عبدالله كرمون - كيف فشل ماريو فارغاس يوسا في كتابة نص إيروسي؟

الكتاب اليتيم الذي قد يمكّنني من محاورة جزء من تجربة ماريو فارغاس يوسا نُشرت ترجمته الفرنسية قبل عشرين سنة. ولست ألتفت قصدا، بهذا المعنى، إلى رواياته الأخرى. يتعلق الأمر بالنص السردي الموسوم ب"إطراء زوجة الأب". لأنها هي المعنية هنا دون غيرها. خاصة الشريرة التي لا تعرف اللطف والمرحمة. وهي التي خُصّت بالمديح أو بالوشاية المغلفة بقناعه. (هل قرأتُ في مكان ما أن مترجمها إلى العربية سماها ب "في مديح الخالة"؟!) عجيب!
ربما كان همّ فارغاس من كتابه هذا هو بالتأكيد الإسهام في التراث الإيروسي قدر الإمكان، ولعله ارتأى أن يكون ذلك بطريقة خاصة به.
فإذا كان الموضوع الذي افتتح به كتابه، وضمّنه في العنوان، مهما جدا على أكثر من صعيد، وأقصد به علاقة الربيب بزوجة أبيه، والتي أخذت هنا أبعادا غير معتادة، إذ دخلت مدخل الشهوة، ولم يجعلها حبيسة علاقات التسلط والكيد، فإنه لم يتناولها بالسمو الفني العميق الذي يليق بمثل هذا الموضوع. وسوف أبين فيما يلي ما الذي جعلني أصدر هذا الحكم، الذي قد يجده نفرٌ _غفلة منهم_ قاسيا في حق حائز على أعلى تقدير أدبي هو "نوبل". مع أن هذا التقدير نفسه هو في أكثر حالاته مرادف صريح للباطل.
لابد من الإشارة، قبل ذلك، إلى كيفية بناء نصه واستراتيجياته الفنية، والتي قد اعتقدَ على ما يبدو أن الشكل الذي صاغها فيه يكفل جدةً بلا نظير في الكتابة الإيروسية. لأنه، بغض النظر عن تقسيمه الكتاب إلى قسمين مرقمين، وعدد من الفصول المرقمة بدورها، فقد احتوى كذلك على عدد من اللوحات، التي تتصل بها فصولٌ بحذافيرها بل يستقي منها مادة كتابه. ألم يكن رجل النص الذي يتماهى معه الراوي أحيانا فنانا مهتما بالفن. ثم أنها، فوق كل ذلك، منتخبات خاصة من اللوحات الرائعة التي لا شك أن فارغاس نفسه من مستسيغيها، إذا ما افترضنا بأن الكتاب ينضوي على كثير من الهواجس البيوغرافية غير المباشرة والمندسة في بعض أركانه.
كما أن الكتاب قد خصص جزء غير يسير منه لشؤون الأب أو الزوج. سواء في ما يخص الصفحات التي تغنى فيها بجمال زوجته وبجسدها، وكيف تأخذ وجوه أجمل مخلوقات اللوحات أنوثة وطراوة. أو بتلك التي تأتي على تمارينه النرجسية (أو بالأحرى تكراره لفعل نرجس الأولي، بفارق بسيط وهو أن بركة الماء الصافي في الجبل عوضت بالحمّام وانتصار الفعل الثقافي المحتوي على كل خامات الطبيعة) على امتدادها الزمني وترددها يوميا.
ربما لن أحيد عن الصواب إذا جزمت بأن أجمل صفحات الكتاب كانت عن التبرز! وأذكر بهذا الصدد بأن باتريك سوسكند قد تأسف في كتابه الأخير "حول الحب والموت" على أن "الغائط" كان مقصيا على الدوام من عالم الأدب أو لم يمنح حقه. ولو كان صاحب العطر قد قرأ نص فارغاس لكفاه ذلك شر الحسرة!
واضح إذن مما ذكرناه أعلاه بأن النص مشكل من شظايا كثيرة، ليس يسلم سبكها كما قد يتكهن به عقل حصيف. ولا يصمد في باب اللذة والمتعة هنا، سوى إذا سلمنا بما جاء به فرويد، في كشوفاته حول التبرز ومبدأ اللذة الشرجية.
إن العنوان مخادع على هذا النحو، لأن التقريظ الذي ننتظر أن يخلصه ألفونسو لزوجة أبيه ما هو سوى عنوان موضوع إنشائي حر دبجه الغلام بطلب من مدرسيه. لهذا فإن فارغاس، قد تجنب عن حرص دقيق منزلق إنجاز نص يمتدح علاقة جنسية بين حدث لم يبلغ بعد وامرأة في الأربعين (وأشد من ذلك أنه ربيبها). صحيح أن الموضوع، الذي يشكل، في حدود معينة، المقابل الآخر لرواية نابوكوف (لوليتا) قد استهواه، غير أنه اتقى شر العواقب عليه، وابتسر نصه، وبحث له عن مخارج ركيكة، ليئد، مع الأسف، فكرته الإيروسية الجميلة بعيد انبثاقها بقليل.
إضافة إلى أن فارغاس قد تعالى عن الوصف الفاضح لما جرى بين الربيب وزوجة أبيه، بأن كشف فقط عن القبلات والضم وعض فص الأذن، غير أنه قد تجرأ على اقتراف ترهات غير مقنعة، من قبيل أن يكون ألفونسو هو الذي أفشى لأبيه عن علاقته الجنسية مع زوجته، بأن سأله عن معنى الرعشة الجنسية التي جاء ذكرها على لسان الزوجة على حد زعمه أول الأمر، ثم عن طريق تلاوته عليه لموضوع الثناء على محاسن زوجة أبيه الذي أتى فيه على قصتَيْ تعلقه وفوزه بها. كل ذلك من أجل طرد زوجة الأب من البيت، دون أن تكون هناك دواعي حقيقية لذلك في النص. بل إن أجمل ما قد يمكن أن يكون في الأمر حقا هو استمرار تلك العلاقة، والتوغل من خلالها في ذلك الجانب المحرم من العلاقات. فلا مسوغ لأن يكون ألفونسو لا يدرك بالذات ما يفعله، لأن أفظع ما قد برر به الراوي أو فارغاس نفسه، طرد تلك المرأة من البيت، بعد اتهامها بإفساد أخلاق الصغير، ليس هو انتقاما لأمه المطلقة، لأنه ربما خشي من الطعن في مشروعية إبداعه بدعوى الاجترار المكرور لأكثر العناصر ابتذالا في تركة الطبيب النمساوي. ذلك أن الطفل قد رد على الخادمة، التي لامته على ما فعله، بأنه فعل ذلك من أجلها كي ينفرد بها في حرية كاملة، بعدما ألوى عليها وأشبعها لثما وعضا.
فإذا كان الموضوع ذا أهمية بالغة في جوانبه العميقة، فإن فارغاس فضّل التهرب من ثقل تناوله لموضوعة جد محرمة، واستند على السهولة التي توفر الراحة، وتقي من شر غضب الجهال، واستنكار من لا يفيدهم الإجهاز الحثيث على الظلامية!
لذلك التجأ إلى حيلة بنائية، خولت له أن يشتت عن نية محتويات كتابه، منتقلا من موضوع إلى آخر، بالرغم من كون اللحمة التي تشد كل فقرة منه إلى أخرى واحدة. إن أقصى ما يمكن أن يفسد جمال موضوع أريد له أن يكون مدحا لعلاقة جنسية بين امرأة "ناضجة" وولد قاصر هو حشوه بهوامش لا علاقة لها في الواقع بهذه البؤرة الحرجة، والتي لا يتناولها إلا من تخلص من كل الرقابات المحتملة. فنرى فارغاس يفرد حيزا هاما للحديث عن اهتمام الزوج بجسده، هذا الذي خصص للاعتناء بكل عضو من أعضائه يوما في الأسبوع، وإن كنت لا أجد ضررا في الأمر، فإن المؤسف هو أن تزحف تلك التفاصيل كلها على ما يشكل بعمق وريد المتن النابض. وبأن تعوض بتفاصيل لا أهمية لها على الإطلاق، بالرغم من متعتها أحيانا.
على الرغم من إمكان وجود من قد يرون في تقنيات فارغاس في إنشاء نص إيروسي فتحا كتابيا جديدا، إلا أنني لا أرى فيها مع ذلك سوى ترددا مغلفا بكثير من التقية. يريد أن يلمس النار بيديه ولا يحترق. لا تجب المغامرة دائما في تخيل معاني مخبئة ومخفية كي نقي كُتابا شر الإسفاف، سواء بالقول بأن النص ينضوي على معاني مستغلقة لا يطالها إلا من هم على قدر العلم بها، أو بأن اللجوء إلى نوع ما من الفسيفساء الكتابية هو خلق فني جديد.
لكن، هل يحق لنا محاسبة فارغاس على الطريقة التي أراد بها كتابة نصه الإيروسي؟ أليس هذا مجرد تنغيص عن بعد (مثلما في الفيزياء) على رجل صار بارزا بمنح جائزة نوبل له؟
لا أصدر بتاتا عن هذا المنحى، إذ من المفروض، في الحقيقة، أن نشير إلى مناطق الضعف في عملٍ نطالعه أيا كان صاحبه.
إن عنصرا الوعظ واتقاء شر الفضيحة هما اللذان شكلا على العموم أهم ما أفسد على فارغاس التوفيق في إجادة نصه في أبعاده الإباحية جميعها. ذلك أنه بالرغم من ذلك فقد حشد فيه عددا مهما من الموضوعات، التي لم أذكرها سالفا، سواء استراق النظر إلى المرأة العارية من طرف الفتى أو ذكره لعملية الختان التي أورد بشأنها رأيا ضعيفا بالمقارنة مع ما توصلت إليه البحوث الأنثربولوجية في المجال.
لا يمنع كل هذا أن يكون النص مكتوبا أيضا في أسلوب جميل، أو بالأحرى مترجما بلغة سلسة، لعلها حافظت على جزالة اللفظ الإسباني الموظف، باستعمال المترجم أحيانا لمفردات فرنسية لا تستعمل اليوم كثيرا.

.

-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%8A%D9%86_samer_1.jpg
 
أعلى