عبد المحسن يوسف - التي أضرمت الجحيم في جنة الجسد

من أقاصي " الجزيرة " تأتي الفتاة إلى بيتنا .
في الظهيرة ِ كانت تجئ ،
غير عابئة ٍ بشراسة الصيف ِ
ولا بغلظة الشموس !

تسكن في العباءة ِ
وتطير ،
وتقول للريح : اتبعيني .

تستحيل العباءة ُ في الريح شراعا
تستحيل التي فيها بستانا مثقلا بالنفائس
بستانا داعيا للغواية ِ ، والنهب ...

العباءة ُ
تغدو ُ سترًا ..
ولكنها قد تستحيل فضيحة !

حين تشدها على بستانها العامر
بما لذ وطاب ،
وتقوس وتشمس
وانحنى وانثنى
واستدار وأدار
وفاض
وأغدق
وتماوج
وارتج
وتمايل
ومال
واستمال
وتكور
وتدور
يلهث الشارع خلفها
ويتحرش بها الغبار !

الفتاة التي تجئ حين الظهيرة إلى بيتنا
تتخذ من رؤية أحواض أمي ذريعة ً ..
تلك الأحواض يتبرج فيها
النعناع
والريحان
والحناء
والشيح
والكاذي
والمونس
وبما لست أذكر الآن .
تلك الأحواض هيأتها أمي
وسقتها بندى القلب
ودمعة الروح
وعرق الجبين .

تصطحب أمي الفتاة
لتنزه قلبها في تلك اللغة الخضراء ،
فيما عينا الفتاة كانتا تتنزهان في جهة خامسة .

تلك الفتاة مجبولة من
جمر ٍ
وثلج ٍ
وقمح ٍ
ورطب ٍ
وصلوات .

إنها مشتعلة كالتنور
إنها شهية كالرغيف
إنها قصيرة ٌ ووافرة
إنها مستودعُ نساء ٍ
إنها منجمُ أنوثة
إنها ثكنة ُ شهوات
إنها قلعة رغائب .

رفيقتها التي جُبِلتْ من رمانة ِ الفراديس .
تقتحم عليّ الحجرة المطلة على الفناء .
تفتح النافذة ..
بصرخة ٍ مكتومة ٍ تقول :
ـ آن لك أن تتملاها ،
كما تتملى امرأة ٌ جميلة ٌ
حدائقها في مرآة !
ـ حدّق طويلا ،
ولا ضير عليك إن أمعنت في التحديق ..
وتهمس كوردة :
ـ إنها مهيأة لك ..
ولم تبحر في طرقات هذه الظهيرة ِ اللعينة ِ
إلا لكي تقتاتها عيناك
وتحتسيها كمن يحتسي سلافة الألق .
ـ حدق كي تشع كماسة ٍ في شمس الفناء .
ـ حدق لتغدو نجمة في مرايا النهار
ـ حدق لتزدهر عناقيدها
ـ حدق لتمتلئ عذوقها
ـ حدق لكي تنضج حرائقها
وتغتني حدائقها .
ـ حدق لتفيض أنوثتها
وتتدفق في الغرف .
ـ حدق ليمتلئ فستانها بالأثمار
ورائحة النعناع
وعبق الآس الجميل ..
ـ حدق لتمتلئ عباءتها بالنساء .
ولتمتلئ هي بك .
ولتمتلئ أنت بها .
ـ حدق ..
حدق ..
فأنت مجرتها الكبرى.
حدق
حدق
فأنت طوافها ، والكعبة
وأنت طوفانها ، وسفينة ُ نوح !

وتساءلت غاضبةً كمن تزجر جرذًا :
ـ لِمَ أنت في حياء ٍ ،
وتلك في الذوبان .

ـ لِمَ تلوذُ بالخجل ،
وهي تبذل نفسها
ونفائسها
وتقول لك : هيت لك !

.......
.......

لماذا تغلق النافذة أيها المغفل ؟
لماذا ؟
لماذا ؟

هي في القيظ
وأنت في الينبوع .

هي في الجمر ،
وأنت في التويج .

هي في السعير
وأنت في قطرة الندى

لماذا تغلق دونها
النافذة
والقلب
والأفق .

إنها لم تأت إلا لتبصرها
ضاجة ً بالفتنة
وصاخبة بالجمال

ألم ترَ ما أراه ،
يا من تحمل عينين
وأنت أعمى !

يا من تحمل قلبا ،
بيد أنه ضرير !

إنها تشتهيك
تشتهيك
تشتهيك

كما تشتهي الأشرعةُ النسائم
والبيوتُ الأبواب .

......
.....

نعم ، أوصدتُ النافذة َ ..
وأمعنتُ في سفر ٍ طويل ٍ
غرقت في
الجامعة ،
والكتب ،
والشعر ،
والصحافة ،
والأمسيات ،
والحبر،
والأحلام
والوظيفة ...

غرقتُ في عطر ِ سواها ..
واستلبتني صبايا المدينة الأنيقات
والمنفتحات على أحدث بيوت الموضة والأزياء
استلبتني مبدعات القصيدة الحديثة
والمتحدثات عن الحرية
وعن سارتر
وسيمون دي فوار .
وعن فرانسوا ساغان
وعن " صباح الحزن ، أيها الوطن "
استلبتني قارئات " كافكا "
و" بودلير "
و " أدغار ألن بو "
حيث قصيدته الطويلة والعميقة : " الغراب " .
استلبتني عاشقات الواقعية السحرية
عاشقات جابريل غارثيا ماركيز
وأستورياس
وجورجي أمادو ..
ومدمنات " زانفير " ،
وسيلون ديون
وإلتون جون
وأغنيات فيروز
وموسيقى زياد رحباني !

.......
.......

نسيت تلك التي تكنز غيوما وطيبة وفراديس
ورائحة القرية ، وشذى خبز التنور ..
خطبت طبيبة ً ..
وتزوجتُ " العبير " ...
......
.....
ذات غيرة ٍ
ذات غضب
ذات جنون
ذات لحظة ٍ عمياء
عامرة بالإحباط
ومثقلة ً بالحسرات
قررت تلك التي تكنز أنوثتها لي
كما لو كانت سنبلة
تكنز حباتها لتضور الطائر
أن تضرم النار في حدائقها
والجحيم في جنة الجسد !

.......
......

أنا القتيل دوما
هل كنت قاتلا ؟
......
......
وأخيرا
أخيرا
وفيما تقتلني الحسرات
أتساءل :
ـ ما جدوى تلك الحسرات ؟
ما جدوى تلك الحسرات ؟


============
* عبد المحسن يوسف
التي أضرمت الجحيم في جنة الجسد

.
feng chiang jiang
صورة مفقودة
 
أعلى