أحمد شوقي علي - لا رقيب على الجنس في الرواية المصرية.. إلا الذاتي

لا يمكننا توصيف تناول الجنس في الأدب المصري، باعتباره نهجًا أدبيًا، أو حتى ظاهرة، يتم قمعها فتنزوي وتعود للظهور فتزده،ر ومن ثم تقمع، وهكذا.. فالأعمال الأدبية المصرية التي تتناول الجنس بشكل عام، من دون النظر إلى الجماليات الأدبية، تعتبر محاولات فردية محضة، مثلها مثل الأدب نفسه كونه فن الفرد.

منذ ظهور الرواية المصرية في عشرينات القرن الماضي، وحتى الوقت الحالي، لا نكاد نلمس توجهًا عامًا في الكتابة أو نزعة جمعية لما يسمى بكسر التابوهات، باعتبار الجنس إحدى تلك التابوهات الثلاث في الكتابة العربية (الجنس-الدين-السياسة). فالأمر عائد في المقام الأول إلى الكاتب نفسه الذي يعكس أدبه مقدار ما تنضوي عليه شخصيته من ميل للمحافظة أو الجرأة. كذلك، لا يمكننا أن نعتبر مصادرة الرقابة لبعض الأعمال الأدبية، لاحتوائها على مشاهد جنسية صارخة، عملاً ممنهجاً. فالأمر لا يتخطى حاجز الترصد. الترصد للكاتب من قِبل غريم ما، أو ترصد عمّال الطباعة أنفسهم لما قد تقع عليه عيونهم من مقاطع الرواية أثناء عمليات الطباعة، أو مصادفة عين الرقيب نفسه لكلمة الغلاف في إحدى الروايات، والحالة الأخيرة هذه لا تحدث إلا مع الكتب الآتية من الخارج. وقد يحدث أن يلفت الكاتب نفسه عين الرقيب أو المترصدين إلى ما يحويه كتابه، ابتغاء للشهرة. والدليل على غياب الرقابة، انتشار روايات خليل حنا تادرس، التي تصنّف كتابة إيروتيكية، أو روايات إسماعيل ولي الدين، بل وتحويل بعضها إلى أعمال سينمائية، مثل "حمام الملاطيلي" و"الأقمر" وغيرهما. إضافة إلى نجاح روايتي "شيكاغو" و"عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، أو توافر رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري في كل المكتبات وفي طبعات مختلفة، رغم احتوائها ألفاظاً جنسية واضحة من دون مواربة (وهي وافدة ومرّت على الرقيب مثلًا).

الأمر، إذن، معتمد على رغبة الأديب نفسه، والتي تحكمها طبيعة أخلاقياته، ومدى حرصه واهتمامه بأخذ نوعية متلقيه في الاعتبار. وهو ما يذكّر بحديث مع الأديب الراحل خيري شلبي، بعدما أعلنت دار الشروق المصرية -منذ سنوات- مصادرة بعض كتبها في معرض الرياض الدولي، ومن ضمنها روايات شلبي، فأبدى دهشته للخبر لأنه هو نفسه "محافظ"، بحسب قوله.

تكمن أزمة الطرح في اعتبار الجنس "تابو"، وتحويل ما هو طبيعي -أي الجنس- إلى محظور، وبالتالي تحويل الكتابة عنه إلى إنجاز أو تكسير للمحرّم، وهو ما انعكس في تناول أبناء "ألف ليلة وليلة"، لمسألة الجنس والجسد في أعمالهم، وتلقّي تلك الأعمال من قبل القارئ، وتحويل النقاش من القيمة الإبداعية للعمل ككل إلى نقاش حول ضرورة ذكر الجنس وهل هو موظّف فنيًا أم مقحم، وهل هو مستوفٍ لشروط الجمال اللغوي أم فج.. إلخ.

من الواضح أن كتّاب ألف ليلة وليلة -باعتباره المثال الأبرز على استخدام الألفاظ والأفعال الجنسية، لم ينشغلوا بتلك الفرضية على الإطلاق، وتعاملوا مع المسألة بما يناسب عفوية الطرح، فكتبوا الجنس بكافة الطرق الأدبية، سواء المباشرة في ذكر الأعضاء الجنسية بأسمائها الدارجة، أو الاستعارية منها. وهذا قد يحيلنا إلى فرضية أخرى، تضاف إلى رغبة الكاتب نفسه، وهي الدورة الإبداعية، التي تبدأ بعفوية الطرح، ثم دخوله في طور الترسيخ بخلق قواعد فنية، ثم الاستقامة بالاكتمال، ثم التمرد على ذلك كله والبدء من جديد.

هذا ما يمكن أن نتتبعه في السرد المصري الحديث منذ انطلاقته وحتى الوقت الراهن. فبالنظر إلى أعمال الرواد، من أمثال يحيى حقي وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، سنجد أن مسألة الجنس لم تغب عن أعمالهم، فلا تكاد تخلو رواية لنجيب محفوظ من مشهد جنسي، وكذلك قامت رواية "البوسطجي" ليحيى حقي على واقعة جنسية، وأيضًا المجموعة القصصية "بيت من لحم" ليوسف إدريس أو "الحرام"، وغيرهما.. لكننا سنجدها كلها بلا صخب لغوي، وتذهب في كثير من الأحيان إلى الالتفاف على مباشرة المشهد باستخدام "البديع". فقصة "بيت من لحم" ليوسف إدريس، مثلاً، تدور حول أُمّ لثلاث فتيات دميمات لن يتزوجن لقبح منظرهن ولفقرهن، فتتزوج أمّهن من شيخ كفيف لإعالتهن. ولأن العائلة كانت تعيش كلها في غرفة ضيقة وتنام على فراش واحد، لجأت الأم وزوجها إلى علامة ليميزها الزوج ليلاً إذا أراد مضاجعتها، عن طريق خاتم في يدها. وتحت إلحاح الحاجة الجنسية، تسرق بناتها الخاتم من يدها ليلاً، بالتناوب، ليمارسن الجنس مع الزوج. ورغم أن الفكرة صادمة، إلا أن إدريس لم يشأ أن تحمل لغته الصدمة نفسها.

وبغض النظر عن القيمة الجمالية للطرح، فإننا نكاد نجزم بأن الكتّاب لم يتخلوا عن رقيبهم الذاتي في التعرض للمسألة الجنسية، إلا أنه يمكننا أن نلحظ تغيّراً في الطرح، بعدما اكتسب شيئاً من الجرأة، منذ بداية السبعينات. قصة إدريس كمثال (المجموعة نشرت العام 1971)، أو التعرض للمثلية الجنسية مثلما فعل نجيب محفوظ في "ثرثرة فوق النيل" و"زقاق المدق" (1971 و1974)، كما أن ليحيى الطاهر عبدالله قصة بعنوان "جبل الشاي الأخضر" من مجموعته الأولى، تظهر فيها مراهقة تمارس العادة السرية عن طريق حك جسدها بظهر الحمار، وله أيضًا قصة في مجموعة متقدمة عن امرأة تمارس الجنس مع كلب، وكذلك نجد أن محمد مستجاب قد تناول في روايته "من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ" قصة لامرأة ثرية في الريف تنتقي الصبيان ليمارسوا الجنس معها.

أما في الرواية المعاصرة، ونقصد ما ظهر مع الألفية الثالثة، فنجد أن جرأة الطرح أخذت منحى أكثر وضوحًا، في مسألة التناول الجنسي. فرواية "أبناء الجبلاوي" لإبراهيم فرغلي تتعامل بحرية أكبر مع العلاقات الجنسية، نجد فيها مشهدًا لفتاة تحلق شعر العانة للبطل، لكنه وبالرغم من ذلك استعان باللغة للالتفاف على ذكر الأعضاء الجنسية مباشرة، عندما تحدث عن لوحة بالخط العربي تشير للاسم الدارج للعضو الأنثوي مستعيضًا عن ذكره في السرد صراحة بتقطيع حرفيه الكاف والسين، وفي الروايات التالية الأكثر حداثة من حيث تاريخ الصدور، نجد أن محمد الفخراني لم يوارب مطلقًا في استخدامه للألفاظ الجنسية المباشرة في روايته "فاصل للدهشة"، كما نجد أن الروائي أحمد مجدي همام، عَنوَن أحد الفصول في روايته "أوجاع ابن آوى" بـ"عشاري" وهو الجمع العامي لمعنى ممارسة العادة السرية، وكذلك أطلق محمد صلاح العزب عنوان "وقوف متكرر" على روايته، كناية عن كثرة انتصاب العضو الذكري للبطل.

وهناك مشروع سابق عليهم، لا يمكن إغفاله للروائي الشاب محمد ربيع، والذي كرس رواياته لكسر التابوهات الثلاثة، وإن كان قد تعرض لنوع ما من المصادرة في رفض دور النشر لإصدار أعماله، إلا أنه التف على ذلك بنشرها إلكترونيًا، ولا تختزل الأمثلة الواردة، كل ما طُرح، بل هناك العديد من المحاولات ما يضيق بذكرها المجال.

وربما يكون الإصرار في تلك الأعمال الحديثة على ذكر الجنس بحرية ومساحة أكبر، هدفًا لكتابة رواية إيروتيكية عربية، كما صرّح فرغلي في حواراته الصحافية. لكن من الواضح أنها اجتهادات فردية للخروج بالأدب المصري من أزمة الوقوف على حافة التابو، واعتبار كسره إنجازًا في حد ذاته، إلى معيار القيمة الأدبية للعمل الأدبي ككل. وذلك عندما يعتاد القارئ على أن التابوهات الثلاث التي يعرفها ليست محظورات، وإنما هي مسار طبيعي للحياة الإنسانية، والتي يعتبر الأدب الانعكاس الفني لها.

.
.

29.jpg
 
أعلى