عبد الله كرمون - نهم الجنس: المجون وفنون الطعام خلال القرن الثامن عشر

كتب سيرج سافرون في الصفحة 200 من كتابه، الذي ارتأيت أن أترجم عنوانه ب"نهم الجنس"، (منشورات دار لاميزاغدين)، في الباب الذي تناول فيه أفعال: أكل، ابتلع والتهم، ما كان من المفروض منه أن يقع في المقدمة أو في خاتمة غير موجودة أصلا، قوله: "يبدو أن ذكر الاختيارات الغذائية للمُجان، يخضع لأذواق مشتركة بشكل مقبول، ويعكس، أيضا، طريقة الاقتيات خلال القرن الثامن عشر، وكذا التسلل الواقعي للعادات الغذائية إلى المتخيل الإيروسي. يُستخلص من ذلك إلى أية درجة تُفرض العلاقة ما بين المضاجعة والأكل على طريقة تعبيرهم، تعاملهم واستيهاماتهم. هذه العلاقة التي ينسجها الماجن بشكل دائم ما بين المائدة والسرير في مغامراته ورؤيته للعالم؛ ما يجعله يستعمل أيضا لغة مجازية كي يلتذ بها أكثر". يشير سافرون في التمهيد أنه قد عاش لزمن ماجنا (ليس بالمعنى القدحي)، ما حذا به يوما أن يردف الفعل بالكتابة. كما أنه قد ارتأى حينها كثيرا أن ممارسة الجنس أهم لديه من قراءة الكتابات عنه. إذ تتنافر المتعة الجسدية، في خلده، يومها، بالمتعة الأدبية. بل أكثر من ذلك كان يرى في تلك القراءة أو في مشاهدة الأفلام الإيروسية والبورنوغرافية تجسيدا لحرمان وكبت، ما لم يرغب، إذ ذاك، أن يوصم به. إنه كان يتطلع، كما يذكر، إلى أمور أهم، وليس له وقت يزجيه في ذلك بمعنى ما، تاركا للآخرين، ممارسي تلك الكتابات، أعذار ادعائهم الفن والمتع الجمالية.
يقول أن الأهمية المعطاة للجنس غير حديثة العهد. وأنه من الضروري، قبل ذكر عشاق الجنس خلال عصر الأنوار، التذكير بمن يسميهم بالكبار أي السرياليين الذين واظبوا على قراءة ساد وغيره في سرية تامة خلال تلك الأزمنة.
"يمر كل من الجنس و الطعام عبر الفم. إذا أمكن، فلكل دوره، إن لم يحدث ذلك في نفس الآن"، على كل حال فقد اعترف سيرج سافرون بأن كتابه لم يكن ليرى النور لولا قراءته لكتاب "قصة حياتي" لكازانوفا. والذي تأثر به أيما تأثر.
يبقى أن نقول بأن سيرج سافرون قد اطلع على معظم كتابات القرن الثامن عشرة الإيروسية. وبحث فيها عن كل ما يمت بصلة إلى الأطعمة والأغذية وفي علاقاتها مع الممارسات الجنسية. ما خصه بالتالي بالكتاب الشيق الذي نتناوله اليوم.
استهل فصوله بالحديث عن الشوكولاتة؛ وليس الشوكولاتة الصلبة، بل تلك التي تُعد كمشروب ساخن، والتي قيل عنها أنها مهيجة جنسيا. على أن ذلك الأمر، ليس فقط حال عصر الأنوار، بل يعود إلى أربعة قرون خلت، إذ يحتسي ملك الأزتيك موكتيسيما عدة أقداح منها قبل أن يهم بنسائه. فإن كان العلم لم يؤكد هذه الخصائص المتعلقة بلليبيدو، وما إذا كان الكاكو يشكل منعشا جنسيا أم لا؟ فالشوكولاتة تبعث بالرغم من ذلك على النشوة وتدفع الاكتئاب.
لكن يلزم انتظار مجيء الروايات االإيروسية وكبار المجان مثل ساد وكازانوفا كي نقف على ربطهم ما بين مشروب الشوكولاتة وشهوة البطن أو تحديدا بشهوة الفرج. في حين أن شرب الشوكولاتة يتعلق بأحد طقوس الحياة اليومية لأهل تلك الأزمنة. إذ كثيرا ما يبالغ فيه الكثيرون كما نجد سردا لبعض ذلك عند لويس سيبستيان ميرسيه في كتابه "لوحات باريسية".
يتم تناول الشوكولاتة إذن في فرنسا منذ القرن السابع عشرة. لكن، في أوساط الطبقات الميسورة فقط. يلزم إذن قرن من الزمن كي يتسلل ذكرها إلى الكتابات. فوجد سافرون أثر ذلك لدى غودار د_أوكور، حيث استشف وظيفة أخرى للشوكولاتة، ألا وهي "تلطيف مصادفات حبكة علاقة غرامية". في الوقت الذي منع فيه بعض آباء الكنيسة تناولها، مدعين أنها جد مغذية، لذلك فهي تفسد الصوم الكاثوليكي.
"تلغي الشوكولاتة المصطنع، وتجلي ما هو طبيعي، ترفع هالة الجنية عن المرأة وتجعل ممكنا الاقتراب منها".
الشوكولاتة أيضا معوّض عن الجهود الليبيدية وما ينتج عنها من فقدان للقوة. أورد سافرون، مقطعا من تيريزا التي تفلسف لصاحبه بوييه د_أرجون، والذي سوف يعود إليه مرارا، تُعلِّق فيها هذه الأخيرة على قول العراب الذي يستأذن لأخذ بعض الشوكولاتة، قائلة: "السيد محتاج بلا شك إلى "ترميم" جسماني جراء الهدر الليبيدي الذي سببتُ له".
كما يستعير كثيرون مثل أندريا دو نيرسيا ماعون إعداد مشروب الشوكولاتة الساخن من أجل بناء صورهم المجازية المرتبطة دائما بالشأن الجنسي. يحدثنا سافرون عن مقطع من "لولوت"، يذكر فيه نيرسيا، رجلا مسنا لم يعد بوسعه أن يرى عضوه منتصبا، بالرغم من مجهودات فتاة مشفقة عليه. إذ ظلت آلته لدنة بين يديها مثل خفاقة غلاية الشوكولاتة.
الشوكولاتة عند ساد إيروسية، وتشرب عادة والناس عراة مثال ما يحدث في "مئة وعشرون يوما...". كما أنها تحضر لديه، على الدوام، بين الأغذية والمشروبات الشهوانية الأخرى. بالنسبة لكازانوفا، وهو أكبر مستهلك للشوكولاتة وللنساء، فإن أخذه لها يتم دوما في جو رائق من الاحتفال والانتشاء.
أبان الأدب الإيروسي، كما بينه سافرون، ما لم تستطعه لوحة من فصيلة "وجبة المحار" لجان فرونسوا دو تروا. إنه يؤجج الشهية بل الشهوة أيضا. أورد ميرسيه، أن كريبيون الابن يأكل منه، بحضوره، أكثر من ألف قطعة دون أن يصيبه أي شيء".
لا محيد عن البداهة الكازانوفية التالية: يجب المرور من المحار إلى المرأة. وقد طالب إيميلي "أن تضع له في فمه محارا وبشفتيها بعينهما". ولما قبلت الأمر "وضعت لها المحار في فمها، وقلت لها أن ترشف الماء محتفظة بالمحار بين شفتيها، نفذت ما طلبته منها تماما، بعدما ضحكت طويلا، ثم أخذت المحار لما ألصقت شفتي بشفتيها بكل لياقة". المحار يوحي بالعضو الجنسي المؤنث. إنه كناية لطيفة عنه بامتياز.
القهوة هي من المنبهات المعروفة، وقد أشار برييون سافران أنها تهيج الدم، تمنع النوم، وتمكن القدرات الدماغية من الاشتغال متيقظة لمدة طويلة. إلا أن أوربا لم تعرف استعمالا وتناولا كبيرين لهذا المنبه سوى في أواسط القرن الثامن عشرة. لكن سيمون بولي، وهو طبيب دنمركي، يحذر هو من تناول القهوة معتبرا إياها مسيئة إلى القدرة على التناسل!
يحدث أيضا أن تأتي القهوة في مرتبة منظف، إذ تحتسيها السيدة غييه عند ريتيف، بعدما تكون قد مصت القضيب وامتلأ فمها بالمني.
هناك أيضا خمر الشمبانيا ذو الحباب، والمرتبط في الكتابات الإيروسية بعضو المرأة المزبد. كما يساعد أيضا على الحديث عن الأمور الذاتية مثلما نجد عند ماريفو، وعند د_أرجون حيث تشرب كميات هائلة من هذه الخمر، ما يجعل البوح سهلا. عند ساد هناك مثال الذي لا ينتصب أيره إلا بعدما يشرب على الأقل ست قنينات من الشمبانيا.
وقد جاء عند رتيف أيضا ما يلي على لسان تلك البنت: "عندما انصرف الخدم، عرى حلمتَيَّ، ثم أسكرني بالشمبانيا. غسل أيره في كأس مزبدة. واحتسيتها بعد ذلك تماما...أعجب بتلك السجية، فوضع لي أيره على شفتي. ثم مصصته له!".
للشمبانيا فضائل أخرى، من قبيل التصالح والسلوى. مثلما جرب المجربون أن مجرد جرعات منها كافية لشفاء علة العليل.
ذلك أن الخمور كانت حاضرة بشدة في فرنسا القرن الثامن عشرة. يصف كاتب "تيميدور" لوريت بأنها جذابة وأن خمر شابلي قد أشعل نورا سماويا في عينيها. مثلما حدث لدى كازانوفا الذي لم يعد بوسعه التمييز في ألق عيني البنت الجميلة ما بين إشعاع الخمر واشراقة الحب.
هناك ذكر للكحول الأخرى عند سافرون مثلما عرج قليلا على المني وكأنه هو أيضا شراب معين، عند كتاب اطلعوا على ساد، ودائما في معرض تعليمية جنسية، يكون فيه الأمر محط ذكر للمني الذي يخرج من الذكور كلما تم عصر تلك الآلات. ونجد فيه أيضا ذكرا للسُّكْر العارم الذي تفشى في كل أرجاء قرن الأنوار وفي رواياته. ولا أحد يجهل بأنه، بالنسبة لساد، ليست هناك من عقوبة أشد من شرب الماء وأكل الخبز! مثله مثل كازانوفا الذي صرح بأنه لا يشرب الماء إلا متى أصيب بمرض أو إذا زج به في السجن: ما يعني في كلتا الحالتين، عندما لا يكون حرا.
نصل إلى التين، التوت، الزيتون والتفاح، وكل ما توحي به هذه الفواكه من إيحاءات جنسية مدهشة وحمولات ذوقية غنية بالمتعتين الغذائية والجنسية. دون أن نشير إلى شرب سوائل أخرى قد تقزز اليوم، وأمور أخرى غريبة، ودون الإحاطة بكل ما جاء في كتاب سافرون. نورد هذا التساؤل الذي استنكر فيه الماركيز دو ساد كنوع من اختصار لمغزى العلاقة ما بين الجنس والطعام: "هل هناك امرأة واحدة لا تستشعر الرغبة في الجنس بشكل ملحّ مثل استشعارها لحاجتها إلى الطعام والشراب؟"
لكازانوفا بدوره شرف صياغة هذه الدعوة الموحية: "لنأكل في السرير وبعد ذلك لنمارس الجنس". على أن المرأة كلها فاكهة كما جاء لدى لاكلو في أولى رسائل سيسيل إلى صوفيا. كازانوفا مرة أخرى، الذي رافق سيرج سافرون على طول كتابه، قد استدرجنا خلال تهويمات فظيعة يختلط فيها النهم والشغف الجنسيين بلذة الأكل، حتى يكاد الأمر يصدر لديه عن فعل كانبالي مدهش عندما كتب، متخيلا أنه يمضغ شريكته مثلما يلقم الطعام. كتب: "أفكر، أوان رعشتي، أنني آكل شيئا، والذي هو هي (المرأة)!"



* عبد الله كرمون: نهم الجنس: المجون وفنون الطعام خلال القرن الثامن عشر
.

13887346611.jpg



.
 
أعلى