووضعهم داخل غرف اعترافات، لا يريد منها الباحث سوفاني أن تكون سريرية أو ليلية، ولكنها بالأحرى حميمية بأسلوب "رخو" "لين" "سلس"، لا يؤكد مؤسساتيا ذلك الفصل بين مفهومية وبرهانية الخطاب الفلسفي ثم الإنسيابية الحلمية للآخر الأدبي. لماذا ؟ لأنه حينما نقرأ مباشرة النصوص الأصلية للفلاسفة الذين جاء بهم العمل، وبالرغم من كونها تقارب موضوعا ذو طبيعة وحس ذاتيين مرهفين أكثر، إلا أنها قد تميزت بتعقيدها النظري.
صحيح أن تعليقات سوفاني يسرت شيئا ما من ذلك، حتى ولو ظلت مدرسية مكتفية بمقاربات مباشرة لمجمل الأفكار التي انطوت عليها النصوص، مع توضيحات يسيرة جدا عن بعض المعطيات السوسيوثقافية أو السوسيونفسية التي صاغت مواقف بعض الفلاسفة وتأصيلهم المفهومي، أي اللاوعي النصي المرتبط أساسا بموقف معين حيال هذا الفيلسوف أو ذاك.
من خلال نماذج نصية توزعتها زمانا ومكانا مدارس فلسفية : أفلاطون / أرسطو/ لوكريس / ديكارت/ سبينوزا/ باسكال/ جان جاك روسو / كيركجورد/ شوبنهاور/ نيتشه/ سارتر. سعى الباحث سوفاني، تقديم القارئ بهذا النموذج المصغر لتاريخ الفلسفة، عرضا عن كيفية تفكير الفيلسوف في موضوع العشق. كيفما كانت الرؤية والتقييم، فإنهم جميعا ينتهون إلى هذا العشق اللانهائي لشيء إسمه : الفلسفة.
قد يسود الاعتقاد منذ أول تفكير، بأن هناك تعارض بين الحب والفلسفة، بين العاطفي والعقلي، الحسي ثم المجرد. هكذا يتوخى صاحب هذا العمل، التدليل على أن شعور الحب ليس بغريب عن الاندفاع والـتأمل الفلسفيين. كما أنه لا يدخل في إطار اشتغالات الموضة: ((هل من الضروري التذكير بأن الفلسفة ليست في الواقع إلا عشقا للحكمة. بمعنى حينما لا نملكها، فإننا ننزع باستمرار نحوها ؟ وفي الواقع، إذا لم نكن نعلم دائما بأننا حكماء، فإننا نعرف على الأقل بأننا عاشقون)) (ص 5). قد يظهر شكل الفيلسوف العاشق أكثر قربا من الفيلسوف.
يشير الباحث إلى ندرة البيبليوغرافيا بخصوص موضوع الفلاسفة والحب. وقد عبر شوبنهاور، عن دهشته في هذا السياق قائلا : ((انفعال يلعب دورا من المقام الأول في كل الحياة الإنسانية، لم يتم بعد أخذه بعين الاعتبار من قبل الفلاسفة وسيظل بالتالي أرضا مجهولة إلى حد الآن)) (ص5).
ربما موضوعة الحب كما يراها الفلاسفة، قد لا تبدو على الأرجح عندهم جادة بما يكفي لكي تتم معالجتها فلسفيا.
التوظيف الفلسفي لفعل عشق، يحيل بلا شك على اندفاع وقوة ذاتية. لذلك : ((من اللازم أن نأخذ على محمل الجد في الواقع نقطة جوهرية مشتركة بين فعل عشق وكذا فعل تفلسف: إنه ليس حالة بل سيرورة. من خلال عشق أو تفلسف، فإننا نرحل ونبحر ولا يمكننا العودة إلى الوراء، ننزع بلا توقف اتجاه شيء أو شخص ما. على هذا النحو، أمكن لأفلاطون اللجوء إلى الإتيمولوجيا المتخيلة للإيروس Eros على حساب نموذج ريو Rheo، ذلك الذي ينساب مثل مجرى)) ( ص6/7).
في هذه الشروط، يقوم الرهان المشترك للحب وكذا الفلسفة كحب ل صوفيا Sophie على انزياح بل خلخلة لمركزية وتمركز الذات. حيث سيظهر هذا الإشكال الموضوعي والفلسفي بامتياز، حينما سترتبط وترتكز مسألة الحب على هذا الشيء الذي يمكنه الانفلات مني، بعد أن يتم التجاذب بين الذات والآخر. إن ما يهم سواء في الفلسفة أو الحب، هو هذا التوتر اتجاه شيء ما سواء كان شخص أو فكرة أو مثال.
لم يتكلم كل الفلاسفة عن الحب، وإن فعلوا ذلك، تمثلوه طبعا بطرق وتصورات مختلفة. يقول المؤلف عن برنامج اختياره للنصوص : ((نتحمل هنا التنوع الكبير لبنية ونبرة ثم أسلوب النصوص المختارة. من نص إلى آخر، مع تغير للسياق والمفاهيم. في كل آن ننتقل من سرد أسطوري إلى عرض فلسفي، مع القصيدة الكبيرة للأبيقورية حتى رسالة حميمية من رجل ناضج إلخ. هل سيكون من جديد "شذرات خطاب عاشق" حسب العنوان الجميل ل رولا بارت ؟ خيوط كثيرة مرشدة، لا تلاحظ بالتأكيد من الوهلة الأولى، تعيد ربط شكل خفي هذه الإحدى عشر نصا كبيرا والتي من بينها :
• مفهوم "أرسطوفان" للحب/ الإيروس: "كل واحد يبحث عن نصفه". وهو ما سنجده أيضا من بين أشياء أخرى عند أفلاطون، ديكارت، كيركجورد شوبنهاور ثم سارتر.
• انبعاث السيرة الذاتية في شكل فلسفي عند لوكريس، ديكارت، روسو وكيركجورد.
• وأخيرا، نجد فيما وراء البحث عن ماهية مفتقدة للحب (باسكال)، ((العشق ذاته للعثور عن الجوهر الفلسفي)) (ص 8/9).
شهادات ، تخول مقاربة نظام تيماتيكي يتطور وينمو معه مفهوم الحب وفق نماذج متعددة تتحدد في التعارض بين :
+ الجنسية المثلية ثم المتغايرة الجنس Hétérosexualité : نص أفلاطون.
+ العاطفة الأبوية والإبنية، الحب والصداقة : أرسطو /روسو.
+ الوجد العاشق : لوكريس /شوبنهاور.
+ حب يتجه إلى الإله : أرسطو / سبينوزا / باسكال/ كيركجورد.
+ عشق الجمال، وبالأخص الموسيقى : نيتشه.
+ التجاذب الشعوري حيال الآخر : سارتر.
على المستوى الكرونولوجي، نلاحظ تشكل ثلاثة حقب تشتغل على النماذج التالية من النصوص :
(1) تمكن النصوص الأولى من مقاربة الحب قديما، ارتباطا بالأسطورة والصداقة والسيمولاكرات وكذا الهوى. حيث سيظهر الحب كمبدأ فعال وقوة كونية مثل الإله إيروس عند أفلاطون أو الإلهة فينوس Vénus عند لوكريس.
(2) نصوص تتابع مختلف نظريات الحب في العصر الكلاسيكي، حيث شغل الحب موقعا مركزيا في نظرية الانفعالات عند ديكارت ، سبينوزا وكذا فلسفة روسو. أما باسكال ، فإنه يمثل هنا وجها متفردا للفكر.
(3) نصوص تعطي نظرة أكثر حسية لحالة الحب، بناء على أفق وجودي بالمعنى الواسع للمفهوم في القرنين 19 و 20 : كيركجورد وسارتر.
كما يستدرك الباحث، الإشارة إلى شيئين أساسيين بخصوص عمله هذا :
(1) لم يستحضر إلا الفلاسفة الذكور. وبالتالي، لا نعثر في عمله هذا على أية وجهة نظر نسائية. لكن مع ذلك، تحضر المرأة وراء تنظيرات : ديكارت (ملكة السويد كريستين christine)، روسو (السيدة وورنس Warens)، كيركجورد (ريجين أولسن Olsen)، نيتشه (لوأندرياس سالومي Salomé)، سارتر (سيمون دي بوفوار Beauvoir).
أما المتون التي اعتمد عليها الباحث لاستخلاص التعاريف، فهي : إيروس فيلسوف (أفلاطون)/ حب وصداقة (أرسطو)/ ديكارت عاشق (ديكارت)/ تعريف للحب (سبينوزا) / هل هناك حب للأنا ؟ (باسكال) / حب ، حب ـ خاص حب ـ الذات (روسو) / الحب حسب الاسترجاع (كير كجورد )/ ميتافيزيقا الحب (شوبنهاور) / يجب أن تتعلم الحب (نيتشه)/ نظرة الآخر (سارتر).
كان الاعتقاد قديما، بأن الطبيعة الإنسانية مختلفة عما هي عليه اليوم نظرا لوجود ثلاثة أنواع من الكائنات : المؤنث والمذكر ثم آخر مركب ومزيج من الاثنين أو الأندروجين ،كما سماه أفلاطون في كتابه المأدبة : Le Banquet. لهذا لن تكون تجربة الحب إلا محاولة لإعادة توحيد الكائن الإنساني الذي تم تقسيمه فيما مضى عقابا له من قبل الآلهة حتى يتم إضعافه، لأنه كان يهاجمها نظرا لما يتمتع به من قوة عجيبة خارقة وتحليه بشجاعة كبيرة.
الحب مداواة للطبيعة الإنسانية، حيث لا يتوارى كل واحد منا سواء كان رجل أو امرأة، للبحث بدون كلل عن نصفه الأصلي والتخلص من حكم عقاب التشطير الذي صدر عن الإله زيوس Zeus. تقوم إذن أسطورة أندروجينا على مفهوم الحب / الانصهار.
يدخل الحب جوهريا وأساسيا عند أفلاطون وفق هذا التصور، في باب الرغبة والافتقاد وكذا الغياب أو اللاـ اكتمال واللاـ إشباع، مما يؤكد بأنه إشارة ودعوة وقوة ونزوة، فللإيروس قوة جذب. لتفسير ذلك، من الضروري الالتجاء إلى أسطورة أندروجينا التي تحدث عنها سقراط في خطاب أرسطوفان تحت قناع ديوتيم Diotime. وللإشارة فإن خطاب أرسطوفان، شكل الخطاب الرابع من كتاب المأدبة لأفلاطون الذي اشتمل على ستة خطابات أخرى هي : (1) فيدر ، (2) بوزانياس (3) إريكسيماك (4) أغاتون (5) ديوتيم (الذي تكلم على لسان سقراط) (6) ألسيبياد.
يبدو أن الحب بين الرجل والمرأة، يتطابق وينسجم مع الطبيعة. فالإنسان يميل فطريا لتشكيل ثنائي، حتى قبل تأسيس المجتمع السياسي في نطاق كون العائلة تعتبر شيئا سابقا عن المدينة وأكثر ضرورة منها. لكن إضافة إلى هذا النوع من الارتباط العاطفي، يحاول سقراط البحث في درجات ومستويات الحب الأبوي، من خلال كون الآباء يحبون أبناءهم لأنهم شيئا منهم. كما أن الأولاد بدورهم يحبون آباءهم لأنهم ينبثقون منهم. حب يشبه تعلق الناس بالآلهة، نظرا للشعور ذاته الذي نحس به اتجاه كائن أعلى أفضل منا.
يندرج الميدان الخاص للحب عند أرسطو في المنظور المزدوج للإتيقا والسياسة داخل عمله الموسوعي ورؤيته العلمية الثاقبة لأشياء كثيرة وحقول متعددة : المنطق /الميتافيزيقا / الفيزياء/ التيولوجيا/ السيكولوجيا / الإتيقا / السياسة/ الريطوريقا/ البويطيقا.
لا يحمل حقل الحب عند أرسطو نفس الدلالة كما هو الحال مع أفلاطون، فالفيليا philia الأرسطية ليست هي الإيروس الأفلاطوني. مع العلم أن ما يسميه اليونان عامة ب "الفيليا" يتضمن كل أشكال الحب والعاطفة بالمعنى الواسع للكلمة. مميزين بين أربعة أنماط من الفيليا : ((الفيليا الطبيعية أو الأقاربية بين كائنات من نفس الأسرة. فيليا الضيافة بخصوص الآخر، بين الضيوف. فيليا ودية تنسجم مع "صداقتنا". ثم فيليا عاشقة، مثل العلاقة المتميزة بين الرجل وزوجته)) (ص29).
وضع أرسطو ترتيبا لأنواع العاطفة، محللا ومفسرا طبيعة المشاعر التي تحضر سواء عند الأبناء أو الآباء مع اختلاف في التقدير. ذلك أنه سيهل على الآباء أن ينسبوا الأبناء إليهم انسجاما مع المبدأ الذي يؤكد، بأن من يصنع يعرف جيدا ما أنتج والعكس غير صحيح. نشير أيضا إلى العاطفة الأفقية بين الإخوة والأخوات، التي تختلف وتتمايز عن النموذج العمودي من خلال طبيعة العلاقة بين الأبناء والآباء. أما عن الحب الزواجي فإن : ((أرسطو ، الذي تزوج مرتين. كان من بين أول الفلاسفة القدامى، الذين أطروا على الزواج كسبيل للفضيلة واكتمال الذات عبر الآخر)) (ص 32).
فالإنسان حيوان سياسي واجتماعي، لكن العلاقة الأولى التي تفرزها الطبيعة هي تلك القائمة بين الرجل والمرأة. فالحب بينهما يتطابق وينسجم مع الطبيعة، لأن الرجل يميل فطريا إلى تشكيل زوج ثنائي، أكثر مما يفكر في بناء مجتمع سياسي.
أما الصداقة والتي تحمل دلالة سواء في الثيولوجيا الأرسطية وكذا أنثروبولوجيته، فقد عمل أرسطو على جرد مختلف أنواع الصداقات، بتمييزه بين ثلاثة أنواع من الصداقة حسب قيامها على : ((المنفعة ، اللذة، أو على الفضيلة. وحده النوع الثالث الذي يتوخى مغزى جيدا يكون جديرا بالاعتبار. صداقة تقوم كما هي حتى ولو تم انتفاء السبب. فوق ذلك، تضمن تبادل القدوة بين الأصدقاء. بتعابير كانطية، فإن الصداقة الحقيقية هي تلك التي تتعامل مع الصديق كغاية وليس وسيلة)) (ص 34).
لكن فيما تختلف العلاقة بين الصداقة والحب ؟ يتميزان أساسا بغياب وكذا حضور العنصر الفيزيائي. من جهة ثانية، نصطفي الأصدقاء ويختارنا الحب. كما أن الحب يمثل بشكل من الأشكال نوع من الصداقة المبالغ فيها.
بعد ذلك، سيقف الباحث سوفاني عبر فيلسوف يوناني قديم آخر اسمه لوكريس ، على وجهة نظر ثانية بخصوص أحاديث وتمثلات الفلاسفة للحب، يتعلق الأمر ب أبيقور ورؤية الأبيقورية بهذا الخصوص، التي أكدت على ضرورة تعلم الحكيم كيفية التمييز بين الرغبات الطبيعية الضرورية، ثم الطبيعية غير الضرورية وأخيرا اللاطبيعية واللاضرورية. نجد في المقام الأول، الحاجة إلى الأكل والشرب، حيث على الحكيم الاكتفاء بما يسد حاجته لكي يعيش : ((ليس الأبيقوري بمتأنق في الأكل، بل هو ببساطة إنسان أي آكل كل شيء، وبشكل أفضل زاهد. كما كتب موليير : "يجب أن تأكل لكي تعيش، وليس أن تعيش لكي تأكل")) (ص 43). وكذا بما يحميه ويستره على مستوى اللباس، وليس من الضروري أن يكون الأمر وفق نماذج الموضة.
ويقوم في إطار الطبيعية وغير الضرورية، الملذات الجمالية التي تتأتى من الرنات والأشكال الجميلة سواء إلى الأذن والبصر وحتى أجمل الروائح التي يستنشقها الأنف : ((تصطف خصوصا الملذات الجمالية التي تمنحها أحلى الرنات للأذن، وأحسن الأشكال للنظر، وكذا أطيب الروائح للأنف ( تحدث لوكريس عن لذة الروائح 864-855). هنا أيضا؟ المغالاة كمجازفة إيتيقية : يعرف الأبيقوري بأن هذه الملذات ليست مطلقا ضرورية. إنه ليس إذن جماعا أو متذوقا للجمال، وهو ما ينطوي على نزوع نحو استيعاب بلا حدود أو تهذيب مرضي. لكنه يعرف بهدوء كيفية تذوق هذه الأشياء حينما تكون حاضرة)) (ص43).
كما يمكن أن نضيف إلى هذا الصنف الغرائز الجنسية، والتي اعتبرها لوكريس مع أبيقور بأنها حتى وإن كانت طبيعية، فهي ليست ضرورية أو أساسية : ((هنا أيضا، يجب أن نرى جيدا وحدها التجاوزات وكذلك نتائج تلك التجاوزات مذمومة بالمعنى الدقيق لذلك : من الضروري أن يتم إشباع الرغبة الجنسية عند الحاجة لكن في حدود ومع أي كان. إذا كانت فيزيولوجيا جد ضاغطة، فقد خول لنا لوكريس "أن نقذف السائل المتراكم عندنا في أول جسد يتأتى لنا". أفضل من الاحتفاظ به لأجل حب وحيد. نكرر إذن : ليس الأبيقوري بصاحب لذة، لأن البحث عن المتعة لذاتها يخلق توترا بلا هدف، حلقة مفرغة بدون نهاية. الأبيقوري كذلك ليس هائما، أسيرا أمينا لحب وحيد. حينما يدرك الهوى على هذا المنوال، فإن ذلك يقيد حركة الإنسان الحر. الأبيقوري حكيم واع كثيرا بالطبيعة الإنسانية، حيث تشكل داخلها فعليا الرغبة الجنسية جزءا. يجب إذن التعامل معها إذن كما هي ليس أكثر "متعة جامحة، شغف أعمى" أو أقل "تقشف متكلف)) (ص 44).
المجموعة الثالثة، التي صنفها الرواقيون تتضمن رغبات غير طبيعية وليست ضرورية مثل الطموح وتوخي القوة والتطلع إلى الغنى والمجد.
تكمن الأطروحة الأساسية لأبيقور ومعه لوكريس في : ((تخليص النفس من اضطرابات الشهوة (...). الطبيعة في مجموعها يمكن تفسيرها عقلانيا دون حاجة إلى استدعاء الآلهة كمبدأ خارجي. هذا التفسير يتوخى أن يكون ماديا بشكل محض : كل الأشياء والكائنات الحية في الكون يمكن تصورها باعتبارها تجميعا أو دمجا لذرات المادة (ننسى أحيانا بأن الذرية ليست اختراعا حديثا)، هذه الذرات تتمازج فيما بينها حسب قواعد فيزيائية متعددة، يستوقفنا هنا بالخصوص مبدأ الانحراف، الذي يمكن من تفسير تغيرات شكل المادة )) (ص 44/45).
استنادا على أرضية فكرية ومنطلقات إلحادية ـ حيث كانت الفلسفة الأبيقورية كذلك ـ حاول لوكريس إعطاء وصف شبه علمي للحب والقطع مع كل تصور أسطوري أو ديني، بحديثه عن حضور لعبة السيمولاكرات Simulacres : (( ما نحبه أو نراه، هي أولا وقبل كل شيء سيمولاكرات الإنسان المعشوق. ما يمكنه أيضا أن يفرض نفسه سلبيا : ذلك الذي يحولنا إلى عبيد من خلال الشغف، إنها ليست إلا سيمولاكرات. في حين إيجابيا : يمكننا اختيار سيمولاكرات أخرى غير تلك المرتبطة بشغف وحيد)) (ص 45/46).
نتذكر بأن نظرية الرؤية عند اليونان، تؤكد على أن بعض ذرات المادة تعمل على إثارة العين، وليست هذه الأخيرة التي تتجه للمادة. تطبيقا لهذه النظرية بخصوص الحب فإن ما نراه ونحبه هو ألا وقبل كل شيء سيمولاكرات الإنسان المحبوب أو المعشوق.
إذا كان أفلاطون يؤمثل الحب/ الإيروس. وأرسطو يعمل على تجسيده من خلال تمظهرات الفيليا La philia. فإن لوكريس، يفكك لغزه بالفصل بين الجنس والعاطفة : ((هناك من جهة، اللذة الفيزيائية للجماع. وهي ليست بالمطلق ضرورية لكنها على الأقل طبيعية ومع أي كان. ثم من جهة ثانية، خطر العاطفة العمياء اتجاه شخص وحيد ليست طبيعية أو ضرورية ! فينوس Vénus المتشردة، نعم فينوس العاطفية. لا ، بالنسبة ل لوكريس ، وعلى النقيض من أفلاطون يوجد تناقض أساسي بين الحب والحكمة : يصير الحكيم بالحب تابعا للآخر، في حين أن الحكيم لا يجب عليه التعلق بأي أحد)) (ص50/51).
لكن النقد الأكثر عنفا عند لوكريس يتجه إلى ماهية وجوهر الحب نفسه : ((أي التبعية التي يتضمنها، والخضوع لقاعدة الآخر. لكن ما لم يظهر في نصه، ولم تتم مساءلته هو بالتأكيد الفكرة التي تتضمنها التبعية هنا : كون قاعدة الآخر بالنسبة لي، يمكنها أيضا أن تشكل قاعدة لهذا الآخر )) (ص 51).
بوصولنا إلى القرن السابع عشر مع ديكارت عاشق ؟ نقف على سياق معرفي آخر، نكتشف معه بعض المعطيات الشخصية والحميمية من حياة أب الفلسفة الحديثة.
أصدر ديكارت سنة 1644 عمله : » « Principes de la philosophie. وفي 1649 اشتغاله الفلسفي الآخر : » « le Traité des Passions. كان ديكارت آنذاك يبلغ من العمر 51 سنة، يعيش بمدينة إيغموند الهولندية. حيث سيتعرف على ملكة السويد كريستين عن طريق هيكتور بيير شانو سفير فرنسا في السويد، والصديق الحميم لديكارت مند 1944. عشقت كريستين الفلسفة، لذلك كانت لها حوارات مع شانو حول طبيعة العواطف والأهواء. لكنها فضلت أيضا معرفة تصور فيلسوف كبير كما هو الحال مع ديكارت بهذا الخصوص: ((تتعلق المسألة، بأن نعرف جليا ماهية هذا الدافع السري الذي يحملنا إلى صداقة شخص دون آخر، حتى قبل الوقوف على مزيته)) (ص 56).
بمعنى آخر ماهي الدواعي والدوافع التي يخترقنا على ضوئها الحب ؟ أو لماذا نحب شخصا دون غيره ؟ جزء من إشارات ديكارت كانت كالتالي :
عاش الفيلسوف فعليا هذه التجربة، مؤكدا أنه حينما كان صغيرا عشق فتاة في سنه كانت شيئا ما، حولاء. أمر، سيذكره دائما بهذا العشق الأول كلما شاهد شخصا بأعين لها مثل هذه الخاصية الفيزيائية. أما تنظيريا، فقد اشتغل على قضية الحب في مجموعة من رسائله، واحتلت موقعا مركزيا في كتابه : Le traité des passions.
هناك سببان يدفعانك، إلى حب شخص في مقابل بقية الناس : (1) واحد يعود إلى الفكر (2) والآخر يرتبط بالجسد تهيئه أجزاء من دماغنا يقوم مصدرها في موضوعات الحواس. أو، هناك تميز بين الدوافع التي ترتبط بالروح من جهة والجسد من ناحية ثانية. لكنه يؤكد هنا بتوخيه دراسة العلل ذات الطبيعة الجسدية.
يؤكد ديكارت على عفوية الإحساس الأول بالحب : ((جذبتني فتاة صغيرة حولاء، ولا أعرف لماذا، هذا كل شيئ. ولأن الأمر، كذلك فإن التعلق كان مؤثرا)) (ص 58).
شعور يخبو ويتلاشى حين تتم معرفة السبب. إلا أن هذا الحضور اللاواعي عند ديكارت ، لا يشبه الحمولة النظرية التي أعطيت ل اللاوعي الفرويدي : ((دائما من خلال معنى أن شيئا ما يمكنه أو عليه، تبين ذاته بتحويله ذكريات مبهمة إلى أفكار واضحة متميزة من خلال تثبيتها في الفكر. ليس اللاوعي إذن شيئا آخر، غير كونه وعي بشكل مضمر. وإذا وجد في الواقع مؤقتا هذا اللاـ مفسر، فإنه لا يظل مطلقا. مبررات اختيار هذا الشخص أو ذاك، تبدوا بأنها غير قابلة للتفسير على الأقل لحظيا : لكنها قد تصبح عكس ذلك. طبعا، توجد عتامة بخصوص أسباب الحب عند الذي يعشق. لكن مع ديكارت فإن الفكر تعريفيا شفاف لذاته : لا توجد إذن تلك العتامة بين الفكر وذاته، لكن بين هذا الفكر ثم المركب جسد روح الذي يشكلني كإنسان)) (ص 58/59)
ميزت النظرية الديكارتية ،أيضا بين الحب الذي يتسم ببعده الفكري والبرهاني المحض، عن النموذج الآخر الذي يتحدد بكونه نزوى أو حبا حسيا. تمايز الحب/ الذهني عن الحب / العاطفي ينسجم ويتوافق بلا شك مع ثنائية ديكارت الأساسية بخصوص الجسد والروح : ((أكون في الحب الذهني شفافا لنفسي، الوعي بشعوري واضح على الوجه الأكمل. وفي الحب-الوجد، أبقى جزئيا معتما عن نفسي في نطاق كون بعض مشاعري تأخذ منبعها داخل الجسد )) (ص 61).
إلا أنه بالرغم من كل التظيرات الفلسفية، فإن الحب الأصيل والحقيقي الذي عرفه ديكارت في حياته، يظل عالقا بعشقه الأبوي لابنته فرانسين Francine التي توفيت سنة 1640.
أما أحاديث الحب عند فيلسوف آخر هو سبينوزا ، فليس من الضروري أيضا عزلها عن الإطار العام لفكره أي "هندسة العواطف" كما فهمها في مقدمة "إتيقا" : (( لا إدراك الإنسان في الطبيعة كإمبراطورية في إمراطورية، ولا الرغبة في انفعالات الناس أو السخرية منها. ولكن توخى معرفتها، على طريقة المهندسين : (("أعتبر الأفعال والشهوات الإنسانية، يكتب سبينوزا كما لو كانت مسألة خطوط ومساحات وكذا مجسمات". فالفيلسوف سعى إذن إلى وضع منطق للانفعالات)) (ص 66/67).
إذا كان ديكارت ، قد دفع في كتابه : le traité des passions ،بالانفعالات إلى أن تبلغ ستة هي : (1) الحب (2) الكراهية (3) الرغبة (4) السعادة (5) الخوف (6) الإعجاب. فإن سبينوزا اختزلها إلى ثلاثة فقط : (1) الرغبة (2) السعادة (3) القلق. مشكلة باشتقاقاتها وتحولاتها انفعالات وعواطف أخرى، ليقوم الإحساس بالحب مثلا انطلاقا من شعور نفسي إسمه السعادة، حيث لا يمكن فهم الأول دون الثاني : (( "السعادة هي انتقال الإنسان إلى مرحلة في غاية الاكتمال".نرى في أي منظور يندرج الحب، ونحن نقوم داخل السعادة : منظور الفعل نفسه، حينما سيكون الحب انفعالا)) (ص68). ولا تفهم السعادة بدورها إلا عبر تحديد الرغبة : ((" أو اشتهاء وعي لذاته" لأن الرغبة نفسها ماهية للإنسان" وقبل أن يكون الإنسان كائن معرفة، فهو كائن للرغبة)) (ص68).
تحدث سبينوزا عن الحب على طريقة ديكارت : (( التمتع بشيء والتوحد به تبعا لطبيعة هذا الشيء الذي يتوخى الإنسان الالتحام معه والتلذذ به)) (ص 69/70).
من بين ذلك نجد فصل الأشياء القابلة للتلف، ثم تلك المستمرة، من هنا حب الله الذي يمر أولا بمعرفة وحب الذات.
ميز سبينوزا بين نوعين من الحب : الحب الحسي الذي يتغير بسهولة إلى كراهية، وحب الروح باعتباره فكرة عن الجسد، بناء على وحدة سبينوزا الأساسية بخصوص وحدة الروح والجسد. أما حب الرجل الحقيقي للمرأة، فمن الضروري أن تكون له كعلة أساسية ليس الجمال وحده، ولكن الحرية الباطنية. كتب سبينوزا في رسالة إلى هيغو بوكسيل، محددا وجهة نظره بخصوص فهمه للجمال : (( ليس الجمال، سيدي بخاصية لشيء موضوع تأمل، غير ذلك التأثير الذي يثيره في من يتأمله. إذا كانت عيوننا أكثر قوة أو ضعفا، ثم بنية جسدنا غير ما هي عليه الآن. فإن الأشياء الجميلة قد تغدو عندنا بشعة والعكس صحيح. حينما نشاهد أجمل يد من خلال الميكروسكوب، تظهر بالتأكيد فظيعة)) (ص 71).
يتطابق الحب ببساطة مع ما نتوخى وننتظر منه أي باعتباره حضورا مهدئا أو « acquiescentia » في قاموس سبينوزا. ما يهم هو : ((حضور الشيء المعشوق، تتقوى سعادة العاشق أو على الأقل تتم تغديتها، لذلك فهو منشرح)) (ص 71).
وسنجد أيضا هذه « acquiescentia » ،بخصوص الحب الذهني ل الله : (( في الكتاب V (...) حينما لا يكون هذا الحضور المهدئ مرتبط قط بكائن مفرد ومنتهي، ولكن بانصهارنا كليا في الطبيعة (...). حب الله الذهني، شكل نهائي للغبطة، أو بالضبط سعادة مطلقة مستقلة عن كل إقرار بأي عامل خارجي. بمفاهيم أخرى، ننزع ما هو خاص أو خارجي لكي نحتفظ بالسعادة كتأثر فعال، ثم نحولها إلى سعادة مجردة . وهي لن تقوم بشكل محض إلا إذا أحدثها كائن وحيد (...). ماذا يعني هنا حب الله عند ذلك الذي أبعدناه طويلا وزالت حظوته لأننا اعتبرناه فيلسوف ملحد ؟ حب الله، هو عشق لنفسك كجزء نشيط في الطبيعة)) (ص 71).
إن الذين يفهمون الحب باعتباره إرادة للعاشق لكي يتوحد بالشيء المعشوق، يخلطون حسب سبينوزا في تصورهم بين الماهية والخاصية : ((أبسط ميزة، هي تلك الإرادة الديكارتية (...) في حين تكون الماهية شيئا مثل أن تجعل في جدول السعادة تجربة العلة الخارجية)) ( ص 72). وبالتالي قد لا يدركون جيدا ماهية الحب.
إذا كان ديكارت ،قد عرف الحب باعتباره إرادة باطنية للالتقاء. فإن سبينوزا، اختار مقاربته بناء على عنصر خارجي، لأن الحب سعادة أو بهجة تترافق مع فكرة علة خارجية. لذا ، سعى إلى تحديد مفهومي لهذا الشعور المضطرب المتعلق بقوة موضوعية تقودني إلى لحظة الحب. يكون العاشق فرحا وسعيدا، لكنه قد لا يعرف معنى الحب ؟ أو لماذا نحب بالأحرى هذا الشخص، مما يعطيه إحساسا بالاضطراب.
أي اختلاف أو تقاطع بين سبينوزا وديكارت ؟ : (( ديكارت وبعد أن تجاوز اعتراف الفكرة الطفولية، فقد ثمن الذات العاشقة التي تكون سيدة نفسها وكذا اختيارها، ثم تحدد إراديا استنادا على الفهم الذي يملي عليها الموضوع المعشوق، من خلال العقل. لذلك، استبعد ديكارت خارج النسق إمكانية تقدير دواعي. أما سبينوزا ولأنه يتوخى بالتأكيد التجاور، فقد أدرج الموضوع تقريبا في نسق الانفعالات. ظل ديكارت عند وحدة الذات المفكرة. سبينوزا ، أراد التفكير في الحب كتأثير للآخر. اشترط ديكارت قوة روح الذات l'ego، في حين سعى سبينوزا ، فهم هذا "الأكثر قوة مني". بقدر صحة، كون الناس يعتقدون بحريتهم حينما يدركون أفعالهم ويجهلون العوامل التي تؤثر فيها (الإتيقا III). ما ينتقده أساسا سبينوزا عند ديكارت بهذا المنظور الجديد ـ وهو ما يمكن فهمه عبر هذا المفهوم الآخر للحب ـ هي الكيفية التي يدرك بها وحدة الجسد والروح. مقابل الثنائية الديكارتية، التي طرحت الإشكالات المستعصية بخصوص التواصل بين الجوهرين، حيث حاول ديكارت معالجتها بفرضية مسماة "سرية" عند سبينوزا عن الغدة الصنوبرية وأرواح حيوانية (الإتيقا V). أكدت السبينوزية على وحدة تكاملية بين النفس والجسد دون أي تواصل آخر بين الجوهرين غير "التوازي"، يتعلق كل شيء في إطارها بوجهة النظر المتبناة (( الروح والجسد شيء واحد، نتصوره تارة تحت محمول الفكر، ومرة من خلال الممتد" (الاتيقا III). لا يتعلق الأمر، إذن حسب سبينوزا القول بأن بعض العوامل العاشقة تتعلق بالروح وأخرى تقوم على الجسد)) ص 72/73).
حينما ننتقل إلى كيفية اشتغال تيمة الحب داخل خطاب فيلسوف من نوع خاص هو بليز باسكال Blaise Pascal، ساعيا إلى تجذير مطلق لحضور أولاني ل الأنا انطلاقا من سؤال ما هي الأنا ؟ قلت بمنطقه ذلك نخلص إلى استحالة أنطولوجية لكي نحب شخصا ما لأنه بعد وقبل كل شيء لا نحب إلا شيئا ما في هذا الشخص.
يبحث باسكال عن ماهية وجوهر ل الأنا، وفق نظرة تبئيرية، تؤكد على هذا الانزلاق القدري إلى انتفاء حب أي شخص في ذاته ولذاته ولو توخينا ذلك.
لا يمكن القبض على الأنا أو معرفتها، مما يعني أيضا كوننا لا نعرف الحب. فالحب ليس ذو طبيعة معرفية، كما أن القلب يختلف عن العقل، هناك إمكانية للحب وليس للمعرفة. الحب الإنساني مستحيل من هنا ضرورة الحب الإلهي، حيث تظهر حقائق القلب باعتبارها "حقائق الدين".
الجوهري في الحب أن يكون وسيلة من أجل معرفة الأنا، لكن نلاحظ بأنه يقوم على الجمال وحده، ولا يعرف شيئا عن هذه الأنا. لذا : (( تلازم قضية مستقبل الحب تبعا للظروف كل العقول : إذا وقعت لي حادثة في يوم ما، فحدث لي تشوه، أو إعاقة ثم تشللت : هل ستحبينني دائـما ؟ إذا كان نعم، ما هو الشيء الذي يلزمك دائما لكي تعشقينني ؟ إذا كان لا ، ما الذي أحببته في ذاتي إلى غاية الآن ؟)) (ص 81).
ماذا نحب حقيقة . إنني هذه الأنا، لكن أي حيز لها باعتبارها جوهر لماهية الحب : (( "أين إذن هذه الأنا ؟" كعلامة على التضايق أو الحزن، حزن مفتقد، ذات غير موجودة : ضد ديكارت دائما، فإن الأنا لا يمكن تعريفها باعتبارها وحدة بين الروح والجسد. إن استدلال باسكال ، وقد أخذته دوامة من الأسئلة تفتقد إلى أجوبة، يظهر هنا شيئا ما أكثر صعوبة مما سبق. يقوم في الواقع، بأكمله على تناقض يتعذر تجاوزه : إما أحب شخصا لمظهره، ولا أعرف أي شيء عن جوهره، أو قد أحبه لذاته دون معرفته حقا لأنه ليس بإمكاني معرفة غير مظهره. إذا عشقت، أحب هذا الرجل أو تلك المرأة، لكن من هو أو من هي، غير ما هو حاضر الآن ؟ نجد أنفسنا إذن أمام ما سماه جون براون : "وضعية محدودة". "ما معنى عشق شخص ما، غير عشق صفاته التي تثيرنا، والتي هي عابرة، حيث لا تؤسسه بشكل حقيقي ؟ (...) حب كهذا، لا يتوجه إلى الآخر باعتباره كذلك ولكن فقط لأنه هذا أو ذاك" )) (ص 82/83). لكل شخص أناه، لكن لا فرد له الأنا ذاتها : (( السؤال "ما هي الأنا ؟" ليس هو سؤال "من أنا ؟ ". ليست الأنا هي "الذات" ولا "الذات" الديكارتية كذات عقل كوني ولا "ذات" أوغسطين "الاعتراف" أو مونتين "الرسالة". مع الأنا، إجمالا نبحث عن ماهية الفردي، كونية الخصوصي، والذي هو بالتحديد غير موجود ... . هذا السؤال البسيط والأساسي، تبدأ من خلاله رؤية كل الحمولة التدميرية)) (ص 79).
بالانتقال من ديكارت إلى باسكال ، نلاحظ هذا الانزياح القوي من تمركز أنطولوجي للذات، إلى أخرى تلاحق إراديا مدارات لا تمركزها.
إذا كان باسكال، قد شكك في قيام الحب مع غياب هذا التمثل الحقيقي ل الأنا فإن فيلسوفا آخر مثل جان جاك روسو سيؤكد بأن حب الذات كشعور بدائي وفطري يمثل أصلا ومصدرا لكل العواطف الأخرى التي ليست إلا تحويرات لهذا الإحساس الأولي. حب الذات، جيد ومنسجم مع نفسه ونظام الطبيعة، أما التحولات التي يتعرض لها هذا الأساس بعيدا على أن تكون إيجابية فإنها مضرة تغير الموضوع الأول وتسير ضدا على مبدئه. بعد ذلك، يجد الإنسان نفسه خارج الطبيعة في صراع مع ذاته.
انطلاقا من حب الذات ، تولد الأشكال الأخرى للحب عن طريق الاختمار يؤكد روسو ، ويظهر بشكل عام الارتباط بالآخر بمعنى علاقات الصداقة أو الحب معه : (( يتأتى كل شيء من حب الذات ، عاطفة وحيدة، مطلقا بدائية وطبيعية. تتمثل أول اشتقاقاتها في الشفقة بمعنى حب شامل للآخر، لكن انعطافه الأساسي هو الحب ـ الخاص ، شغف كله موازنة وحيلة. هذان النوعان من الحب المتمركزان على الذات يوجدان أخيرا في عمق الحب المتجه إلى الآخر)) ( ص 98).
نعرف بأن مشروع روسو ، توخى أساسا جعل الإنسان محافظا على خاصيته وجوهره الطبيعيين، مع عدم الخلط بين ما هو طبيعي في الحالة البدائية، وبعدها في الحالة المدنية. أمر يتحقق بواسطة التربية حيث يمكننا توجيه انفعالات وعواطف الطفل. وإعطائه الوسائل لكي لا ينجر بلعبة الآراء إلى الدوامة الاجتماعية، مما يفقده ذاته الطبيعية. يقول روسو في إشارة إلى تلميذه: (( أن يعيش هي المهمة التي أردت له تعلمها. أعترف بكوني لا أريده، أن يخرج من تحت أيادي قاضيا أو عسكريا أو كاهنا. بل عليه أن يكون إنسان أولا)) (ص 95).
أصدر روسو كتابه الأساسي "إميل" سنة 1762 بشكل متزامن مع العقد الاجتماعي . لكن قبلهما، اشتهر الفيلسوف أيضا بعمليه :
• Discours sur les sciences et les arts (1750).
• Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes (1754).
وروايته "Héloïse" (1761)، التي تعكس رهافة الشعور العاطفي خلال القرن 18.
لكن يبقى لعمله "إميل" ـ استغرق 20 سنة من التأملات، وثلاث سنوات من العمل ـ قيمته الخاصة ووضعه الاستثنائي بين ثنايا مشروع روسو أو في تشكيل إحدى الحقول الأساسية لاشتغالات الفكر الإنساني، الأمر يتعلق بأسس التربية الحديثة. ونظرا لتقدمية أفكاره، أصدر البرلمان الباريسي قرارا يدين الكتاب ويأمر بإحراقه كما دعا للقبض على روسو. في حين أخرج أحد الرهبان على التو بمدينة ليون Lyon عملا نقيضا سماه "ضد ـ إميل" يدعو فيه إلى تربية صارمة ودحض أفكار روسو.
تقوم الأطروحة المركزية لفيلسوفنا على المعادلة التالية : ((للتفكير حقا في التربية، من الضروري العودة إلى الطفولة وبالتالي العثور ثانية على الحب. ليس على الفور، ذلك الحب الأول (كما هو الحال مع ديكارت بخصوص الفتاة الصغيرة الحولاء). لكنه الشعور الأول والإحساس الفطري، والذي قد يسمى داخل النظام الكرونولوجي للعواطف، حيث يتأتى الجواب من ذاته ب : الحب الأول، حب الذات. أي ما يمكننا ترجمته تبسيطيا بغريزة البقاء)) (ص 93).
إن حب الطفل لذاته، يسبق أصلا كل لحظات وتجارب الوعي الممكنة : ((وتبدأ المشكلة مع الحب الخاص ، الذي ليس بشيء آخر غير انحراف ـ وليس مجرد اشتقاق بسيط ـ عن حب الذات. بقدر ما يكون حب الذات مكتفيا بذاته في إطار اكتفاء ذاتي بعيار سليم، ثم يصبح ممكنا من خلال طبيعة العلاقات التي ينسجها الطفل مع محيطه القريب، بقدر ما ينمو الحب الخاص مقارنة مع الآخر، فالمماثلة وبالتالي الرغبة والحقد تجعل الطفل خاضعا للرأي، في حين أن عمره لا يخول له التوفر على كل أسلحة العقل لكي يصارع ضده. يوصف حب الذات كشعور مطلق، الاهتمام الذي يكرسه كل واحد لبقائه الخاص. في حين يتميز الحب الخاص بنسبية شعوره ومماثلته)) (ص 94).
مع توسع وامتداد علاقات وحاجات الطفل، فإن الإحساس بروابطه اتجاه الآخر تشتعل وتنتج شعورا تتوزعه التفضيلات والواجبات ثم يتحول الطفل مثلا إلى : ملحاح ، حسود ، مخادع، حقود ... . فالاجتماعي يلوث ويغتال الطبيعة الإنسانية حينما ننتقل من عذرية وفطرية حب الذات إلى سطحية وزيف ما يسميه روسو بالحب الخاص.
لاشك أن المقولة التحليلية، التي تؤكد على أن أي نسق أو مشروع فلسفي إلا ويخفي وراء ظهره التجارب الحياتية والاجتماعية لصاحبه. تنطبق بامتياز في النماذج الفلسفية التي استقاها الباحث سوفاني، من الفيلسوف الدانماركي كيركجورد Kierkegaard أكثر من غيره.
فقد أعلن عن خطبته ل ريجين أولسن سنة 1840. سنة بعد ذلك، ناقش أطروحته مع فسخ خطوبته في الآن ذاته. ثم سافر إلى برلين بين 1841/1842، لتتم خطبة عشيقته من قبل رجل آخر اسمه فريتز شليغل ، وزواجها أخيرا سنة 1847. بعدها، سيأخذ الحب عند كيركجور مفهوما نوستالجيا. لأن الحبيبة قد تزوجت وابتعدت نهائيا.
يتحول هذا الغياب/ الحضور إلى اشتغال مركزي، من أجل فهم نص كيركجورد. فإذا كان ((الحب هو كل شيء))، ثم : (( "ما الذي يجعل الإنسان كبيرا، منجذبا للإبداع وممتعا في أعين الرب ؟ كيف يصبح الإنسان أقوى من العالم بأكمله، وأضعف من أي طفل ؟ ما الذي يجعل الإنسان ثابتا، صلبا كالصخر أو لينا مرنا مثل شمع العسل ؟ إنه الحب ! ما هو أقدم شيء ؟ الحب. ما الذي يخلد بعد كل شيء ؟ الحب . ما هو الشيء الذي لا يؤخذ، لكنه على العكس يأخذ الجميع ؟ أليس الحب "... )) (ص 104). فإنه كذلك تجربة لا يخرج زمانها عن المعاودة النظرية والتكرار والعود المستمر : (( فهو يتناسب أولا، بشكل واقعي جدا مع فكرة الارتباط مجددا ب ريجين أولسن خطيبة كيركجورد القديمة (...) للتكرار أيضا معنا جماليا جد مثير، خصوصا في الموسيقى والمسرح (...) وأخيرا، قد يظهر التكرار كمفهوم، لا أكثر ولا أقل تحققه الحياة ذاتها وهي تستعيد الأشياء ثانية دون الإعادة نفسها بل من خلال اختلافها. "لقد ربطت التكرار بالحركة " يوضح كيركجورد)) (ص 105).
وقد أصدر كيركجورد بناء على هذا الالتصاق الأنطولوجي إن صح التعبير عملا سماه : la reprise. كتب جزءه الكبير في برلين، تحت تأثير فشله العاطفي : ((الحب الوحيد هو دائما الأول. يجب أن يستعيد ذاته منذ الآن ودون توقف. مثل الحب الذي يدفع الإنسان باستمرار إلى الأمام، فإن التكرار، ليس بحالة ولكنه مهمة. والحالة هاته، فإن المعشوقة ليست تلك التي نظن. الخطوبة مفسوخة، التكرار الفعلي مستحيل بل إن المحبوبة تزوجت. من الضروري أن نستعيده إذن في ذاته : بالنسبة ل كيركجورد ، فإن أمرا كهذا سيقوم وفق أرضية دينية)) (ص 106/107).
ما يهم إذن هو العمل على إدامة الحب دون قتله، والمحافظة عليه في الزمان. إذا كان الأمر مستحيلا، فإن الحب كذلك عير ممكنا.
إن هذا التسامي التقديسي للعشق عند كيركجورد ، جعله أيضا يضع مشروعات من 12 درسا للتفكير في لحظة الحب، حقيقة تبين درجة اهتمامه بالموضوع لكن خاصة رحابة قلبه بقدر متانة دماغه.
بعد ذلك، سننتقل مع الفيلسوف شوبنهاور Schopenhauer إلى أسلوب آخر من التفكير، ينطلق بدءا وانتهاء للبحث في كل انفعال عن أصله في الغريزة الجنسية. جازما، بأن الجنس هو حقيقة الحب الميتافيزيقية، حيث يستهدف أساسا بقاء النوع. الحب إذن وهم.
لقد جسد هذا العقل الألماني مفهوما وممارسة حياة الفيلسوف : ((لا يمارس عملا، منعزل، يبغض البشر، متشائم، مبهم،)) (ص 115). ويتموقع فكريا : (( إراديا بعيدا عن مثالية ما بعد كانط (فخته ، شيلينغ ، هيغل)، حيث أشبع هؤلاء شتائم، مفضلا أن يصطفي بشكل مستقل في خط كانط ، اتجاه ظاهراتية جذرية : ليس العالم أولا إلا تمثلنا (موضوع أطروحته سنة 1813). ستظهر الطبعة الأولى عام 1818 (وأخرى أكثر توسعا في 1844، 1859) عن العالم كإرادة وتمثل، عمل فريد (أو تقريبا) عن فكرة فذة، تلك المتعلقة بالإرادة الكلية)) (ص 115).
الإرادة الكلية في تموضعها. كما أن هذه الإرادة كشيء في ذاته تشكل الماهية الباطنية للإنسان. العالم إرادة إلا أنه تمثل، قبل ذلك. تكون الإرادة عمياء حينما تفتقد للمعرفة وتشتغل بدون وعي : ((يتخلص ذكاء العقل من الإرادة الكلية بثلاث انحرافات : الفن (ولا سيما الموسيقى، باعتبارها التعبير الأكثر فورية عن الإرادة). العطف (إذا كانت إرادة البقاء متماثلة في الذات وكذا الآخر، فإن العطف يحررنا من وهم الأنانية). أخيرا، التزهد (وفق النموذج الفلسفي البوذي) )) (ص 116). في حين يكتب الناشر الفرنسي ل شوبنهاور متأملا فلسفة هذا الأخير: (( العالم الذي ندركه، يندرج أيضا جسدنا، ليس إلا تمثلنا. لهذا السبب يخضع لأشكال الفضاء، الزمان وكذا العلية، وهي لا توجد إلا في فكرنا. لكن العالم في ذاته إرادة، كما توحي لنا بذلك التجربة المباشرة لجسدنا، وكذا تموضع هذه الإرادة في عالم التمثل لا يؤدي إلا للآلام. حينما يصل الإنسان إلى اختراق حجاب مايا Maya كما هو الأمر في التأمل الجمالي وخاصة بالفلسفة الحقيقية، فإنه يفهم تفاهة وجوده ثم يتخلى عن إرادة البقاء)) (ص116/117).
في ضوء ذلك ، سيغدو الحب قناعا للغريزة الجنسية لعبة لهذه الإرادة الكلية من أجل تهيء النوع، والذي ليس له من غائية أخرى إلا إعادة إنتاج إرادة البقاء : ((لا تتمكن الطبيعة من الوصول إلى هدفها، إلا بأن تخلق عند الفرد وهما ثابتا يعتبر على ضوئه امتيازا شخصيا، ما هو في حقيقة الأمر تفضيلا للنوع . وبالتالي، حينما يتخيل بأنه يشتغل لنفسه فإنه يفعل ذلك في حقيقة الأمر من أجل النوع )) (ص 118). حينما أحب هذا الشخص أو ذاك، فإنني في حقيقة الأمر أعشق أفضل شخص قصد التوالد. السعي للبقاء، يدفعنا للتوالد التاريخي بإرادة كونية تتجاوزنا جميعا وتدفعنا لكي نهتم بالحب. فأن يحب الإنسان أو يقتل، معناه يتغيا استمرارية النوع. سيكون هناك دائما جيل يحب ويموت إلى الأبد. سيناريو يستمر على هذا الحال، ما دام أن مسرحية الحياة تعمل على إخراج لعبتها بطريقة مختلفة.
لقد صاغ شوبنهاور نمذجة متشائمة لحب المصير، وجدناها بعد ذلك عند نيتشه . ترجمة أولية للعود الأبدي ، والتي لا يجب كذلك خلطها مفهوميا مع تصور كيريكجورد ل التكرار la reprise المرتبط بالفكر أساسا, نعتقد بعالم يتغير، وبوجود صيرورة، في حين هناك فقط تكرار أبدي. لأن الصيرورة وهم.
أما الفيلسوف/ الشاعر والفنان نيتشه ، المدافع باستمرار عن أطروحة إرادة القوة. فقد أضحى صبورا ودؤوبا إن لم نقل "خانعا" أمام شيئا اسمه الحب. فأن تحب، لا يعني تحقق لك الأمر فوريا، لأن حسا كهذا يتطلب وقتا. ينهض الحب وينمو بالدربة والتعلم. لذلك عبر نيتشه ، عن وجهة نظره هاته من خلال نص جاء عنوانه منسجما مع وصيته أي: ((يجب تعلم أن تحب)) الذي ورد في كتابه : le Gai savoir . الصادر سنة 1881.
من أجل التعود على التمرين، والتفكير في الحب. فإن نيتشه يحيل على تمثل الجمال ثم الموسيقى خاصة، لكن تآليف الموسيقار فاغنر أكثر تحديدا. يقول : ((ألم تلاحظ إلى أي حد تعمل الموسيقى على تحرير الفكر؟ تعطي أجنحة للأفكار؟ وبقدر ما تصبح موسيقيا، تغدو فيلسوفا؟)) (ص 127). أما ماهية الحب: ((إذا لم تكن فهم وكذا الإبتهاج بأن شخصا آخر يعيش، بتفاعل، ويحس بطريقة مختلفة عن طريقتنا ومتعارضة معها؟ لكي يوحد الحب التناقضات بالسعادة، فلا يجب عليه إلغاؤها أو دحضها. حتى حب الذات له شرط ثنائية غير قابلة للاختزال "أو تعددية" داخل شخص واحد))(ص131)
حتى وإن أهدى كتابه الضخم "الوجود والعدم " l'être et le Néant" لامرأة جميلة وذكية إسمها سيمون دوبوفوار ـ بطبيعة الحال، ليست أي امرأة ـ فإن الفيلسوف الوجودي والمثقف الإنساني الكبير جان بول سارتر Jean-Paul Sartre لم يكن قط "أنثويا" كما قد يقفز إلى الأذهان لأول وهلة مع إشارة كتلك. لأن المرأة، قد لا تخرج عن النسق الجحيمي: "الجحيم هم الآخرون " لهذا الآخر في علاقته بذاتي.
على الطريقة الهيغيلية، حيث أن كل وعي يلاحق موت الآخر. سيتأمل سارتر هذا الآخر داخل دائرة الصراع. صراع ،لا يقوم هنا كنتيجة أو ظاهرة عابرة ظرفية، بل يسكن عمق العلاقات التي تحكمني مع الآخر. هذا الآخر يتملكني بمجرد نظريته إلي، ويعيد تشكيل ونحت جسدي كما لم أتمكن أبدا من رؤيته، فهو يتملك سر أناي.
يشير سوفاني ، إلى مشاهد واقعة يومية يمكن أن تحصل لأي واحد منا، حتى يبسط فهم وجهة نظر سارتر : (( أنحني أمام باب، حيث العين مشدودة إلى ثقب قفل. لا يهم لأي سبب جيد أو سيئ ولا يهم كذلك المشهد الذي يجري وراء الباب : أنا هنا. فجأة أسمع خطوات في الدهليز، وقعها هو ما يسميه سارتر "النظرة"، فالآخر هنا يقترب وبعد قليل سيفاجئني في هذا الوضع المثير للسخرية : إنه يكتشف تلصصي. بالنسبة إليه، أنا ذلك الذي ينظر من وراء الأبواب. للحظة، تجمدت كل إمكانياتي. على بطاقة هويتي، سيكتب فجأة بخط أحمر "توقيعات خاصة" : متلصص. بالتأكيد، أعرف جيدا بأنني غير ذلك، وبأن ذاتي تقوم على إمكانيات لا نهائية لكي أكون أو بالأحرى أوجد، أن أكون خارج ذاتي. لكن في هذه اللحظة بالضبط، وتحت نظرة الآخر فإني لست إلا هذا : مجرد متلصص. خجل إذن: أنا تجربة للآخر)) (ص 138).
يستحيل أن تتوحد مع الآخر : (( أنا لست الآخر، كما أن الآخر ليس أنا. لا تشكل بالضبط بداهة : كل العشاق منذ أرسطوفان ، أكدوا دائـما بأنهم بصدد البحث عن الانصهار. هكذا يجب إذن فهم الجملة الصعبة التالية : "لكي أصمم مماثلة الآخر لذاتي، يجدر أن أستمر في دحض عن ذاتي أن أكون الآخر". هذه الجملة تعني كون الانصهار ليس إلا مشروعا (الارتماء إلى الأمام) غير قابل للتحقق بطريقة مباشرة ولكن يتم التفكير فيه بالضبط من خلال رفض فكرة الانصهار. إرساء وحدة الأنا بالآخر، أي "تمثل الشيء لذاته والآخر في إطار نفس السمو" هو رفض وجود الآخر كآخر. على النقيض دحض للوحدة تأكيد لوجوده. الإشكال إذن هو كالتالي : الاقتراب من الآخر إقرار بشكل مفارق لغيريته العميقة)) (138/139).
نظرة هذا الآخر تحول وجودي للذات Pour-soi إلى وجود في الذات En-soi. أي تغدو ذاتي موضوعا، أو قد تشيأت : ((ليست النظرة فقط بحقيقة، إنها مفهوم. لاتعني النظرة فقط بأن الآخر مثلا ينظر إلي فعليا، لكنه يحوي كل إمكانيات امتلاك الأنا من قبل الآخر. لذلك فالآخر، هو آخر للذات أي ليس موضوعا، لاـ أنا كآخر لكنه ذات أخرى تحتاج إليها ذاتي)) (ص 136/137).
المشروع الانصهاري للحب، والتوحيد بين ذاتين لا يكون إلا مصدرا ومنبعا للصراع لأنه ينطوي على حريتين، تسعى كل واحدة منهما إلى الفعل والإمساك بالأخرى. سارتر نفسه كان منسجما مع موقفه ولم يتزوج رسميا عشيقته سيمن دوبوفوار.
من الضروري، أن نرى بطريقة عامة خضوع الصلات البين ـ ذاتية Intersubjectifs في المخطط السارتري لنوع من : ((البديع بتحويلين متناقضين مضاعفين بجهاز أواني مستطرقة : بين الأنا والآخر، الذات والموضوع يوجد منظوران أساسيان عند سارتر اتجاه الآخر، المنظور المازوشي والسادي (مفاهيم لا تخفي هنا نفس حقول الجنسية) : من جهة، أبحث على تمثل حرية الآخر مع الاحتفاظ له على ميزة حريته. ومن جهة ثانية، أعيد نظري ضد الآخر متوخيا التعالي بسموه الخاص. في الحالة الأولى، أنزع نحو ذات ـ موضوع، مستجيبا للحرية التي أريد تخويلها للآخر، لاسيما حرية حبه لي : ما ابتغيه، حينما أسعى إلى أن أكون معشوقا، هو أن يحدث ذلك بحرية وباعتباره حرا. في الحالة الثانية، فإن الآنا ـ الذات تستوحذ على الآخر، وتعمل على موضعته تدريجيا، أبحث لكي أدحض رؤية الآخر الذي يموضعني، وحينما أعيد نظرتي، أسعى إلى نفي حرية الآخر كما هي. ببساطة أكثر، إذا كانت الأنا موضوعا، فإن الآخر ذات (مازوشية)، أما إذا كانت الأنا ذات فإن الآخر موضوع (سادية) )) (ص 140).
تلكم إذن باختصار، أهم الأفكار والتأملات التي سعى الباحث بيير سوفاني تأويلها في كتابه "الفلاسفة والحب" انطلاقا من نماذج مختزلة جدا لتاريخ الفلسفة والفلاسفة في هذا الشأن.



.

صورة مفقودة

Abbey Altson
(British, 1866-1949)
 
أعلى