عباس بيضون - الأدب والجنس ثمن التحرر وعواقبه - التحريم

يبدو لأول وهلة أن التابو الجنسي في الأدب بدأ يتخلخل، هكذا يفقد الثالوث المحرم بحسب تعبير الراحل أبو علي ياسين أحد أركانه. يبقى بالطبع التابو الديني والتابو السياسي راسخين. أما حجة القائلين بذلك فهي بسيطة. انها النتاجات الأدبية نفسها، في الرواية بوجه خاص وفي الشعر بقدر ما يسمح الشعر. لم يعد الإلماح الجنسي كافيا ولا الكتابة عنه بالطبيعة ولا مقاربته بلغة موازية. دخل القاموس الجنسي بحرفه وبوشر الكلام عن المشهد الجنسي بتفاصيله وحركاته. أما أكثر ما يلفت في ذلك فهو ان الروائيات جارين في ذلك زملاءهن الرجال، القراء الذي يقومون «بالتفتيش» في روايات النساء افترضوا ان هذا جريء، بل انه مفرط في الجرأة. لا أعرف ما هي حجتهم في ذلك، لا بد أنها اجتماعية أكثر منها أدبية. لقد اعتبروا المرأة قائمة على سرية الجنس ومداراته ووجدوا أن في انكشافه في الخطاب النسائي نهاية السرية ونهاية التابو. بدأ منذ وقت كلام مضاد يوصي هذه المرة بالعودة الى فنية التناول الجنسي، ويبدي نفورا من مقاربة للجنس تنتهي فيه. وجدوا فيه، كما سنقرأ في التحقيق الطويل الذي ننشره في هذا العدد من أقطار ثلاثة، فجاجة مراهقة وإثارة مجانية وأحيانا بذاءة ومنافاة للحشمة، أي بكلمة، ثمة قراء أقلقهم هذا الأدب وطلبوا ببساطة درجة من الضبط والمراقبة، بل ان كثيرين طلبوا الرجوع في التعبير الجنسي للسلف الصالح وللنص القرآني بالضبط وسورة يوسف مثال.

هناك من قالوا إن الإفراط في الكلام الجنسي لا يناسب مكانه في حياتنا أو في الحياة بعامة. مثل هذا الكلام يعني ببساطة أن طفح الكيل، واننا جاوزنا الحد، وأن المطلوب الآن هو التراجع. اذا فهمنا ان عمر هذه الجرأة على الكلام الجنسي لا يزيد عن عقد من السنين سيدهشنا أن نعلم اننا وصلنا الى حد الافراط والتفريط في مدى عشر سنوات. اننا في هذا العمر القصير استنفدنا الموضوع ووصلنا به الى حد الرخص والمتاجرة. لم يقم أحد بالطبع بجمع كل ما كتب، لكن قارئا متابعاً سيتعجب من هذا الحكم. سيقول في نفسه اننا لم نزل في البداية وأن هذا الانتكاس الى ما قبل ليس مفهوماً اذا قسناه على عمر التجربة ومداها. سيفكر ان المسألة ليست في الكم ولكن في النوع وأن ما يقلق هو المبدأ نفسه، ما يقلق هو المباشرة بالتعبير الجنسي. الاعتراض قد لا يكون تمحيصاً ولا متابعة، قد لا يكون سوى الصدمة التي يتسبب بها الموضوع ذاته في أي نص وأي تناول. هل نفد احتمال القراء فعلا وخرجوا عن طورهم، أم إن ما سهّدهم هو قراءة ما لا يظنونه مسموحاً. هل هو التحريم ذاته بلغة أخرى. ما هذا الكلام عن «الفنية» والإلمام والكتابة واللغة الموازية. لماذا لا يثورون هكذا على الموضوع السياسي وهو في الغالب، في أدبنا، خطابي فج ولا يخرج في الغالب عن ارتجاز بدوي ورخص شعبوي. ام ان السياسة هكذا لا تزعزع بالطبع هواماتهم ولا تقلق الاشباح المكدسة في مكبوتهم. الفنية، أي بكلمة ثانية، اللغة الموازية، أي قول الموضوع بلغة أخرى، بلغة تزعم التسامي والنظافة والطهارة والفن. ألا يعني ذلك بكلمة واحدة: الكبت، ألا يعني هذا أن الجنس ليس سوى تدنيس وأن الفن في المقابل تجميل وتزيين. ألا يعني ان الجنس جحيمي بشع هائج زفر وسخ مدنس. يوصي البعض بمجاراة القرآن في سورة يوسف، ها قد وُجد فن أصلي. يحق للدين هنا، بعد طول جدال، أن يعود حكماً على الفن أو حتى مثالاً فنياً. لكن الذين يقرأون هذا النصيب من سورة يوسف يقرأونه ايضا بنفوسهم المكبوتة ولا يريدون ان يروا ماذا يعني في المباشر تغليق الأبواب وقد القميص. وهذا، ربما، أكثر ما يمكن أن يقوله الشعر، وطالما سعى القرآن لأن يدفع عن نفسه الالتباس بالشعر. أما في النثر العربي فليس في نص الجاحظ سوى البذاءة، نعم البذاءة الفجة الشهوانية المرحة التي هي فرح بالجنس وفرح بالرغبة وتطابق معهما. في نص الجاحظ المباشرة وفي نصه يغدو الجنس مطلبا قائما بذاته وينتهي في ذاته، وليس موضوعاً يستعار لغيره ويتطهر بغيره. ليس في نص الجاحظ ذلك الاحتجاج البليغ للكبت بالفن ولا هذا الاعلاء ولا ذلك الإلماح. لم يفرق بين الجنس والفن ولم يعتبر الجنس دون الفن ويحتاج الى تحويل ليغدو فنا.

ثم هل استنفدنا حقا الموضوع الجنسي وبات علينا أن نعود فيه القهقرى، ماذا كتبنا في هذا الموضوع قياساً على ما يكتب، والمقارنة هنا عبث، بل قياساً على تراثنا نفسه الذي، لا بد، لا يسعدنا أن نعيد قراءته ونرى ما فيه من مباشرة وصراحة وسعادة بالصحة والجسد واللذة. هل وصلنا حقا الى النهاية، وبهذا الوقت القصير، أم اننا تقريبا لم نفعل شيئا فغسل الخطاب الجنسي مما تراكم عليه، وإعادة اللغة الجنسية الى علنيّتها ومباشرتها، والبحث عن إيقاعات لها في نفسها، وبلاغة من داخلها، وجمال في تفتحها وتخييل لا يقوم على كبتها وصرفها، وإعلاء في تصعيدها والتنقل بين طبقاتها، ومس عالم كامل بها. كل هذا يحتاج بعد الى عمل وعمل، والى كتاب ومغامرات وأساليب وتجارب. الأرجح أننا في البداية أو ان الأمر لا يقاس بالدرجات ولا بالمراحل وانما نقول اننا باشرنا شيئا وأمامنا الزمن كله. نقول لكننا نعرف ان تأفف الكثيرين ليس نافلاً وليس مجرد جملة اعتراضية. انه تأفف فعال، لا نعرف اذا كان تخلخل التابو حقا ام أن في الأمر فترة سماح بسيطة، وإلا كيف يمكن ان يهتز، حقا، ركن في الثالوث، بينما يزداد الركنان الآخران مناعة. هل يمكن حقا تخليص الجنس من الدين والسياسة، ام ان الأمر، ليس هذه المرة ايضا، سوى تفاؤلنا السطحي. أليس هذا الثالوث مركبا واحدا في نهاية الأمر وإذا لم تزعزع التابوات كلها فإن ما يتراءى، من تخلخل، لا يأمن من ان يكون غفلة لا تطول. ولا فماذا يعني أن يؤاخذ الأدباء والنقاد أنفسهم، وأن يطفح الكيل عند البعض، وأن يحتج من هم في ريادة الموجة نفسها بالفن، في معرض ليس الفن فيه مهدداً، وفي أدب لا يدعى فيه الفن ليكون حجة إلا في مثل هذه الأمور.

هل نقول، بدون تهكم فج وبدون جرأة اصلا، إن التنديد والخوف من الإثارة والنعي على الرخص، قد لا تكون، في هذا المجال، سوى التفاف على نية بادئه وعلى مجرد إنذار. لم ينع كثيرون على الشعر السياسي والمسمى «وطني» هذه الفجاجة ولا تلك الاثارة والرخص والسوقية. لم ينع كثيرون على ثقافتنا، أن جلها قائم على أشياء كهذه. الخوف من الجنس ليس كتقليد ولا تراث وهما ما هما في هذا المجال، وانما كخوف من المستقبل. الخوف من الحرية في كل مجال وفي أركان الثالوث كله وحين يدعى الكتّاب الى العودة، فنيا، الى الاصل القرآني، نفهم هذه المرة ان ما نحن بصدده أخطر مما نظن. انه دعوة الى تحكيم الدين في الفن، بعد أن جرى تحكيمه في كل شيء.


* السفير الثقافي

.
shscsafkw1aa5he04dy.jpg
 
أعلى