أنيسة عبود - للكشف وليس للإثارة

ليس جديداً على الأدب العربي قديمه وحديثه, تناوُل موضوعة الجنس في الأعمال الشعرية والسردية وخاصة في الرواية العربية بعد انتشارها كأهَم جنس أدبي يحتوي على خلاصة التجربة العامة والشخصية ..

وإذا كان الإبداع مظهراً نفسياً داخلياً للنشاط الإنساني , متضَمناً الآليات و الديناميات النفسية الملحة للاندماج مع التجربة الحياتية و مع اقتحام المجهول و عدم الامتثال للأعراف و القواعد الجامدة فهل نستطيع أن نفسَر ظاهرة انتشار موضوعة الجنس مجدداً في أدب المرأة بعد أن كان يقتصر – و من وجهة أخلاقية – على الرجل المبدع الذي يمتلك مفتاح السلطة الأبوية , و باب التشريع في الممنوع و المسموح.. إذ يجيز الرجل المبدع لنفسه بل هو مُتاحٌ لهُ الخوض في كل القضايا التي تشكل “ التابو “ أو المحرَم الذي لم يكن مُتاحاً و لا مُستحباً للمرأة أن تخوض فيه و على الرغم من انحياز التشريعات السماوية و الأرضية للذكورة إلاَ أنَ بعض المجتمعات المغلقة لم تكن لتحبَذ أن ينتشر هذا النوع من الكتابة إلاَ على نطاق ضيق و مستور جداً .. و بما أن الإنسان يعيش في جسده مندمجاً وسط عالم مملوء بالأفعال و الانفعالات و المشاعر و الرغبات فكان الترميزُ و التلميحُ بحيث لا يخدش حياء اللغة و لا يطفو على السطح الاجتماعي و لو أنَ كتب التراث كانت مملوءةً بمظاهر الجنس الشفاهي مثل ألف ليلة و ليلة و طوق الحمامة و الكثير من الشعر الذي انتشر سرَاً في الأوساط العربية . و مع ذلك .. و رغم كل الممنوعات و المحظورات بدأت موضوعة الجنس تأخذ حيزاً مهماً في الكتابة الإبداعية العربية و هناك أعمال كثيرة تندرج ضمناً بحيث يخدم تناول موضوعة الجنس العمل الإبداعي و يهيئه لقبول رموزٍ و دلالات ٍ و غايات ليست مجانية مغايرة للمنظومة السائدة في المجتمع . و قد يكون تناول الجنس في الإبداع العربي الحديث نابعاً من ُمنطلق “ التابو “ المخيف و رفض القيود المفروضة – على هذا الموضوع لأن موضوعة الجسد لا تنفصل عن موضوعة الجنس و من لا يعرف جسده لا يعرف نفسه , و بالتالي لا يُقرأ دورُ الجنس في السياق المعبر عن الحالة الثقافية و الاجتماعية و تحديد الواقع العربي الذي يعيش حالة القمع و الاستلاب الجسدي و الروحي و بالتالي الجنسي , مما قد يضمر الكثير من الأذى و الخذلان النفسي تجاه القيود المفروضة . و من هنا بدأت الجرأة في تناول الموضوعة الجنسية في الأدب العربي لأن الجنس أداة كشفٍ و تحدٍ و تعريف بالمجتمعات و بعاداتها و تقاليدها و حتى بقيمها الإنسانية . و نجحت الكثير من الأعمال الروائية لأنها عملت على اختراق الخبايا – و كشف المستور .. من خلال لغةٍ تبوح بالقهر و تزيحُ العتمة عن تقاليد ليس لها علاقة بأي دينٍ سماوي .. فاخترق المبدع هذه العوالم المظلمة كي يضيء الجسد الإنساني بعيداً عن الشهوة فقط أو رغبة فقط لأن الجسد وعاء الروح وصورة من صور الإله .. و المرأة المعنية دائماً ليست محلاً للرغبات فقط و لا حديقة للنزوة .. و لأن هذه الأعمال الروائية نجحت .. تشجعت المرأة المبدعة و انسحبت من تحت الخمار اللغوي الساذج و راحت تكتب الجنس كما تراه إنسانياً و اجتماعياً و حياتياً بحيث مجدت الحب و الجسد و الرغبة في الإطار الإنساني و ليس في إطار الجنس لمجرَد الجنس بل الجنس كنوع من التمرد و التحدي و الكشف . دون العسف المخيف بالجسد و خاصة جسد المرأة محلَ الغواية و الاستلاب و القهر و التعذيب . و هكذا انتشرت كتابة الجسد . كتابة الرغبة في الرواية العربية لتعرية الواقع كما ذكرت . إلا أن هناك قطيعاً من الكتَاب لم يكتف عند حدود الكشف و التعرية لواقع الجسد المرير في المجتمع العربي .. بل انطلق نحو كتابة الغواية و الإثارة والتحريض مستخدماً جسد المرأة للترويجِ لكتابته و لاسمهِ و كان لهُ ذلك فعلاً في الأوساط المتخلفة و المنغلقة , فكان بذلك المساهم الأكبر في احتقار جسد المرأة تسليعهِ و احتقار الجنس الخلاَق و تحوير الغاية من كتابة الجنس إلى مجرَد كتابة إعلانية , مسطحة .. و كم من الأعمال انتشرت بين القراء فقط لهذه الأسباب دون التدقيق في الأسلوب وفي الفنية و التناول الموضوعي و التسلسل المنطقي للأحداث .. و لم يتوقف الأمر عند الكتاب الرجال بل تعدَاه إلى نساء كاتبات ولن أقول عنهن مبدعات لأنهن تناولن كتابة الجسد ,كتابة الجنس - لغاية في نفوسهن.. ناهجات الانتشار السريع و مغازلة الغرب الذي راح يلهث على كتابة الفضيحة و كتابة (( الغسيل القذر )) للمنطقة الإسلامية و كل ما هو مسكوتٌ عنه و لكن بأسلوب مسيء للقيم و الجسد و الأدب لأنه روجَ لإبداع هزيل و غثَ فقط لأنه يتناول المحرمات بصورة مُبتذلة .. و يحطَُ من قدر المرأة و من كرامتها , فهي ليست أكثر من أداة للشهوة في مجتمع ذكوري متسلَط .. و أعطى الغرب الجوائز الكثيرة لأسماء كثيرة ليست مهمة إبداعياً بل هي مهمة من خلال تدميرها للشخصية الإسلامية , و مدمرة للنص بحد ذاته لأنه لا يمتلك الخصوصية الفنية العالية . إن موضوع الإثارة و تحويل العمل إلى فيلم "بورنو" يتلقفه المكبوتون يحتاج إلى وقفة طويلة مع أسماء كثيرة تنتشر الآن.. ظانةً نفسها بأنها حققت المجد من خلال التناول المشبوه للجسد ومن خلال الانفلاش الأخلاقي والقيمي للشخصيات التي لا تخرج عنها أبداً. وبدلاً من أن تتطور موضوعات العمل الروائي والرؤيا الإبداعية تتجه نتيجة للتحولات التي تحيطُ بنا والتي تزج بنا في خضمٍَ من الاغتراب المليء بالرموز والعلامات الغامضة, نجدُ وللأسف أسماء تنتشر كالنار في الهشيم مع أنها لم تكتب وعلى الرغم من عشرات الكتب - سوى كتاب واحد هو كتاب جسد المرأة لا غير.. وكأنَ العالم انتهى عند جسدها وبدا عند شهواتها .. مما يجعل المرء يتساءل “ ماالغاية من كتابة مكرورة , متحورة فقط على فلانة - تزوجت, وفلانة خانت, وأخرى باعت جسداً, وامرأةً سقطت.. وهكذا نجد تعويماً في المفردات وتكريساً لنظرة الرجل إلى جسد المرأة ممَا يعيدنا إلى القرون الوسطى وإلى التبعية الذكورية. إن مثل هذه الكتابة لا تحرر الجسد وهي ليست كتابة التحدي بل تعيده إلى حيواتهِ الحيوانية لا أكثر, ولا جدوى من هذه الكتابة التي من المفترض أننا تجاوزناها إلى مواضيع أكثر تعقيداً وإلحاحاً, إلا إذا كان الكاتب يسعى من خلال هذه الإباحية بكل ما تعني الكلمة أن يتوجه بها إلى الغرب المتهافت على هكذا نوع من الكتابة التي تهمَش الروح, وتمسخ الجسد, وتحول المرء إلى مجرد رغبة عابرة لا أكثر.. ولا يستعصي عن القارىء التمييز بين كتابة الجنس كجنس فضائحي, وبين كتابة الجنس للكشف و الاحتراز, والحرية والعدالة والتمرد.. وما اللغة التي تُدعى “بالجريئة والبذيئة “ سوى دلالة على قصور المبدع تجاه التقاط مفردات جديدة و دالة و عميقة تخدم فضاء العمل الروائي ليصير أكبر من مساحة الجسد في الذاكرة. وإلاَ كان المرءُ يكتفي برؤية أفلام البورنو ولا يقرأ نصَاً, يُعمِلُ منه الذهن والتخييل .

.
صورة مفقودة
 
أعلى