شوقي بزيع - انتهاك المحرم ودفع الرغبات إلى ذراها الأخيرة

ندر أن احتلَّ أحد من الشعراء العرب المنزلة التي احتلها أبو نواس وفق المعيارين النقدي والشعبي. فهذه الشخصية الفذة لم تأخذ قيمتها ومكانتها بوصفها تمتلك شاعرية عالية ومغايرة فحسب بل بما مثلته من حالة اعتراضية فريدة في التاريخ العربي. هذه الحالة مكنت أبا نواس من أن يتحول إلى نموذج شديد التميز لاختراق القيم السائدة وانتهاك الأعراف والتجول في الممنوع، بما جعله يشكل استمراراً تصاعدياً لمفهوم الصعلكة الذي برزت تجلياته مع طرفة بن العبد وعروة والشنفرة، وصولاً إلى أبي محجن الثقفي ومالك بن الريب والوليد بن يزيد ووالبة بن الحباب وغيرهم. وإذا كانت الصعلكة قد أخذت عند كل واحد من هؤلاء وجهاً من الوجوه السياسية أو الأخلاقية أو الاجتماعية أو الأدبية فإنها اختصرت عند أبي نواس كل هذه الوجوه مجتمعة بحيث بدا الشاعر نسيجاً شبه يتيم في الحياة كما في الشعر.

ذلك الغنى الإنساني المضفور بالغرابة والمفارقة وروح التمرد هو الذي مكَّن أبا نواس من كسر دائرة النخبة المثقفة ليدخل في الوجدان الشعبي العام باعتباره رمزاً لاختراق المفهوم السلطوي للأخلاق، مثلما هو رمز لانتهاك البنية الدينية في قشرتها السطحية أو تمظهرها الطقوسي.

كأن أبا نواس يتماهى عبر أكثر من مسلك مع الوجدان الشعبي الذي يحاول بحيلته وذكائه أن يكسر دائرة الاستبداد المقفلة ويفتح ثغرات عدة في جدارها المحكم. وقد عرض الناقد المغربي عبد الكبير الخطيبي لهذه الظاهرة في كتابه «الاسم العربي الجريح» حيث يبدو الوشم من بعض وجوهه جرحاً متعدد الرسائل للجسد الإلهي المخلوق «في أحسن تقويم»، بقدر ما تعمل النكات والطرائف والأمثال الشعبية المنتهكة على «جرح» اللغة الرسمية الرصينة. ويكفي في هذا السياق الاستدلال بآلاف النكات والنوادر والتوريات الجنسية والسياسية المنتشرة في أصقاع العالم، وبخاصة لدى الشعوب الفقيرة والمضطهدة، لندرك سعي العامة الحثيث إلى اجتراح لغة اعتراضها بنفسها، وعملها الدؤوب على ابتكار قنوات تعبيرية سفلية تسمي الأشياء بأسمائها وتدق بعنف أبواب المحرمات. وكما أن العامة تخترع أمثالها وحكمها ولغتها الفاضحة فهي تخترع بموازاة ذلك صعاليكها وأبطالها الشعبيين ونماذجها المضادة.

إن أبا نواس هو أحد نماذج البطولة المضادة التي عمل الوجدان الشعبي العربي على إبرازها وتضخيمها ورفعها إلى رتبة الخرافة، بحيث ألحقت بنتاجه الشعري مئات الأبيات التي نظمها شعراء وصعاليك مغمورون رأوا في شخصية الحسن بن هانئ المشجب النموذجي لحمل هذا النوع من الكتابة المتهتكة وترسيخه في الأذهان. تماماً كشخصية «جحا» الموازية التي تجمع بين الذكاء وخفة الظل، بين تسويغ السائد وتقويضه، بين تراجيديا الواقع وكوميديا التحايل عليه. والأرجح ان الاعتراض الشعبي المتفاقم، والعاجز عن مواجهة السلطة العباسية في ذروة جبروتها، لم يجد بداً من نقل تذمره وتبرُّمه من عتو الخلافة وبهرجتها التي تجاوزت كل حد إلى خانة الضحك الأسود والطرافة الملتبسة والإسراف في طلب اللذة، وبخاصة بعد معاينة المصير القائم لرموز الاعتراض السافرة من أمثال عبد الله بن المقفع وبشار بن برد.

لم تقتصر تجربة أبي نواس على ضرب البنية التقليدية للشعر السائد والمتمثلة بعمود الشعر العربي وما يفرضه من قرب المسافة بين طرفي الصورة البيانية والبعد عن الإحالات البعيدة بل عمد الشاعر إلى تقويض الأسس الأخلاقية للكتابة التي جعلت من النص الشعري خادماً للسلطات الدينية والسياسية والاجتماعية وتابعاً أميناً لها. وإذا كان أبو تمام قد اكتفى بضرب المعيارية الفنية والجمالية للشعر السابق عليه، من خلال الإيغال في التخييل وخلق مفاهيم مغايرة للاستعارة والمجاز، فإنه بالمقابل لم يخدش الفضاء الأخلاقي للكتابة. لا بل إن هرم الأخيلة التي شيدها كان ينتزع حجارته من مجاراة الشرعية الأخلاقية للسلطة القائمة، والتي راح شعره، على جدَّته، ينمو في كنفها ويشيد بمآثرها. في حين كان أبو نواس يعمل جاهداً على تقويض منطق السلطة عبر السخرية من الواقع واللجوء إلى التوريات المخاتلة، منحازاً إلى القاع الشعبي الذي خرج منه والذي ظل أميناً له طيلة حياته. ورغم العلاقة غير العادية التي نسجها الخيال الشعبي بين أبي نواس وهارون الرشيد فقد بدت هذه العلاقة على أرض الواقع ملتبسة وغامضة ومتراوحة بين المنادمة وضيق الصدر. لقد فاض نزق أبي نواس وتمرده على الهامش الذي تركه الرشيد للمنادمة وتزجية الوقت مما اضطر هذا الأخير إلى سجن الشاعر وتأديبه في غير مناسبة ومكان. أما علاقته بالخليفة الأمين فقد تمت على أرضية التهتك وافتراع الشهوات وإزالة الحواجز الفاصلة بين الشاعر الاستثنائي والخليفة الاستثنائي الذي بدا نسخة معدلة عن الوليد بن يزيد وشاركه المصير المأساوي نفسه.

سيكون من نافل القول بالطبع أن أشير إلى أن خمريات أبي نواس هي على المستويين الجمالي والدلالي ذروة ما دبج الشاعر من قصائد. لا بل هي في رأيي إحدى ذرى الشعر العالمي في هذا المضمار. فنحن لسنا هنا إزاء معاقرة حسية مجردة للخمرة التي برع في وصفها الكثيرون ولكننا إزاء لُقيَةٍ سحرية نادرة رأى فيها الشاعر المعادل الرمزي للكيمياء التي حلم العلماء بفك شيفرتها الملغزة من أجل تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب. ولعلها من بعض وجوهها معادل آخر للقصيدة حيث التشويش الهذياني على صرامة العقل وجديته المفرطة هو الممر الإجباري لكل إبداع حقيقي. وتشبيه الخمرة بالعنقاء وبالمرتع المدهش لظنون الفكر ما هو في حقيقته إلا تأكيد لرغبة الشاعر في تقويض البنى الهرمية والرثة للحياة العربية الرازحة تحت عسف الاضطهادين السياسي والفكري: «كأنها حين تمطو في أعنتها/ من اللطافة في الأوهام عنقاءُ/ تبني سماء على أرضٍ معلَّقة/ كأنها علقٌ والأرض بيضاءُ/ تقسَّمتها ظنون الفكر إذ خفيت/ كما تقسَّمت الأديان آراءُ».

سنعثر في خمريات أبي نواس على جماليات تعبيرية وفضاء صوري قلَّ نظيرهما في هذا الباب. سنعثر على قوس قزح من الألوان يتجاوز دلالاته البصرية الظاهرة ليعثر على مفاتيحه في مكان آخر يتصل بالنشوة الفردوسية والتوهجات الشعشعانية للروح. فالخمرة تارة «صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد»، وطوراً «صفراء ما تركت زرقاء إن مزجت»، وطوراً آخر «صفراء قبل المزج بيضاء بعده». ولكنها في جميع الحالات الخلطة السحرية التي تمكن الجسد المغلول والفاني من ارتياد الأقاصي الأخيرة للشهوات. وبقدر ما تمتلك خمريات أبي نواس ناصية الدعابة والعبث الساخر بقدر ما تخفي تحت غلالتها السطحية الندبة العميقة للألم التي حملها الشاعر من خلال يتمه المبكر وانشغال أمه عنه بنزواتها الخاصة. فضلاً عن تبرمه من النفاق العام الذي يضرب المجتمع من أخمص الهرم إلى قمته. وسيلفتنا على المستوى البنيوي ذلك الانتباه المبكر إلى قدرة السرد على رفد الشعر بأسباب التواشج العضوي والتشويق الأسلوبي، بحيث بدت القصائد أقرب إلى سيناريوهات قصصية تتداخل فيها الأصوات والحركات والحوارات الذكية بما يخرج القصيدة الغنائية من نمطيتها السكونية الباعثة على السأم.

لكن اللافت في هذا السياق أن جزءاً غير قليل من شعر أبي نواس سيظل في الخانة المقابلة ملازماً للتقاليد القديمة الخاضعة لمقتضيات الخشونة والتعقيد والتقعير الأسلوبي واللفظي. كأننا هنا إزاء حالة انفصام كامل بين «أبوي نواس»، أحدهما يقوض عمود الشعر الموروث والآخر يجدد مداميكه ويعمل على تحصينه بشكل راسخ. وهو ما يظهر على وجه الخصوص في قصائد الطرديات حيث المفردات الحوشية والصياغات المتعسفة. وسيصعب على القارئ أن يصدق بأن من قال: «مازلت أستلُّ روح الدنِّ في لُطفٍ/ وأستقي دمه من كفِّ مجروحٍ/ حتى انثنيت ولي روحان في جسدٍ/ والدنُّ منطرح جسماً بلا روحِ» هو نفسه الذي يقول في إحدى طردياته: «تنسُّمُ الأرواح في انبرائه/ خضخض طُبْيَيْهِ على أمعائه/ وشدَّ نابيْه على علبائه/ كدجَّك القفل على أشبائه». فكيف يمكن للشاعر الذي انقلب على عروبة الصحراء وتقاليدها الطللية النمطية ولغتها البعيدة عن الروح المدينية، التي انتصر لها أبو نواس وعبر بامتياز عن تحولاتها الدراماتيكية السريعة، أن يعود إلى بيت الطاعة الشعري عبر أكثر موروثاته خشونة وتعقيداً؟. وهل كان أبو نواس يريد أن يبرهن لمنتقديه والمشككين بمشروعه الحداثي، ولمن ألصقوا به تهمة الشعوبية على وجه الخصوص بأنه قادر على منافستهم في عقر دارهم وتنكُّب الأصول السحيقة لشعرية الصحراء الأم؟. والطريف في الأمر أن الشاعر الذي كتب هذا النوع من الشعر هو نفسه الذي ربط الشعر بالحياة اليومية والكلام العادي القريب من لغة المشافهة في الكثير من نصوصه: كقوله «إني عشقت وما في العشق من باس» أو قوله مخاطباً الخليفة: «وحياة راسك لا أعود لمثلها وحياة راسك»، إلى غير ذلك من النماذج.

لا يبدو الجسد من ناحية أخرى مكاناً للخطيئة أو وعاءً لها عند أبي نواس بقدر ما هو هبة الخالق المؤقتة التي يجب على المرء الإفادة منها واستنفادها قبل أن تضمحل. وربما كان هاجس الموت الذي دفع بأبي العتاهية إلى النكوص والإحباط والزهد بالملذات هو نفسه الذي دفع أبا نواس للارتماء في حضن الحياة واقتناص فرصتها الثمينة التي لا تتكرر. وإذ تحولت بغداد في ذلك العصر إلى بابل جديدة يختلط فيها حابل الازدهار بنابل الانحلال استطاع أبو نواس أن يترجم بشعره وسلوكه لحظة الاختلاط تلك مخترقاً جميع الخطوط الحمراء التي وضعها المجتمع لنفسه بداعي الإيمان أو الخوف من العقاب. فالمدنس عند أبي نواس يخترق المقدس وينفيه بحيث يصبح الجسد ذا وظيفة جنسية خالصة لا علاقة لها بالتناسل والحفاظ على النوع، وفق الرؤية الدينية. والتعلق بالغلمان هو وجه من وجوه الفانتازيا الشهوانية التي تجد نموذجها الجمالي في الجسد الذكوري اليافع لا في الجسد الأنثوي. لكن أبا نواس، ويا للمفارقة الساخرة، يتكئ على النص الديني (وللذكر مثل حظ الأنثيين) ليبرر ميوله اللواطية فيقول «بذا أوصى كتاب الله فينا/ بتفضيل البنين على البنات». وذلك الانتهاك للمحرم لا يقف عند حدود بعينها بل يبدو نوعاً من العدمية والرغبة العبثية في تدمير الذات والعالم: «ولُطْ بالخلق كلهم جميعاً/ فإن العيش في الدين الرفيق/ وهب للنار نفسك في هواها/ وجاهر، لا عدمتك، بالفسوق».

يبقى القول أخيراً بأن صدر السلطة العباسية الحاكمة، على ضيقه ببعض الأصوات المتمردة، لم يضق ذرعاً بهذه التجربة النادرة في جرأتها وتهتكها وتقويضها لكل أساس أخلاقي قائم. وهو وإن ضاق فلم يصل إلى حد المنع والمصادرة والفتاوى بإهدار الدم التي لا ينفك يصدرها دون تحرج بعض معمَّمي هذا العصر وفقهاء ظلامه المهيمن.


.

امراة امازيغية للمستشرق الامريكي فريدريك ارثر بريدجمان
13884091891.jpg
 
أعلى