عبد المحسن بوسف - التي تقيم أعراس الفل في قرطيها

على أي ٍّ من هذه الأرائك جلستْ ؟
في أي موضع استرخت كحمامة ٍ ، أو كسحابة ٍ ، أو كقطرة ضوء ؟
وأيٌّ من هذه الكؤوس التي بقي فيها
العصير إلى النصف لامسَ أصابعَها الناحلة ؟
( ألا تزال تلك الأصابع ناحلة ً ؟ وناعمة ً كالحرير ؟ )
وأي من هذه الكؤوس القابعة على المناضد كان لها ؟
أيٌّ منها لامسَ شفتيها المكتنزتين كالكرز ،
الشهيتين كرغيف الجائع ؟
حدّق قليلا ..
هل ثمة أحمر شفاه ٍ على حافة كأس ٍ منها ؟
وأي أحمر كان لها ؟
هل ثمة أثر من آثارها النفيسة ؟
هل ثمة أثر كأثر الفراشة ؟
كأثر غيمة ٍ ؟
كأثر نسمة ٍ ؟
كأثر نقش ٍ على حجر ؟


في الحجرة التي قضيت فيها نهارك نائمًا
جلستْ تلك التي شغفتَ بها حباً
ذات مرحلة ٍ غضة ٍ .


كنت تغسل نعاسك وبقايا أحلامك
وكوابيسك الخفيفة وعرقك الأخضر
ونواياك السوداء ورائحة البحر
ومخاوفك الأولى وعبق دخان سجائر الأصدقاء
وغبار الصيف ورطوبة السواحل
وثرثرة " المقيل " وتنظير المثقفين
وعنتريات المناضلين
وكآبة الشارع
ومراثي نشرات الأخبار ..
نعم كنت تفعل هذا في حمام ٍ يشبه الجحيم ،
حين جاءت تلك التي تشبه الحمامة والوردة والهديل .

تخرج إلى الصالة مبتلا ،
فيما شذى الصابون
و ضوع عطر الحلاقة
يعبقان في المكان .

تنادي على التي كنت في بيتها باسمها عاليًا ..
ترى هل سمعتْ صوتك زائرة المساء ؟
هل أدركتْ أنك أنت حقا ولا أحد سواك ؟

تجيبك تلك التي كنت في بيتها :
" مهلا ، مهلا إني آتية " .
ولا تأتي .


تتحدث في الهاتف قليلا
بصوت ٍ عال ٍ كما يفعل أهل القرى عادة ً !
تسأل عن الأطفال ، والأحوال ،
وتعدد أسماء الأطفال واحدًا واحدًا لأول مرة في حياتك !
هل سمعتك جيدًا ؟
هل سمعتْ تلك الأسماء ؟
أسماء أطفالك الطيبين ؟
هل أصغتْ لرقتك وأنت
تهمس لمن تكلمها هكذا :
" يا حبيبتي ، وعطري " .


تلك التي جاءت بصحبة رفيقاتها ،
وتجلس في الحجرة اللصيقة ،
هل أيقنت أنك أنت حقا وليس شخصا سواك ؟
وماذا تراها تفعل الآن وهي تجلس في تلك الحجرة ؟
هل أبصرت ساعتك ونظارتك وقلمك
وكتابين كنت تقرأ فيهما ليلة البارحة؟
هل أبصرت ورقًا أبيض كبياض الكفن ،
ورقا لم تكتب عليه حرفا ،
ولم تمسسه فراشة حبر ٍ ،
أو ريشة قصيدة ؟


ترى هل حدقت ْـ خلسة ً ـ في تلك الأشياء التي تدل عليك ؟
هل ألقت نظرة ً سريعة ً على الكتابين ،
في غفلة ٍ من رفيقاتها اللواتي يعرفن
ما كان بينكما من بساتين ونسائم
وحرائق صغيرة تلهب القلب ؟


هل استبدَّ بها شغفٌ لمعرفة ما كنت تقرأ ؟
أو هل تمنتّ ْ لحظتئذ ٍ إلقاء نظرة ٍ على تلك الأوراق ؟
ربما كتبت َ فيها شيئًا عن حب ٍ قديم ،
أو شغف ٍ عابر ٍ ،
أو ذكرى دافئة ٍ ،
أو حنين لوجه ٍ
أو صوت ٍ
أو ضحكة ٍ
أو رائحة ٍ
أو دندنة كعبها العالي
على رئة الرصيف ،
ودرج السريرة ؟


هل درت َ سريعا في خلدها كما يفعل البرق ؟
هل مررت ببالها تلك اللحظة كطيف ٍ ناحل ٍ وغامض ؟
هل خفق القلب ؟
هل سرت كهرباء سريةٌ في فضاء الجسد ؟
هل اشتعلت نجمة الذاكرة ؟
.....
.....

تستيقظ من غرق التساؤلات
على صوت تلك التي كنت في بيتها ،
والتي كان اسمها مثيلا لاسم تلك الزائرة :
ـ كان لدي زائرات ،
إحداهن تضع في قرطيها فلا ً أنيقًا ،
وبدت في كامل زينتها ،
وفي الحالات القصوى للأنوثة ..


وتبسمتْ قليلا ، وظل ضياء ابتسامتها
مشرقًا كشمس ٍ صغيرة ٍ ماكرة ..


أنت لم تسأل عن الزائرات ،
وهي لم تكتف ِ بالابتسامة ..
بل صبت في أذنيك الحرائق :
ـ زائراتي أنت تعرفهن ..
إحداهن كانت شذاك القديم ، وعبقك الآسر ..


تصببت عرقا ..
فعلقتْ بخبث أنثوي :
ـ أنت تتعرق بغزارة !!
وأضافت :
ـ إنها قمر ناضج في سماء الجزيرة .

وحين أدركت دهشتك ، أمعنت في تلاوة مدائحها :
ـ رغم أطفال ٍ ثلاثة ٍ ، وزوج ٍ تافه ٍ ، جلب لها ضرّة ً وخيبات ٍ مريرة
ظلت بضّة ً كغيمةٍ من حليب ، ورشيقة كالغزالة .

.......
......

حين خلوتَ إلى نفسك أدركت َ
أنك حين كنت تنادي على تلك التي كنت في بيتها ،
إنما كنت تهتف باسمها ..
باسم امرأة ٍ شغفتَ بها حبا ذات يوم !


ترى ما الذي كان سيحدث
لو أنها أجابتك دون دراية ٍ منها ،
حين كنت تنادي باسمها دون دراية ٍ منك ؟!

.....
.....
وطفقت تتصبب عرقا غزيرًا مرة ً أخرى !


.

ادام ستيكا
صورة مفقودة
 
أعلى