أحمد صبحى منصور - الاعرابى وزوجته الحسناء بين معاوية وابن أخته

هى قصة مصنوعة صاغها المؤرخ ابن الجوزى ، وحكاها فى تاريخ ( المنتظم ) (ج 5 : 292 ـ 295) وفى أحداث عام 58 ،
1 ـ قبل هذه القصة بدأ ابن الجوزى بتسجيل خبر تاريخى نقله عن الطبرى موجزه أن عرب الكوفة طردوا العامل عليهم ،او الوالى الذى ولاه معاوية على الكوفة ، وهو عبد الرحمن بن أم الحكم ، وهو ابن أخت الخليفة معاوية نفسه. والسبب فى طردهم إياه هو ظلمه . فرجع عبد الرحمن هذا الى خاله معاوية فى دمشق ، وتطييبا لخاطره ولاه معاوية مصر ، وسافر عبد الرحمن من دمشق الى مصر، وعلم بالخبر عرب مصر ، وزعيمهم معاوية بن حديج السكونى فخرج وتلقى الوالى الجديد فى الطريق قبل أن يدخل مصر وأمره بالرجوع الى دمشق وخاله معاوية بن أبى سفيان الخليفة ، ومنعه من دخول مصر قائلا : إرجع الى خالك ، فو الله لا تسير فينا سيرتك فى اخواننا من أهل الكوفة . فرجع عبد الرحمن الى خاله ، وسكت الخليفة معاوية منعا للمشاكل .
ثم حدث أن زار معاوية بن حديج الخليفة معاوية بن أبى سفيان وتصادف أن كانت هناك أم الحكم أم الوالى المعزول عبد الرحمن ، فأساءت له القول فرد عليها وأسكتها أمام أخيها الخليفة .
ننقل ما كتبه ابن الجوزى تحت عنوان : ( طرد أهل الكوفة عبد الرحمن بن أم الحكم ):
( وذلك أنه أساء السيرة فيهم فطردوه فلحق بمعاوية ، وهو خاله فقال له‏:‏ أوليك خيرًا منها مصر ، فولاه فتوجه إليها . وبلغ معاوية بن حديج السكوني الخبر ، فخرج إليه واستقبله على مرحلتين من مصر ، فقال له‏:‏ ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة‏.‏
فرجع إلى معاوية. ثم أقبل معاوية بن حُديج وافدًا فدخل عليه وعنده أم الحكم فقالت‏:‏ من هذا يا أمير المؤمنين قال‏:‏ هذا معاوية بن حديج قالت‏:‏ لا مرحبًا به ‏"‏ تسمع بالمُعَيدِي خير من أن تراه فقال‏:‏ على رسلك يا أم الحكم أما والله لقد تزوجت فما أكرمت وولدت فما أنجبت أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة ما كان الله ليريه ذلك ولو فعل ذلك لضربناه ضربًا يطأطىء منه فقال لها معاوية‏:‏ كفى‏.‏ )
2 ـ بعد هذا الخبر روى ابن الجوزى حكاية الاعرابى وزوجته مع والى الكوفة عبد الرحمن بن أم الحكم ومع معاوية نفسه . وننقلها عنه ثم نعلق عليها :
( قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي
وجرت لعبد الرحمن ابن أم الحكم قصة عجيبة أخبرنا بها محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ حدًثنا محمد بن خلف قال‏:‏ حدَّثني محمد بن عبد الرحمن القرشي قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد قال‏:‏ حدثنا أبو مخنف عن هشام بن عروة قال‏:‏
أذن معاوية بن أبي سفيان يومًا فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذره فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذرى بين السماطين ، ثم أنشأ يقول :
معاوي يا ذا الفضل والحكم والعقل
وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مسلكي
وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج كلاك الله عني فإنني
لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقي من الذي
رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجًي عدله إن أتيته
فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني
فهذا أمير المؤمنين من العذل
فقال معاوية‏:‏ ادن بارك الله عليك.. ما خطبك ؟ فقال‏:‏ أطال الله بقاء أمير المؤمنين،إنني رجل من بني عذرة تزوجت ابنة عم لي ، وكانت لي صرمة من إبل وشويهات فأنفقت ذلك عليها ، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها ،وكانت جارية فيها الحياء والكرم فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم فذكرت ذلك له ، وبلغه جمالها فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها ،وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها ،وقد أتيتك يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب وسند المسلوب ، فهل من فرج ؟!!
ثم بكى وقال في بكائه‏:‏
في القلب مني نار والنار فيها شرار
والجسم مني نحيل واللون فيه اصفرار
والعين تبكى بشجو ودمعها مدرار
والحب داء عسير فيه الطبيب يحار
حملت منه عظيمًا فما عليه اصطبار
فليس ليلي بليل ولا نهاري نهار .
فرق له معاوية وكتب له إلى ابن أم الحكم كتابًا غليظًا، وكتب في آخره يقول‏:‏
ركبت أمرًا عظيمًا لست أعرفه
أستغفر الله من جور امرىء زان
قد كنت تشبه صوفيًا له كتب
مِن الفرائض أو آثار فرقان
حتى أتاني الفتى العذري منتحبًا
يشكو إلي بحق غير بهتان
أعطى الإله عهودًا لا أجيش بها
أو لا فبرئت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به
لأجعلنَك لحمًا عند عقبان
طلق سعاد وفارقها بمجتمع
واشهد على ذاك نصرًا وابن ظبيان
فما سمعت كما بلغت من عجب
ولافعالك حقًا فعل فتيان
فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء ، وقال‏:‏ وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنة ثم عرضني على السيف . وجعل يؤامر نفسه في طلاقها فلا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها .
ثم قال‏:‏ يا سعاد اخرجي . فخرجت شكلة غنجة ذات هيئة وجمال. فلما رآها الوفد قالوا‏:‏ ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي .وكتب جواب كتابه يقول‏:‏
لا تحنثن أمير المؤمنين فقد
أوفى بعهدك في رفق وإحسان
وما ركبت حراما حيث أعجبنى
فكيف سميت باسم الخائن الزان
وسوف يأتيك شمس لا خفاء بها
أبهى البرية من إنس ومن جان
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت
أقول ذلك في سر وإعلان .
فلما ورد الكتاب على معاوية قال‏:‏ إن كانت أعطيت حسن النعمة على هذه الصفة فهي أكمل البرية. فاستنطقها فإذا هي أحسن الناس كلامًا وأكملهم شكلًا ودلًا .فقال‏:‏ يا أعرابي فهل من سلو عنها بأفضل الرغبة ؟ قال‏:‏ نعم إذا فرقت بين رأسي وجسدي .
ثم أنشأ يقول‏:‏
لا تجعلني والأمثال تضرب بي
كالمستغيث من الرمضاء بالنار
أردد سعاد على حيران مكتئب
يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق
وأسعر القلب منه أي إسعار
والله والله لا أنسى محبتها
حتى أغيب في رمس وأحجار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها
وأصبح القلب عنها غير صبار
قال‏:‏ فغضب معاوية غضبًا شديدًا ، ثم قال لها‏:‏ اختاري إن شئت أنا وإن شئت ابن أم الحكم وإن شئت الأعرابي‏.‏
فأنشأت سعاد وارتجزت تقول‏:‏
هذا وإن أصبح في الخمار ** وكان في نقص من اليسار
أكثر عندي من أبي وجاري ** وصاحب الدرهم والدينار
أخشى إذا غدرت حرّ النار.
فقال معاوية‏:‏ خذها لا بارك الله لك فيها .
فارتجز الأعرابي يقول‏:‏
خلوا عن الطريق للأعرابي ** ألم ترقوا ـ ويحكم ـ لما بي
قال‏:‏ فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم‏.‏ وناقة ووطاء . وأمر بها فأدخلت في بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ، ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي‏.‏ )
3 ـ التعليق :
هذه قصة خيالية جميلة صنعها المؤرخ ابن الجوزى بنفسه ، هو الذى صنع سلسلة العنعنة بمهارة ، حيث نقل عن تاريخ الطبرى أحداث نفس العام ( 58 هجرية ) فى الجزء الخامس من تاريخ الطبرى ص 312 عن طرد أهل الكوفة للوالى عبد الرحمن بن أم الحكم وهو ابن أخت معاوية ، فرجع الى خاله معاوية فأرسله معاوية واليا على مصر فرفض معاوية بن حديج ولايته ورده.
نقل المؤرخ ابن الجوزى نفس ما قاله الطبرى بالحرف، ثم أضاف القصة السابقة وجعلها خبرا تاريخيا تحت عنوان (قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي ) و صنع لها سلسلة من الرواة . وهذا ما لم يذكره أحد قبل ابن الجوزى.
ولقد توفى الطبرى عام 310 ، ومات ابن الجوزى عام 597 ، أى بينه وبين ابن الجوزى ( 287 سنة) . وأبن سعد ثم الطبرى هما العمدة فى تاريخ الأمويين ، وما لم يذكراه عن التاريخ الأموى فهو مصنوع و مخترع بعدهما.
ولقد اشتهر المؤرخ ابن الجوزى بكونه أشهر القصاصين فى عهده ، وأشهر الوعاظ. وأشهر رواة الحديث ، وكان يخلط هذا كله جميعا فى مؤلفاته الكثيرة ، فيكتب أخبار الأذكياء وأخبار الحمقى و المغفلين ، و يملأ كتبه التاريخية من النوادرو القصص التى يحكيها ويخترعها عن السابقين وبقولها فى مجالس وعظه ـ وبعضها يجعلها أحاديث نبوية ، أو أخبارا عن الصحابة ، وفى كل ما يكتب ويحكى يصنع له اسنادا مثل أسانيد الحديث. وينطبق هذا على هذه القصة الى لم يذكرها أحد من المؤرخين قبله ـ و التى إنفرد هو بروايتها و صنع لها إسنادا وعنعنعة.
ومن مهارته أنه نقل عن الطبرى خبر طرد أهل الكوفة للوالى عبد الرحمن بن أم الحكم ( وأم الحكم هى أخت معاوية ) ولم يذكر اسنادا لهذا الخبر مكتفيا بوجود الخبر فى تاريخ الطبرى . ولكنه عندما ذكر حكاية الاعرابى وزوجته تحت عنوان (قصة ابن أم الحكم مع الأعرابي) حرص على أن يصنع لقصته المصنوعة إسنادا ، فقال ( وجرت لعبد الرحمن ابن أم الحكم قصة عجيبة أخبرنا بها محمد بن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ حدًثنا محمد بن خلف قال‏:‏ حدَّثني محمد بن عبد الرحمن القرشي قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد قال‏:‏ حدثنا أبو مخنف عن هشام بن عروة قال‏:‏ ... ).
براعة ابن الجوزى فى الكذب و صناعة الاسناد تتجلى فى صناعته سند وعنعنة هذه القصة المزيفة ، إذ أنه نقل سلسلة السند الأساسية لدى الطبرى وهى التى تتحلى باثنين من كبار الرواة التاريخيين فى تاريخ الأمويين ، والذين نقل عنهم الطبرى تاريخ الأمويين ، وهما ( أبو مخنف عن هشام بن عروة). والمشهور أن أبا مخنف كتب ما كان يرويه هشام بن عروة بن الزبير شفهيا. ثم نقل ذلك الطبرى عن أبى مخنف ، وجعلها الطبرى سلسلته المفضلة بالاضافة الى آخرين .
بعد الطبرى بحوالى ثلاثة قرون أتى ابن الجوزى فأضاف لهذه السلسلة أسماء أناس ماتوا من قبل ، فقال (أخبرنا المبارك بن عبد الجبار وأخبرتنا شهدة بنت أحمد الكاتبة قالت‏:‏ أخبرنا جعفر بن أحمد السراج قال‏:‏ أخبرنا أبو محمد الجوهري قال‏:‏ أخبرنا أبو عمر بن حيوية قال‏:‏ حدًثنا محمد بن خلف قال‏:‏ حدَّثني محمد بن عبد الرحمن القرشي قال‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد قال‏:‏ حدثنا أبو مخنف عن هشام بن عروة قال‏:‏ ) ثم قص الحكاية التى ألّفها و صنعها من خياله الخصب الرائع. وأتى فى القصة بألفاظ وتعبيرات شاعت فى العصر العباسى الثانى ولم تكن مألوفة أو معروفة من قبل ، خصوصا عصر معاوية ، ومنها مصطلح ( الصوفية ) الذى لم يعرفه العصر الأموى .
ومن براعته أنه غلّف قصته المصنوعة بشعر يقوله أبطال الرواية ،أى صنع مسرحية شعرية كان يمكن أن نفرح بها لو جعلها مسرحية أو قال بصدق أنها قصة مصنوعة ، وليس خبرا حدث بالفعل تاريخيا . الشعر المذكور فى القصة هابط وضعيف المستوى ، قد يناسب عصر ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى ، ولا يمكن أن يتناسب مع فصاحة العرب فى أوائل العصر الأموى وفى القرن الهجرى الأول . ولكن لمناسبة ذلك الشعر لمستوى عصر ابن الجوزى فالمنتظر أن يتقبله الناس بقبول حسن ، وأن يشيع بينهم ويتداولوه لسهولته و بساطته و ضحالته .
وبنفس الطريقة فى صنع العنعنة والاسناد كانوا يصنعون الأحاديث فى العصر العباسى مع بداية التدوين ، فيخلو أحدهم بنفسه ويصنع أسانيدا ( حدثنا فلان عن فلان عن فلان ) الى أن يصل الى الصحابة ثم النبى ، أى يستشهد برواة ماتوا ولم يلقهم ولم يعرفونه ،بل قد يصنع أسماء رواة ليس لهم وجود فى الحقيقة ، ثم بعد صناعة الاسناد يؤلف له حديثا يزعم ان النبى محمدا عليه السلام قاله ورواه أولئك الرواة الموتى ووصل اليه العلم بهذا الحديث ورواته وسنده وعنعنته فقام بتسجيله .!!
وأبن الجوزى ملأ كتبه بالأحاديث فى الفقه و السيرة و التاريخ للصحابة و التابعين ، وفى الوعظ ، وحتى فى كتب وضعها فى نقد الأحاديث و الأحاديث الموضوعة ، وفى نقد شخصيات عصره مثل كتابه المشهور ( تلبيس ابليس ). ومنها أحاديث نقلها عن السابقين وأحاديث لم يقلها أحد قبله ،أى إنه اخترعها وصنعها و جعل لها اسنادا وعنعنة .
المضحك أن ابن الجوزى كتب مجلدا كاملا فى ( مناقب الامام أحمد بن حنبل) يقول فى مقدمة الكتاب ( وقد جعلت هذا الكتاب مائة باب ، وهذه تراجم الأبواب ، والله ملهم الصواب : ) ثم يجعل من الأبواب الآتى ( الباب الخامس عشر : فى ذكر إنفاذ الياس اليه السلام ) أى أن النبى الياس بعث لابن حنبل السلام ..!! ، ( الباب السادس عشر : فيما يذكر من ثناء الخضر عليه ) أى أن الخضر تلك الشخصية الاسطورية النى يزعمون أنها لا تموت كانت تثنى على أحمد بن حنبل .!! ( ( الباب الحادى والتسعون : ذكر المنامات التى رآها أحمد ) ( الباب الثانى و التسعون : ذكر المنامات التى رؤى فيها أحمد ) ( الباب الثالث و التسعون : ذكر المنامات التى رؤيت لأحمد ) أى المنامات التى رآها الناس وفيها زعموا أنه فى الجنة.
جرأة فظيعة على الكذب لا نتمناها لأحد ..
عبد الرحمن بن الجوزى صاحب عشرات المؤلفات فى الفقه والوعظ والحديث هو أهم صانعى دين السّنة .

.
 
أعلى