عبد المحسن يوسف - التي تحلق فوق شعرها المطري غيمةٌ بيضاء

كلما سارت في ذلك البيت العتيق الواسع ،
ذي الغرف الكثيرة ،
والأبواب العديدة ،
والنوافذ التي لا تحصى ،
و المؤثث بالأحلام التي تتبرج في الشرفات كالفراشات ،
تحلق فوق ليل شعرها المطري الطويل والجميل غيمة ٌ بيضاء .
غيمة من عطر ٍ أنثوي ٍّ كريم ٍ محرض على الغواية .

كلما تلفتتْ في سهوب الذاكرة ،
أو تهادت عبر أودية المرايا الفسيحة ،
أو تبسمت وهي تستيقظ من نومها الخفيف
كخفقة جناح ٍ أو رفة ريشة ٍ ،
تنفض عن جسدها المصقول
بشموس المعدن
وحليب الظهيرة ِ
وعسل الكسل الناعم ،
رؤى ً فارهة ً مكدّسة ً كالذكرى فوق مسرح الأهداب ..

كلما تثاءبت تمعن الغيمة ُ في التحليق الهادئ ،
بضة ً ومترفة ً كما لو كانت تحرس
حلم البارحة الطري من غوايةِ السابلة ِ،
ومكر ِ اللصوص ِ ،
ومكيدة ِ المعتمين ،
ونوايا العسس ِالمبللين بالنعاس ِ ،
وخديعة ِ الثعالب !

حين تجلس إلى منضدة ِ الكتابة ِ
أو حين تجلو ـ ذات صباح ٍ ـ
غبشًا رهيفًا عن زجاج نافذة ٍ تتثاءب في القلب ،
أو حين تطبع قبلة ً ناضجة ً كوردة الأنوثة ِ
على جبين الهواء الأخضر ِ
ووجنتي النسيم ِ النظيف ..
أو حين تلوح بيد ٍ من زبد ٍ شهي ٍّ ولجة ٍ فريدة
ترفرف حولها الغيمة ُ البيضاء
مثل راية ٍ صافية ٍ
ويموجُ المنزلُ في ترف ِ النسائم .

مترفة ٌ هي حين تنهضُ ،
ومورقة ٌ حين تسير .

وكلُّ ما تلمسه يشعُّ كما
تشع ُّ فكرة ُ الماس ِ في مرايا الحجر ..

جميلة ٌ من دون تجمل ٍ .
مكتفية ٌ بذاتها كالمحبة التي امتدحها الفاتن ُ " جبران "
في كتابه " النبي " ..
مكتفية بذاتها كصوت " السيدة فيروز "
التي غنت تلك " المحبة " بصوت ٍ من حرير ٍ وشغف .

جمالها يحمل سر اللهب
وخبيئة النار ِ
ووداعة الأعناب ..
وحنكةالجمر
وحكمة المواقد .

بقبتي صدرها العاليتين
تضرم السعير في قلب من يبصرها
وكل من يشهد خطراتها الملتهبة
يستحيل نارا لا تنطفئ
يستحيل فقه حرائق
ومرجعية َ سعير .

سيدة ُ نفسها .
تحيطُ هواجسها الشهية
بفراشات ٍ
وورود ٍ
ومسرات ٍ
وقصائد
ونعم ٍ عريضة .

وبنظرة ٍ منها
تحيل العالم َ فكرة ً مائية مقمرة
يتنزه فيها قرنفل الأنوثة ِ
وإوز الضفاف .

حين تهجس ُ بأنوثتها
تشهق الحقولُ في ممرات ِ البيت
وتسترخي البساتين في البهو
وتتثنى الغصون في غفوة السور
ويغرد باب ٌ
وتشهق نافذة .

امرأة استثنائية ٌ هي .
تقيم ُ أعراس الفلِّ في قرطيها
وتحرض شجرة المخيلة على اصطلاء العناقيد .

كلما قهقهت
تقيم ضحكتها فضاء ً واسعًا للعصافير
وزرقة ً متكبرة ً للنوارس
وملعبًا أنيقًا لمرح الأطفال
وبرية طليقة ً للأيائل .

حين تحدق في الأعالي
تغسل مرايا الأفق ِ
وتنظف آنية الغيوم .

كلما استعادت اسمها
صامتة ً ،
ووحيدة ً
يتدفق هديل ٌ في الكؤوس
ويسترد الكهلُ صباه الغارب
وفي الردهات القاحلة يسيل شجر ٌ وفير .

كلما تحركت
استردَّ البيت ُ سعادته الأولى
وتلالأت في الصمت ِ أقماره العتيقة .

حين تغفو
يسهر ورد سخي ٌّ
عند سريرها لحراسة الأحلام .

وحين تنهض
وتجلس على الأريكة المترفة
يغفو عند قدميها العاريتين
والمحررتين من أصفاد الجواهر
قط ٌّ وديع ٌ حالما بوليمة .

وحين تتفرس في
عشب بستانها الناعم الكثيف
تتلوى غزالة ُ الرغبة ِ
وتعوي في ليلها ذئبة الاشتهاء .

سيدة نفسها .
لا يملكها من يملكها .

وكلما هم ّ لاصطيادها ببلاغة ٍ ناعمة ٍ
وكلما نصب لها المصائد الشهية
وهيأ الأفخاخ
تنأى
وتستعصي !

هي ذاتها وحسب .
ذاتها في القصيدة
في برية النص
في غرفة الحزن الفاتن
في فناء المرح الكئيب
في مرايا الذكرى
في خبز الكتاب
في حدائق الضجر
و في مفازة المسرة .

سيدة نفسها
لا يملكها من يملكها .


.

13887346634.jpg
 
أعلى