شوقي بزيع - فقه اللذات المحرَّمة أو «الدنس بلا حَبَل»

لعل أول ما يستوقف في الحديث عن الأدب الفاحش، أو الفحش في الأدب، هو اتصال الأدب بدلالته الفنية والإبداعية، لا بدلالته الأخلاقية المتصلة بالتهذيب والرصانة وقواعد السلوك. إذ لو صحت الدلالة الثانية لوجب أن يخرج الكلام الفاحش والمفرط في جرأته من باب الأدب، ويدخل في خانة أخرى مغايرة. ومع أن الفعل «فحش» لا يقتصر في لسان العرب على الزنا والجنس المحرم، بل يشير إلى الإفراط والزيادة حيناً وإلى سب الناس والإقذاع في الشتيمة حيناً آخر، إلا أن الفاحشة والفحشاء تتكرران في القرآن الكريم بوصفهما لفظتين دالتين على الجنس المحرم وكبائر الذنوب. وحين نزلت الآيات التي تربط الشعر بالأخلاق وتحض الشعراء على الالتزام بالفضائل وسلّم القيم الإسلامي، وتندد بشعراء الضلال والغواية، كان الشعر العربي يتعرض إلى ضربة قاصمة ويتم تدجين الشعراء، وإعادتهم إلى بيت الطاعة الأخلاقي الذي حوّلهم إلى دعاة ووعاظ ونظّامين.
لكن الأمر لم يدم طويلاً على هذا المنوال. إذ إن الشعراء الذين يحتاجون إلى كامل حريتهم وجنونهم وشغفهم بالعالم والأشياء ما لبثوا بعد سنوات قليلة أن شقّوا عصا الطاعة وذهبوا إلى خانة التمرد والإفصاح الجريء عن الرغبات، دون أن يرتدوا عن الإسلام أو ينقلبوا على أركانه الخمسة. كذلك كان حال أبو محجن الثقفي الذي لم يمنعه انخراطه في معارك الإسلام زمن عمر بن الخطاب أن يدمن على شرب الخمرة ويدفع غالياً ثمن إدمانه، أو حال عمر بن أبي ربيعة الذي رد على تعاليم الدين وتحذيراته الزاجرة بالذهاب إلى آخر الشوط في طلب المتعة، وصولاً إلى أبي نواس الذي قطع بالكامل مع التقاليد الاجتماعية والشرائع السماوية المعروفة.
على أننا معنيون في هذا السياق بالتمييز بين الأدب الجريء والصريح وأدب التهتك والفحش والإفراط في اللعب على وتر الغرائز. ففي الجانب الأول تكون اللغة تماهياً مع الحياة في تمظهراتها الحسية وفطرتها الأم، لا مجانبة للحقيقة وتمويهاً للمشاعر ومكنونات النفس. إذ ليس من داع لخجل البشر من أنفسهم وهم يستجيبون لدوافع الشهوة وملذات العيش، خاصة أن هذه الملذات هي المكافأة التي يمنحها الخالق، أو الطبيعة، للكائنات الحية مقابل تحملها لآلام الولادة وضريبة التكاثر وأعباء البقاء على الأرض. ومن يقرأ النصوص والمقطوعات التي خلّفها وراءهم السومريون والبابليون والفراعنة وغيرهم من الشعوب القديمة فسيلاحظ أن ذكر الفعل الجنسي والأعضاء بتسمياتها الصريحة هو أمر طبيعي وغير متكلف، تماماً كما هو حال التماثيل والنقوش القديمة. كذلك هو الحال مع نصوص ألف ليلة وليلة والكثير من النصوص العربية التراثية التي لم تتحرّج، شعراً ونثراً، من استخدام اللغة المكشوفة في الحديث عن أمور الشهوة والجنس. والأمر لا يقتصر على الشعراء والكتّاب «المتهتكين» وحدهم، من أمثال أبي نواس ووالبة بن الحباب والخليع الضحاك وبشار بن برد وابن سكرة وابن الحجاج، بل إننا نعثر على مثل تلك اللغة الصريحة في كتابات الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن الرومي وآخرين. على أن المفارقة الأكثر إلفاتاً في هذا الشأن تتمثل في أن أكثر النصوص العربية صلة بالبورنوغرافيا قد كتبها رجال دين مسلمون، كما هو حال «الروض العاطر» للشيخ النفزاوي. إلا أن هذا النوع من الكتابات الذي يتم إنجازه تحت لافتة «لا حياء في الدين»، لا يقع في خانة الأدب ولا يلبس لبوس الهوامات الإيروتيكية المقنّعة بالاستعارات والأخيلة، بل يذهب مباشرة إلى منابع اللذة وميكانزما الجنس المحض.
نصوص أبي نواس
وبما أن المقام لا يتسع لمقاربة ظاهرة الأدب الفاحش عند العرب بوجه عام، فقد تكون كتابات أبي نواس، وبخاصة في «النصوص المحرّمة» التي جمعها وحققها جمال جمعة وصدرت عن دار رياض الريس قبل سنوات، هي النموذج الأبرز لهذا النوع من الأدب الذي يضرب عرض الحائط بكل القيم والأعراف السائدة على المستويات الاجتماعية والدينية والأخلاقية. وهو ما يفسر بالطبع حذف تلك النصوص والمقطوعات من ديوان الشاعر المعروف، والذي صدر في غير طبعة عربية، بدعوى التهتك والفحش والإضرار بعقول الناشئة. ومع أن الديوان المطبوع نفسه يتميز بالكثير من الجرأة والتمرد على أدبيات الكتابة وأعرافها في مجالات الحديث عن الخمرة والجنس والتغزل بالغلمان، لكن النصوص هنا تذهب مباشرة إلى غايتها الشهوانية وتسمّي الأمور بأسمائها دون مواربة أو خجل. فليس هنا من تلطّ وراء العاطفة أو الحب واللغة المضمرة، بل هتك متواصل لكل ما عمل المجتمع ونظام القيم الديني على قمعه وإخفائه. واللافت في الأمر أن شعر «القصائد المحرمة» يقترب من النثر العادي ومن لغة المشافهة اليومية، بما يدفعنا إلى القول بأن أبا نواس لم يهدف إلى ضرب التابو الأخلاقي والاجتماعي فحسب، بل إلى ضرب العمود الشعري التقليدي بلغته الثقيلة والصارمة. كأنه بذلك يعيد فكرة الفحولة من إطارها اللغوي الرمزي إلى حيزها الجنسي المباشر دون لف ولا دوران.
الوجدان الشعبي
الشعر في هذه النصوص المكشوفة يتماهى مع الوجدان الشعبي العام ومع تسديد اللغة المباشر إلى قلب المعنى. إنه كسر للمحظورات شبيه بما يفعله العامة في الشوارع وداخل جدران البيوت، كما في أمثالهم الشعبية الإباحية التي رأى إليها عبد الكبير الخطيبي في كتابه «الاسم العربي الجريح» بوصفها تعبيراً عن رغبة السواد الأعظم من الناس في جرح الجسد الديني المغلق على كماله والعمل على تحريره من مكبوتاته المرهقة. وباستعراض سريع لقصائد الشاعر سنعثر على ما يعزز هذا الزعم في الكثير من المحطات التي يتقاطع فيها الهجاء مع الفكاهة، والمنادمة مع الفجور، والسخرية مع الضحك على النفس والعالم. والاختراق في هذه الحالة ليس وقفاً على النظام الأخلاقي السائد فحسب بل على المنابع الجوهرية للفكر الديني الذي يعتبر التناسل وحفظ النوع أساساً لأية علاقة جسدية بين الرجل والمرأة، حيث المتعة المصاحبة للجنس لا يزيد دورها عن دور النكهات المتنوعة التي توضع مع بعض الأدوية، بهدف التحفيز على تناولها. وإذا كان «الحبل بلا دنس» هو التعبير الفاقع عن طهرانية الجسد الديني المحروم، حتى في تكاثره، من أي أثر للمتعة، فإن «الدنس بلا حبل» هو الشعار الذي رفعه أبو نواس في وجه الجسد الديني الطهراني، وبخاصة المسيحي منه. ثمة أبلسة للعالم تتجلى في السخرية من كل شيء، حتى من إبليس نفسه: «عجبت من إبليس في تيهه/ وخبث ما أظهر في نيَّته/ تاه على آدم في سجدةٍ/ وصار قوَّاداً لذريَّته». وحين ينهض الناس، رجالاً ونساء للصلاة على وقع أذان الفجر، تنهض بعض نساء مهجويه على أذان آخر وبدافع مختلف: «نساء أبي حسين صارخاتٌ/ قبيل الصبح، حيّ على النكاحِ».
لقد ذهب أبو نواس إلى الحدود القصوى للتمرد على النصوص كما على قواعد السلوك، مستفيداً بدرجة أو بأخرى من الحرية النسبية التي وفرها خلفاء بني العباس الأوائل بفعل شعورهم بالقوة واستتباب أمور الدولة وتمتع المجتمع البغدادي بنسبة غير قليلة من الرخاء. وكما تساهل الأمويون مع مجتمعي مكة والمدينة في الشأن المتعلق بالأخلاق وأنماط السلوك الفردي والحريات الشخصية بهدف إبعاد الناس عن السياسة، فعل العباسيون الأمر نفسه فأباحوا الكثير من المحرمات الدينية والأخلاقية، فيما تشددوا في قمع ثورات البرامكة والطالبيين وغيرهم. صحيح أن هرون الرشيد كان يضيق في بعض الأحيان ذرعاً بتجديف أبي نواس وتهتكه المفرط، وأنه أوعز بسجن الشاعر غير مرة، تحرجاً من أقاويل العامة أو ضغوط المتشددين. ولكن الصحيح أيضاً أن صدر زماننا هذا أضيق بكثير من صدر ذلك الزمن، بحيث لم يكن أي شاعر أو كاتب مماثل لينجو بجلده من مقاصل التكفيريين وسكاكين المتحكمين بمصائر البشر من فقهاء الظلام الدامي. واللافت في وضع أبي نواس أنه لم يتجنب في سخريته أي تابو أو محظور ديني واجتماعي، حيث يتداخل المقدس والمدنس بطريقة غير مسبوقة: «أصلي الصلاة الخمس في حال وقتها/ وأشهد بالتوحيد لله طائعاً/ وإن لاح لي صيدٌ وثبت بنهضةٍ/ على ردفه، في السرِّ، كالذئب جائعاً». فهو بظرفه المحبب يعمد إلى «تفخيخ» النص الديني وتأويله بما يوافق أهواءه ورغباته، واضعاً آيات الكتاب في غير موضعها الأساسي: «أقول إذ صرتُ على ظهره/ كقول قومٍ رحلوا سائرين/ سبحان من سخَّر هذا لنا/ منا، وكنا له مقرنين».
لم يكن ذلك النزوع الشهواني عند أبي نواس وليد الصدفة المجردة بالطبع. بل غذته عوامل سياسية واجتماعية ونفسية معقدة، بينها الاستعداد الفطري، وصورة الأم المتهتكة، وعلاقته المربكة بهرون الرشيد، والملتبسة بالأمين، والرواسب المانوية والمزدكية التي خالطت إسلامه، مما يحتاج إلى بحوث ودراسات طويلة ومعمقة. على أن نزوعه ذاك لم يقتصر على العلاقات الماجنة مع النساء، والتي جعلتها وفرة الجواري والقيان في ذلك الزمن سهلة التحقق، بل تعدى ذلك ليأخذ أشكالاً أخرى ذات طبيعة مثلية وانحرافية. وفي معرض انحيازه للذة التي يوفرها اللواط في مقابل اللذة النمطية للعلاقة مع المرأة يقول الشاعر: أأختار البحار على البراري/ وحيتاناً على ظبي الغلاةِ». ومع ذلك فهو لا يكتفي بالتبريرات الحسية والجنسية الصرفة، بل يتوسع في تفسير الآية التي تغلب الذكور على الإناث ليأخذه إلى المكان الذي يريده: «بذا أوصى كتاب الله فينا/ بتفضيل البنين على البنات». لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فإذا كان لا بد من الجنس المثلي فليكن مع غلمان بني هاشم بالذات حيث تتم إصابة أكثر من هدف برمية واحدة: «أحسن من ركض إلى مارق/ يقتل فيها المرء أو يجرح/ ركوب ظبي من بني هاشم/ للعين في وجنته مطرحُ». إضافة إلى كل ما تقدم يبدو الإلحاح على اللذة عند أبي نواس متصلاً بخوف وسواسي من الموت، لا بما هو انقضاء للحياة بل بما هو تغييب أبدي للشهوات ومتع العيش، بما يشبه الموقف من الموت الذي فصَّله طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة. لذلك كان الشاعر يمقت الحروب على أنواعها، وهو الذي شهد المواجهة الدامية بين الأمين والمأمون وصراعات كثيرة أخرى. وبأسلوبه الساخر والمليء بالثورات راح يدعو الى نوع آخر من «الطعان»، مستبدلاً الميادين بالأسرَّة، وداعياً إلى تصريف عنف البشر الفائض عن طريق الفعل الجنسي وافتراع الملذات، وذلك قبل قرون عديدة من نظريات فرويد وويلهلم رايش وثورات الهيبيين وغيرهم. وإذا كانت نصوصه «المحرمة» تنضح بالعديد من المقطوعات التي تؤثر متعة الحب على قسوة الحرب وفظاعتها، فإن أبلغ تلك النصوص وأكثرها طرافة هو ذلك الذي ينشئه الشاعر على شكل حوار ثنائي بينه وبين أحد فقهاء اللذة والداعين إلى مواجهة الأعداء بسلاح الجنس الفتاك دون سواه. وفيها يقول الشاعر: «قلت: الطغاة؟، فقال لي: لا تغزُهُمْ/ حتى لو اقتربوا من الأنبارِ/ سالمْهُمُ واقتصَّ من أولادهم/ إن كنت ذا حنقٍ على الكفار/ واطعنْ برمحك بطنَ تلك وظهر ذا/ هذا الجهاد، فنعم عقبى الدار!».

.

ويليام بوغورو 1875
13884090702.jpg
 
أعلى