أمجد ناصر - دِين الحُبّ

من يقرأ «ترجمان الأشواق» لابن عربي مُجَرَّداً من شروحاته التي ذيَّل بها «الشيخ الأكبر» ديوانه هذا لا يمكن أن ينصرف ذهنه إلاّ إلى أمر واحد: إنه كتاب في الحبِّ ومكابداته. كتاب في الشوق إلى الحبيب وطلب وصاله. الحبُّ الذي تضطرم نيرانه في جوانح شخصين من لحم ودم.
شخصان أرضيّان مشدودان إلى كثافتهما البشرية.
فلا يلوح لك «ترجمان الأشواق» إلاّ بصفته شعراً في الحبّ الذي نقع عليه عند شعراء الحبِّ ومجانينه الكبار من عمر بن أبي ربيعة مروراً بقيس وجميل وانتهاء بنزار قباني. حبُّ له كثافة وقوام، وينهض على مواصفات، وينعقد على محسوس وملموس ومشموم. هو مما يعرفه حاملو عبء قلوبهم، كاتمو أو مذيعو أشواقهم الظامئة إلى ثغر الحبيب ورضابه.
فقصائد «ترجمان الأشواق» ومقطّعاته لا تنشأ من عدم، ولا تدور في فراغ، ولا ترسل إلى مجهول. فمسرح القصائد وأسماء العلم التي تخترقه، من أوَّله إلى آخره، تؤكِّد وقائع الرواية التي ترمي شروحات «الشيخ الأكبر»، اللاحقة على فعلَي الحبِّ والإبداع، إلى نفيها.
فالشرح الذي يفتح آفاقاً علوية للأرضي، وأثيرية للمحسوس، ومطلقة للمتعيِّن جاء لاحقاً على القصائد التي ذاع صيتها، ليحاول أن يحصر الرواية التي قالت إن الديوان مكتوب من أَلِفه إلى يائه بـ «النظام» ابنة الشيخ مكين الدين أبي شجاع الأصفهاني، في زاوية لا تتجاوز الإلهام والواسطة.. أو الكناية والاستعارة. والحال أن القصائد، لمن لا يعرف من هو ابن عربي، ولم يقرأ شروحاته طالعةٌ من قلب محبٍّ أقعده الهوى عن كل أمر آخر، وشفّه الوجد، ورنَّحته تباريح الصبابة.
فهذا هو محبٌّ يحبُّ (... كان ابن عربي يومها في الثانية والثلاثين ولا أعرف عمر «النظام»، وإن كان يبدو لي أنها في شرخ الصبا) الحبّ الذي يحبّه رجل لامرأة ولا يرتوي. واللقاء، هنا، هو لقاء الأجساد، لأنَّ لقاء الأرواح حاصل ومتحقِّق. ولا يغيِّر عندي شيئاً كثيراً أن لا تكون اليد في «ترجمان الأشواق» غير اليد البشرية، ولا أن يكون للفم دلالة غير ما نعرف، ولا أن يكنّى بالرغاب، والأنفاس واردات إلهية أو إشارات علوية.
لابن عربي أن يشرح ما يشاء درءاً للرواية التي قالت بتعلُّقه، وهو الشيخ الأكبر صاحب الولاية، بـ «النظام» التي التقاها في مكة، ولنا أن نقرأ «ترجمان الأشواق» كما نريد. وهو عندي لا يغاير، ولا يناقض، مفهوم ابن عربي للحبِّ، وهو الذي يديِنُ بديِنه:
أدين بدين الحبِّ أنَّى تَوجّهتْ = ركائبهُ فالحبُّ ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هندٍ وأختها = وقيسٍ وليلى، ثم مّيٍ وغيلانِ.
فهو حتى عندما يضرب المثل على الحبِّ فإنه يضربُ أمثلةً سائرةً في حياة العرب، علاماتٍ على الحبِّ البشري الذي بلغ في تعلُّقه، أحياناً، مبلغ الجنون؛ فهو، أي الشيخ الأكبر، له أسوة بهذه الهمم الكبيرة في الحبِّ، هذه الأسماء المعلومة في عشقها الأرضي وغير المعلومة بمكابداتها الصوفية. وحتى عندما يشرح هذين البيتين لا يذهب بعيداً عمّا ذهبنا إليه، ولا يغادر أرض البشر ومتعيناتها إلاّ لكي يرى أنها صورة من صور الله الذي لأنَّه أحبَّ البشر فقد خَلَقهم.
فبالحب أخرجهم من العدم إلى الوجود ، من الغيب إلى الشهادة.

* مجلة الدوحة - العدد 78 إبريل 2014
.

.
Emile Hippolyte Lecomte-Vernet (1821-1900) - French painter

صورة مفقودة





.
 
أعلى