قصص عراقية أحمد خاني - قصة مم وزين - قصة حب كردية - ت: د. محمد سعيد رمضان البوطي

اليأس

لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية، يائسة من السعادة.. رغم ما كانت تكابده من الآلام. فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع مم آمال قلبها، كما نالت أختها ستي مع تاج الدين. ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله الأمير بمم.. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل! حتى بتر من قلبه كل ما كان يمتد فيه من عروق الأمل، وأخذ فؤادها ينزف باللهب وخنقتها العبرات، وضاقت رحاب الدنيا أمام عينيها. و كأنما أطبق عليها ذلك القصر ونعيمه والتصق بخناقها ، فلم تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها. وتجمعت على مشاعرها آلام عدة.. أقلها يذيب النفس.
كانت تتوجع مرة لمصير مم وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر.. وتتألم أخرى من أنه ربما يتخيل وهو في عذابه ذلك أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح، تتقلب في نعيم الحرية والإنطلاق. ثم تتألم لنفسها، ولغروب آمالها، ومن أنها لم تعد تبصر بقية أيام عمرها أي بريق من الرجاء والأمل. ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعج حبها. وكثيرا ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السواد والبؤس في حظها، فتتسائل قائلة:
’’ أي حكمة ترى يا إلهي تكمن وراء كل هذا الوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة والشقاء...؟
مرة واحدة.. لم تدر هذا الفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي. يوما واحدا.. لم تدع هذه الدنيا تتألق أيضا في عيني؟!
أسكرت أولا ذلك المسكين، وطرحته في وهج من حبي. ثم عكست ذلك الوهج إلى قلبي أيضا، وتركته يكابد حره ولظاه. أسرجت بيني وبينه الضياء قليلا، حتى إذ لمحني ولمحته، وهفا إلي وانصرفت إليه، أسرعت فأطفأت السراج وأسدلت بيني وبينه الظلام وتركت كلا منا ينطوي على ناره، وينفرد لشوقه وحرمانه. أقمت من حول أعيننا أفراح الناس وأعراسهم، بينما تركت وراء جوانحنا مأتما من الأحزان والآلام.
فماذا جنيت يا إلهي...؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته.. ليبحث عن آماله في ظلام المقام في باطن الأرض..؟
ولكن ...
لماذا أعتب.. ولمَ أقول هذا؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل، وقد رضيت بها قبل اليوم. وعليّ أن أرضاها اليوم أيضا صابرة شاكرة.
غفارانك اللهم... لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمت به عليّ أقدارك...‘‘
ويتراءى أما عينيها شبح مم، وكأنما ينظر إليها من وراء سجنه، وهي طليقة في جنبات القصر، بعين كاسفة ووجه متألم، فيثير ذلك لواعجها، وتحدثه قائلة:
’’ أو تحسب يا مم أن رحب هذا القصر أوسع علي من ضيق سجنك؟ أو أن إشراق هذه الدنيا من حولي أقل سوادا في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها؟ أو أن شيئا من النعيم الذي حولي يسليني عنك ويشغلني؟
لا والله يا مم... أقسم لك وأنت قبلة فؤادي الولهان، وأمل روحي الهائمة - أن سعة آفاق الدنيا أماي لا تزيدني إلا حسرة وكربا، وأن إشراق هذا القصر من حولي لا يبصرني إلا بسواد حظي الحالك..
نعيمي.. الزفرات التي تشق صدري، وطعامي.. السُعار الذي يمزق أحشائي، وشرابي الدموع التي تذيب كبدي. أما فراشي، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي مني سويداء القلب، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض، ولا شعور تهدأ منه الثورة ليستكين .
هذه حالتي يا مم وأنا في رحاب هذا القصر، فقل لي كيف حالك وأنت في غياهب ذلك السجن..؟
قل لي من هو أنيسك في ذلك الظلام؟ ومن هو جليسك الذي تشكو إليه الآلام؟ كيف تقضي الليل، وأنت لا ترى في سمائك كوكبا يواسيك أو يطل عليك؟! وكيف يمر نهارك دون أن ترى من حولك أي إنسان يحدثك، أو تمر بك نسمة تنعشك، أوتبصر أمامك غصنا أو طائرا يسليك؟
آه لو كان لروحي التي بين جنبي أن تنطلق مرة إلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين، وتعود إلي بالخبر عن حالته وصحته وجسمه. أخشى أن يكون الجزع قد استبد به والآلام استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه.
بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضا، فاثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معه في ذلك الظلام. إذا والله لاطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان، وافلتني من قيود هذه النعمة التي حطمتني إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي، وأدواي ذلك القلب الذي لم يرق لحاله أحد.
ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني، وما أشد خوفي من أن يكون الدهر قد انطوى على آخر لقاء بيني وبين هذا إنسان قلبي، وقرر أن يحرمني حتى من مشاهدته والإطمئنان على حاله‘‘
وهكذا أخذت زين تفقد أخيرا بقية ما في جسمها من حول وقوة، وعافت كل طعام وشراب، وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعلل والأمراض.
ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لمم ولكنه مع ذلك ظل متجاهلا أمرها غير مكترث بحالها فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه قد غشت على عقله وعاطفته حيال هذين العاشقين، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبه الخبيث، إذ رماهما له بتهم باطلة، وأدخله إلى وهمه أن مم لم يعد يجد مانعا من أن يلوث سمعة قصره بمعاني العشق والغرام بأخته بعد أن رفض أن يزوجه بها.
وانقطع الأمير عن الإلتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة لا يسأل عنها بكلمة، ولا يرحمها بنظرة، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ليعلم ما حالها وما الذي انتهى إليه أمرها.


.
 
الثورة

انقضى عام كامل على مم وهو لايزال ملقى في سجنه، ورفيقة شقائه لا تزال تعاني كربها وعلل نفسها وجسمها. وأصدقاؤهما لا يجلو عنهم ذاك الحزن والهم من أجلهما، لا سيما تاج الدين وستي، ذاك لا يبارح خياله مم وهو قابع في وحشة الإنفراد يكابد هذه النهاية التي حكم بها القضاء بعد كل حرمانه وشقائه. وتلك لا تفتأ تتوجع لحالة أختها زين التي تدهورتصحتها وطرحها الضنى والعذاب، حتى إنها عافت واستثقلت كل مظاهر نعيمها وسعادتها التي آتاها الدهر بعد أن عافت أختها من كل ذلك ونكبها هذه النكبة المريرة. وقد باءت كل محاولات أولئك الأصدقاء لإطلاق سراح مم والعفو عنه بالخيبة ، فلم يكن أحد ليستطيع أن يستدر بشكل ما عطف الأمير وشفقته عليه.
وفي ليلة صامتة هادئة... كان أصدقاء مم كلهم مجتمعين في دار تاج الدين، تلك الدار التي يعرف الناظر إليها أنها كانت في يوم ما قصرا رائعا.. يتبادلون المشورة والآراء لإيجاد حل حاسم لهذه المشكلة. وقد بلغ بهم الكرب أقصاه، وانتهى الصبر فيهم إلى آخر مرحلة.
وارتأى بعضهم أن يغدوا جميعا مع صبح اليوم التالي إلى الأمير لآخر مرة.. يستشفعونه في مم، ويستدرون عطفه.. و يلحون في الرجاء بإطلاقه.. فإن استجاب فذاك وإلا عادوا فقرروا سبيلا آخر أصلب من هذا...
ولكن عارفاً لم يعجبه الرأي وقال:
’’ إن من الضعف والخور بعد كل الذي عرضناه من رجاء، وتصنعناه من ذل - أن نعود إلى هذا الإسلوب بعينيه.
إن إخراج مم من السجن لم يعد يمكن عن طريق الرجاء والكلام في الدواوين، وإنما يخرجه اليوم شيء واحد، هو هذه السواعد التي نملكها.. فعلينا أن نتركها هي اليوم ترجو وتتكلم، لا في المجالس والدواوين ولكن في الفلاة والميادين...!
علينا إذا أردنا أن يعود مم إلينا أن نبادر مع صبح الغد فنرتدي دروعنا، ونشتمل سيوفنا، ثم يستوي كل منا على جواده، فننطلق بالحراب والسنان نهزها، ونستدر بها وحدها عطف الأمير، ليطلق سراح مم. فإن رقق ذلك من قلبه وقضى مرادنا فذاك.. وإلا أعلنا حربا مستعرة هوجاء، عليه وعلى كل من ستثكله أمه من اتباعه وبطانته، وعلى رأسهم كلبه اللئيم الحقير.
ولتنفتل رحى الآجال إذ ذاك، تعصف بالرؤوس، ولتصبح ’’ بوطان ‘‘ حلبة لرقصة الموت، وليستمتع أهلها بلحن الأتراس والسيوف. فإما شققنا غبار ذلك كله إلى مم فأنقذناه برماحنا وسواعدنا، وإما لحقنا به وعانقنا معه الموت والردى.‘‘
وما إن أبدى هذا الرأي، وأتم كلامه الملتهب حتى أثار حماسة الجالسين، وأشعل دماءهم، وأجمعوا على أن يتلاقوا جميعا في صبح اليوم التالي في عدة الحرب ليشنوها غارة على الأمير...!
وفي صبح ذلك اليوم فوجئ أهل الجزيرة من هؤلاء الأشقاء الثلاثة بأمر لم يكونوا يحسبوا له حسابا. وطاف هؤلاء الثلاثة ومن معهم من الأصدقاء والأصحاب على أهلهم وذويهم - وقد حزموا أمرهم على الحرب ، ولبسوا لها لباسها، وأعدوا لها عدتها - يستسمحونهم ويودعونهم.
ثم انطلقوا في خيلهم ورجلهم، وقد اجتمع منهم عدد كبير، يؤمون قصرالأمير.. ولما صاروا على مقربة منه اختار تاج الدين ممن معه شيخا مسنا، فبعثه رسولا إلى الأمير، يخبره بالشأن.. وأمره أن يقول ما يلي:
’’ أيها الأمير، هؤلاء الأخوة الأربعة - مم وتاج الدين وعارف وجكو - لست تجهل أن أحدا منهم لم يتهاون يوما ما في خدمتك، ولم يتبدل منه الإخلاص في محبتك. فبأي حق وإنصاف تمر سنة كاملة، وأنت حابس عنهم أعز أخ بينهم.. وملق به في ذلك القبر.. ليس له هناك من راع ولا صاحب؟!
أيقظت عليهم شماتة الحساد، وأقمت من حولهم هموم الأصدقاء والأصحاب، وتنكرت لهم، فلم تستمع منهم إلى استعطاف أو رجاء!
ما هو ذنب مم...؟
أليس كل ذنبه الذي جعله يستحق منكم هذا العقاب أنه عاشق....؟
ولكن ماذا يصنع.. وإن للعشق سلطانا أقوى من سلطانك؟ فهلاّ انتقمت إن كنت ذا طول وطود من ذلك السلطان الذي عاندك فاسترقّه - عوضا عن أن تنتقم من هذا البريء الضعيف الذي ليس له من الأمر شيء..؟!
أيها الأمير: إن هؤلاء الأخوة الأربعة ليس أحد يجهل أنهم أركان أربعة لسعادتك وسلطانك.. وهم اليوم يتقدمون إلى رحابكم باسم الوفاء والعدل طالبين لآخر مرة إطلاق سراح رابعهم من ذلك السجن. وإلا فإن أحداً من البقية.. لا يجد في نفسه ضرورة إلى الحياة بعد اليوم...‘‘
وراح الشيخ.. واستأذن على الأمير بعد أن رآه بكر وعرف المسألة كلها.. فأبلغه هذه الرسالة كما حمّله إياها تاج الدين، ووقف ينتظر الجواب. فأخذ الأمير يفكر وقد بدا على ملامحه الحذر والتريث. ثم نظر إلى الشيخ قائلا وقد أسرّ في نفسه أمرا:
’’ أيها الشيخ. عد إلى هؤلاء الذين أرسلوك، فقل لهم: من أين ارتكزت في أذهانهم هذه الأوهام الفاسدة حتى تقوم في رؤوسهم هذه الثورة التي لا داعي لها..؟ وليحدث كل ما يفرض أن يكون، فهل يعقل أن نفوت ونترك أصدقاءنا، وأن نتخلى عن تقديرهم ومحبتهم، سيما وإن لهم عندنا خدمات وأيادي لاتنسى، أما مم فإنا رأينا أن نفعل به ذلك تأديبا وإيقافا له عند حده، وها أنا اليوم سأجعل كلا من مم وزين فداء لتاج الدين وأخويه، فليطب خاطرهم. بل وسأهبها لهم ليتحققوا من إخلاصنا في حبهم وتقديرهم..‘‘
فتهللت أسارير الشيخ، وانحنى شاكرا بين يديه، ثم انصرف عائدا إلى القوم الذين كانوا في انتظاره. وما إن أخبرهم بما قاله الأمير حتى سري عنهم وخمدت ثورتهم وتفرقوا عائدين إلى دورهم في انتظار الابتهاج بإطلاق سراح مم وتزويجه من حبيبته زين.

.
 
الخديعة

لم يكد ذلك الشيخ يخرج من القصر حتى أخذ الأمير يفكر في الموضوع بجد... وقد بدا على تقاسيم وجهه وفي بريق عينيه الاهتمام الشديد بالأمر! وأخذ ذهنه يطوف حول إيجاد أي خدعة لأولئك الثائرين في وجهه.
أما الحديث الذي قاله للشيخ، فلم يكن شيء منه صادرا عن أعماق نفسه، وإنما أرسله مجاملة فقط.. لتخمد ثورتهم، ويرجعوا عما عزموا عليه من إثارة الفتنة والحرب. إذ كان يعلم أن قيام ثورة عليه من قبل تاج الدين وشقيقيه لن يكون في صالحه. لا سيما وإن لهم شيعة وأتباعا كثرا في الجزيرة ولذلك ألقى إليهم بهذا الوعد، ليلهيهم ويتراجعوا عما أجمعوا رأيهم عليه، بينما يصل هو في تفكيره إلى حيلة يسبقهم بها إلى تدبير الأمر كما يشاء، ويقطع بها عليهم طريق الثورة والقوة.
ودخل عليه الحاجب بكر، فألم بالقلق في نفسه، ولم يخف عليه - وقد كان يسمع إلى كل ما قاله الرسول وأجابه به الأمير - أن الأمير لم يكن مخلصا للرسول فيما قدمه إليه من وعود، وأنه يحوم بفكره حول أي وسيلة لإنقاذ الموقف، وحسم هذا الأمر...
فأخذ يقول وهو يتشاغل بتنظيم جوانب الديوان وإصلاحه:
’’ لقد كنت والله خائفا منذ أمد طويل أن ينتهز الفرصة هؤلاء القوم، ويتشبثوا بأي سبب مصطنع لإثارة الفتن والقلائل حول هذا القصر. وما مرادهم والله، كما علمت من أول الأمر، إلا أن يصلوا بصاحبهم تاج الدين إلى الحلم الذي لا يزال جاثما في أوهام رؤوسهم...!‘‘
ثم التفت إلى الأمير فقال:
’’ ولكن لا داعي إلى أن يحسب مولاي لهم كل هذا الشأن، وأن يعيرهم من نفسه القلق والاهتمام... ففي استطاعته إذا شاء أن يتخلص من كل من تاج الدين وشقيقيه بأيسر الطرق...
أما مم فإن الوسيلة إلى قتله أسهل ما يكون، ولن يكلف ذلك سوى أن يتظاهر مولاي لزين بأنه نادم.. وأنه عقد العزم على أن يعفو عن مم ويزوجها به. ثم يرسلها إلى زنزانة سجنه لتتولى هي بنفسها إطلاق سراحه، فقد علمت مولاي بأنه يعشقها عشقا شدشدا، وأغلب الظن أنه عندما يفاجأ برؤيتها بعد كل غيابه عنها وشوقه إليها واليأس الذي دب في نفسه، سيخر صريعا وقد فارقته الروح.
أما تاج الدين وشقيقاه فمن السهولة بمكان - إذا شاء مولاي وترك الأمر لي - أن أتقدم إليهم بكؤوس من الشراب المسموم...‘‘
ورغم أن الأمير كان يتظاهر كالمتشاغل عن حديثه، إلا أنه كان ملقيا إليه كل باله، يتتبع حديثه ورأيه باهتمام. فقد كان كل مراده أن يعثر في أقرب وقت على أي حل أو طريقة يتفادى بها ثورة تاج الدين وصحبه، دون أن ينزل عند طلبهم أو مرادهم .
على أد ذلك لم يمنعه من أن يتضايق من بكر وفظاظة طبعه الذي يأبى إلا أن يشرئب متطاولا إلى هذه الامور التي لا تعنيه في قليل أو كثير، فقد أصبح يتراءى لعينيه في وجهه الذي يظل متمسكنا في خبث، كلما لمحه، مصدر هذه الفتنة التي أخذت حيزا كبيرا من تفكيره، بقطع النظر عن أنه أكان صادقا ومخلصا له في إثارتها، أم مفتريا لا يهمه شيء سوى إيقاد نارها واحتراق الأبرياء في لظاها. وحسب هذا في الواقع حاملا للأمير على كراهيته والإشمئزاز من منظره وكلامه الذي لا يبعث إلا التشاؤم. بل ربما كان يدفعه هذا إلى أن يجازف بطرده رغم حاجته إلى حاجب في مثل خبثه ودهائه - لو لم يكن ذلك في هذا الوقت خاصة قد يثير لدى تاج الدين ظنونا بالأمير وبأن كل هذا الذي حدث إنما كان بمكر وافتراء من ذلك الحاجب الذي استطاع أن يغرر بالأمير ويخدعه.
ثم إنه لم يعلق شيئا على كلام بكر الذي ظل متشاغلا من حوله في انتظار أن يجيبه على رأيه الذي أبداه، بأي كلمة أكثر من أنه أمره بالخروج وإغلاق الباب، وبأن لا يدع أحدا يدخل عليه في ذلك اليوم.
وظل الأمير بياض نهاره ذلك لا يُرى إلا مختليا يفكر.. أما في الليل فقد استيد به الأرق، وظل أيضا ساردا في التفكير والإطراق.
أخذ يعرض على ذهنه إلى جانب ما علق برأسه من ذلك الرأي الذي أبداه بكر آراءً كثيرة، ولكن لم يكن من بينها أبدا فكرة العفو عن مم وتزويجه من أخته. إذ كان هذا بعيدا جدا خصوصا وقد تتابعت عليه عوامل جعلته كالمستحيل. فقد كان أول عامل هو ما بلغ الأمير أن تاج الدين راح يستعمل نفوذه الخاص في تزويحها من مم في الخفاء دون أن يعلمه بذلك، وهو العامل الذي ألهب غضبه إذ ذاك وجعله يقسم أن يحول دون تحقيق ذلك. والعامل الثاني هو ما شاع أخيرا بين الناس ونقله بكر إليه من غرام مم الشديد بأخته، ومن زائدات أخرى غير لائقة انتهت إلى مسامعه . والعامل الأخير الذي جعله اليوم يزداد قسوة وتمسكا برأيه، هو مجيء تاج الدين وقومه في هذه الثورة يطالبون بالعفو عن صاحبهم بالقوة والتهديد!
وأما رأي بكر فقد كان الأمير يحسب للاقدام على تحقيقه حسابا كبيرا، ولا يكاد يرى وسيلة معقولة إليه، إذ ليس من السهل أبدا القضاء على تاج الدين وشقيقيه بالسم مثلا كما يقول بكر، ولا يضمن أن تأتي النتيجة لذلك هادئة سليمة، سيما وإن من ورائهم شيعة وأتباعا سيتساءلون عن السر وسيظلون يبحثون عن الحقيقة التي لا يبعد أن تنكشف لهم أخيرا.
ثم أنها حيلة بشعة جدا، لا يصلح أن تصدر إلا من ماكر دنئ من أمثال بكر... وإن دلت على شيء من الأمير فإنما تدل على الجبن الذي يمنع من المجابهة والمبارزة وجها لوجه، وعلى أنه ليس في يديه من وسائل القوة إلا هذه الخدعة التي هي سلاح الجبناء والضعفاء، وما أبعدهما عن الأمير زين الدين من أن يكون كذلك، وأن ينزل عند شيء من هذا الضعف. وأما الخطوة الأولى من رأي بكر وهي ما رآه من وسيلة للتخلص من مم، فقد كان يطمئن إليها قلب الأمير، لو صح أن رؤيته لأخته على ذلك الشكل ستعدمه الحياة وتجعله يفارق الروح...! ولا شك أن الأمر إذا تم على هذا النحو فهي وسيلة محكمة تماما.. وهي الخطوة الأولى والأخيرة، وتنتهي المشكلة بعدها..
وعلى كل فإن الأمير لم يسلم عينيه للرقاد في تلك الليلة إلا بعد أن عقد العزم لحل هذه المشكلة على أمر...

.
 
النّدم
وفي صباح اليوم التالي كان الأمير قد اقتنع بجزء من مشورة بكر، ورأى أنه ليس هنالك، مبدئيا، ما هو أولى منها، فإذا لم تنتج الفائدة المتوفعة كان هنالك حينئذ مجال لرأي آخر. وراح ينفذ أولى خطوات تفكير ذلك الخبيث.
خرج من الديوان... وصعد متجها إلى غرفة أخته زين، تلك الغرفة التي غبر دهرا لم يدخلها أو يمر بها أو يكترث بمن فيها.
وانتهى إلى بابها المغلق.. فوقف عنده قليلا كأنما يستجمع هدوءه، ثم دفعه في رفق ودخل...
دخل.. فوجد نفسه في غرفة ساكنة واجمة، قد أغلق كل نوافذها وكُواها، فبدت مظلمة قاتمة. وأخذ يجيل النظر في أطرافها، إلا أن عينيه سرعان ما انصرفت إلى قامة فتاتة هبت مترنحة تحاول الوقوف والقيام على قدميها.
فدنا نحوها، وراح يقلب عينيه في شكلها الذاوي ومظهرها الباعث للرحمة والألم.. وهي واقفة أمامه في جهد، يتمايل بقوامها الضعف والهزال!
وأخذت نظراته كأنما تتسائل في تأثر واستغراب: أهذه هي أختي زين التي كنت أعرفها أروع ما تكون صحة وجسما، وأجمل ما تكون إشراقا وفتنة؟!
أكل ذلك انتهى منها وغاب.. وأنا لا أشعر..؟
ثم جلس إلى جانبها في هدوء. وأخذ يجيل نظره فيما حوله في صمت، وقد شعر بمعاني الأسى والحزن ممتدة إلى كل أطراف الغرفة وما فيها. وما ثم شيء من فرش والمقاعد التي من حولها والستر المسدلة أمامها، والحاجات المتفرقة إلى جوانبها، إلا وكأنما قد لمسه الحزن والكرب لمسة واضحة من أجل هذه البائسة المسكينة!
ثم عاد - وقد سرى أثر كبير من ذلك الحزن إلى نفسه أيضا - فالتفت إلى أخته، وقد أطرقت برأسها إلى الأرض في وجوم وذهول. فمد يمينه برفق إلى أسفل وجهها، ورفعه إلى سمت عينيه يتأمل شحوبه وذبول ملامحه.
والتقت عيناه بنظراتها.. نظرات كسيرة من عينين ذابلتين قرحهما الدمع، تشع نحوه في ارتجاف، كأنما تستعطفه قائلة:
’’ كيف هان عليك ياأخي... وأنا شقيقة قلبك أن تقسو علي كل هذا، وتباعد عن فمي كأس سعادتي وهنائي وتحطمها في الأرض؟
كيف استسغت يا أخي.. وأنا أختك التي طالما أسعدتني أفراحك.. أن تحرق ما كان لي من شباب.. في ضرام الشقاء والحرمان، وتتركني أتأوه في هذا القصر من غير راحم، وأستصرخ من غير مجيب؟!
ماذا جنيت يا أخي حتى عاقبتني بكلهذا؟
والله إني لم أطعم من حبي إلا العلقم الأليم. والله إني لم أخنك يوما ما في سر ولا جهر. والله إن روحي لم تدنسها أو تعلق بها أي شائبة مما قد تظن..‘‘
وما إن تلاقت عينا الأمير مع هذه النظرات، وتأمل ما كانت توحي به من هذا الاستعطاف حتى سرت رعشة من الرقة والرحمة في سائر مشاعره، وامتدت إلى سويداء قلبه، فنفضته نفضة أليمة تساقط منها كل ما تغلف به من قسوة وغضب وبدأ بخفق بالرحمة، ويجيش ندامة وحسرة. وقال وهو لا يكاد يملك عينيه:
لقد ظلمتك والله يا أختاه.. إي والله، ولقد قسوت عليك قسوة ما أظن أن أي توبة أو ندامة يمكن أن تغفر لي إثمها..!
ماذا دهاني يا زين...؟ وأين فقدت قلبي وكبدي، حتى فعلت بك كل هذا...؟
أكل هذا الضنى الذي على وجهك، والنحول والضعف الشديد في جسمك هو من آثارقسوتي...؟ قسوة أخيك الشقي التعس..؟ إن نار الندم يا زين تأكل قلبي.. إن ألم الحسرة ليشق كبدي.
تعالي.. يا شقيقتي.. حدثيني، أوَلا أستطيع اليوم أن أكفّر..؟ أوَلا أقدر أن أعود فأسعى لاسترجاع سعادتك وشباب جمالك..؟ أو لست أزال قادرا أن أتدارك الوقت..؟‘‘
وما كادت هذه الكلمات من الأمير تطرق سمع المسكينة التي طوت أيام عمرها في مكابدة البؤس وآلامه، دون أن يرق لها أو يكترث بها، حتى أدركت قلبها رقة شديدة لحالها، وقامت بين جوانحها عاصفة كبيرة من آلام وزفرات، وكان قد بلغ بها الضعف والرقة إلى حيث لم تعد تتحمل كل ذلك ، فاندفعت من صدرها موجة كبيرة من الدماء، وانطلقت من حلقها مرة واحدة متدفقة إلى الأرض، بينما راحت عي في غيبوبة كاملة عن نفسها وكل ما حولها.
فجن جنون الأمير من هذا المنظر الرهيب. وأخذ سعير الندامة والعطف الذي راح أوانه يكوي مشاعره ويأكل أحشاءه و قلبه. وفقد كل توازنه ووعيه. وجلس إلى جانب أخته الممتدة بين دمائها يصرخ ويبكي لاطما نفسه كالنساء.
وفي تلك الأثناء كانت قد وصلت ستي إلى القصر متجهة نحو غرفة أختها لعيادتها والبحث عن حالها وصحتها. وما إن وصلت إلى الباب حتى رأت منظرا رهيبا اقشعر منه بدنها وطار له صوابها...!
رأت أختها منطرحة من غير إحساس في لجة الدماء! ورأت الأمير جالسا إلى جانبها يبكي وينتحب..!
فثارت في وجهه قائلة - وقد أيقنت أنها الغضبة الأخيرة قد عصفت برأسه فقتلها:
’’ ماذا دهاك أيها الظالم...؟ ألم يشف غيظك كل ما أنزلته بهذه البائسة من ألوان العذاب حتى قتلتها وسفكت دمها، وقد كانت ماضية بحالها إلى طريق الفناء والموت..‘‘؟
فالتفت إليها الأمير وأجابها في كرب يكاد يخنقه:
’’ كفى يا أختاه... لا تزيدي في ناري. لست بقاتل، ولكنها غشية..‘‘
ثم جلست الأخت والأخ من حول شقيقتيهما يحاولان، وقد استبد بهما الجزع، إنعاشها وإيقاظها دون أي جدوى. ومرت ساعات... وتجمع حولهما كل من في القصر من الأهل والأقربين وراحوا يحاولون إحياءها بشتى الوسائل وطرق العلاج، دون أن يستفيدوا من أي نتيجة...

.
 
الوصيّة
مر اليوم... وغربت شمسه، وزين لاتزال على حالتها تلك منطرحة في غرفتها دون أي وعي ولا إحساس، رأسها في حجر أخيها الأمير الذي لا يكاد يفلته البكاء، والأهل والأقربون من حولها في حيرة وألم شديد. لا يدرون أهي غشية طال أمدها، أم هو الموت والقضاء الأخير قد أنزل بها! يجسون عروقها، ويتلمسون حركة قلبها، فتبدو حينا من الزمن وكأنها قطعة يابسة ليس في جهة منها أي حركة أو نبض، ثم يعود فيخفق منها القلب، ويضح صاعدا ونازلا في صدرها في ضعف وبطء، وإذ ذاك تتهلل أسارير الوجوه المطرقة من حولها قليلا، ويلبثون منتظرين رحمة إلهية تتداركها وتعيد إليها الروح والإحساس.
وبينما هم في تلك الاثناء إذ دخل أحد الغلمان مسرعا يقول للأمير:
’’ إن أحد حراس السجن جاء ليبلغ مولاي بأن مم في حالة تشبه النزع.. فبماذا يأمر؟؟ ‘‘
وما كاد اسم مم يتلى في ذلك الجو الذي كانت تمر به أنفاس زين الصامتة، حتى استنشقت منه الروح التي بعثتها من ذلك السبات الطويل، وسرت رعشة عامة في جسمها، وفتحت عينيها تنظر ما حولها...
رأت أمامها رقعة كبيرة من الدماء منبسطة في تلك الأرض، ووجدت غرفتها غاصة من حولها بسائر الأقارب والأصحاب وحرم القصر، يرمقونها بعيون ذارفة وملامح ملؤها الأسى والحزن! وأبصرت أخاها الأمير جالسا من فوقها يبكي كأنه الطفل..؟!
فاستوت جالسة في اتكاء، واستدارت بوجهها نحوه قائلة، وقد تغيرت ملامحها، وبدت على وجهها دلائل أحاسيس غريبة طارئة:
’’ أتبكي أيها الأمير في يوم فرحي وعرسي...؟!
أفي الوقت الذي تصبح فيه سببا لإسعادي أكون أنا سببا لبكائك وأحزانك..؟
لقد انطلقت روحي يا مولاي منذ اليوم إلى السعادة التي طالما انتظرتها، وبرح بها الشوق إليها، استطاعت أن تطير إليها بعد أن أوليتها الإذن.. ومنحتها الرضا... وتقدمت نحوها بالعطف...
في هذا اليوم انتهيتُ من سياحة طويلة قطعتها في خضم هذا الفناءالمائح ، بعد أن يبست في قطعه سائر أطرافي وجوارحي وكابدت من أمواجه وعواصفه شدةكادت أن تصرعني ...!
وعليّ الآن وقد انتهيت إلى الساحل أن أقف فيه قليلا، لأستروح. علي أن أقف هنا قليلا... قبل أن آخذ طريقي متجهة نحو الخلود الذي ينتظرني، لأودعكم.. وأستسمحكم.. ولأتلو عليكم وصيتي يا مولاي...‘‘
ثم أسندت رأسها إلى وسادة ورائها - وقد أخذت ملامح الحاضرين تتلون بالحزن والأسى ، واستولى الوجوم والإطراق على المكان - وراحت زين تحدث أخاها، وكأنها في حلم، قائلة:
’’ لا تأس.. يا شقيق قلبي وروحي...!
لا تبك علي... فدتك مئة أخت من أمثال زين.
لا تأس يا مولاي.. فقد تقبلت هذه الآلام والأسقام، منذ اخترت مم رفيقا لروحي. وقبل أن تمهرني الأقدار بالضنى والأحزان في سبيله ومن أجله. فالبؤس والهموم من أجل قلبي والسلطان والسعادة من قسمتك.
أميري.. لا تنازعني اليوم في شيء من نصيبي! فهي حصتي وأنا قانعة وراضية بها. عد أنت يا مولاي فاجلس على سرير سلطانك، وأمِلْ تاجك الدري على مفرق رأسك. أقم من حولك مجالس الطرب في تنظيمها الرائع، وأدر فيما بينها أفراح الزمان وأنسه. أسكر السادة والغلمان بشراب نعيمك، وليعد شباب اللهو والمرح مختالا في الشيوخ من جلسائك. هيئ على بساطك لذائذ الطعام والشراب، ونظم من حوله كل أسباب الصفو والهناء، وانثر بينه سائر أنواع العطور والمفرحات، واجمع لذلك الندامى والأصحاب، ولترقص بينهم البهجة بشتى ألوانها، ولتتمايل من فوق رؤوسهم الورود والأغصان.
فلقد استكملت يا مولاي في هذا اليوم روحانيتنا... وانتهت منا علائق الحيوانية والفناء، وأزيحت عما بيننا حجبها وأستارها... نعم سوف يتوارى هذا الجسم بعد قليل في ترابه، ولكن روحي لن يمنعها أي شيء من نعيمها ووصالها...
أميري... ولا تنس أن تقيم أفراحنا كاملة.. فكلانا وإن أصبح روحانيا في ذاته ولكننا لا نزال نطرب.. ونميل إلى الطيبات والأفراح.
أتذكر ذلك العرس البهيج الذي أقمته لأختي ورفيقها، وكيف أزدهرت هذه البلدة إذ ذاك ضياء وأنسا..؟ إنني آمل منك يا أخي أن توليني مثل تلك الرعاية في يوم عرسي أنا أيضا... مُرْ هذه الجزيرة أن تعود فتمتطي خيول المرح، وأرسل وراء رجالك وجندك، يقيموا الأفراح والمهرجانات، ولتعد نشوة الفرح والطرب تطوف بالرؤوس، ولتتزين ثانية جميع الميادين والأزقة والأسواق.
أخي... ولقد ضاق الوقت، فلتحسن إلي في المبادرة بتدارك الجهاز وتهيئته، فلا بد من إعداده، لكي يلتحق ، منذ الآن.
أتذكر يا مولاي صرح ستي.. ذلكم الصرح الرائع المتألق...؟
إنني أحتاج إلى تابوت في مثل بهائه وتألقه... أريده من أفخر أنواع الأبينوس.. الأبينوس المنقوش وليكن غطاؤه في مثل روعته وأبهته، مزدانا ومرصعا بوشي الذهب والفضة. ولتكن مظاهر الإحتفال والبهجة كاملة من حوله.
أخي، أتضرع إليك أن تحقق هذا كما أقول، لاتدعني في يوم فرحي ممتهنة أمام الأنظار. لا يقولن الناس إذ يتوسطون المقبرة في تحسر وألم: كم كان عرس ستي يوما مشرقا من الدهر، وكم كان طالع زين أسود حالكا منذ الأزل...!
ثم دع شقيقتي يا مولاي هي التي تتولى تزييني وغسلي، وتكون في رفقة نعشي وتوديعه. أما مم فاترك له وفّيه المخلص هو الذي يغسله كما يشاء ويصاحبه إلى مقره الأخير..‘‘

.
وسكتت قليلا كأنما تستروح من إعياء .
ثم تابعت حديثها تقول :
’’ فاذا كان بعد ذلك ، فأتم إحسانك لي يا سيدي ، وليمر عام كامل تطعم فيهالبطون الجائعة وتكسو الأجسام العارية . اجمع حولك الفقراء والماكسن لتغنيهم وترأفبهم . ابحث عن التعساء والأشقياء لتواسيهم وتسعدهم . امسح يا أخي بعطفك دموعالبائسين ، وفرج بمعروفك عن قلوب المكروبين . أطلق يد الأسرى والمسجونين ، وفك يدالظلام عن الضعفاء والمظلومين . أسرج بشيء من نعمتك طوايا النفوس المظلمة ، وادخلبلطفك القلوب الكبيرة . تدان إلى المفجوعين والمنكوبين لتؤنسهم ، وقربهم إلى مجلسكوسعادتك لتسري عن همومهم وأحزانهم . ابحث في طوايا الليل عن السادرين والباكين فيظلماته ، وفتش مع الشمس عن الهائمين في الفلوات ، الهاربين بآلامهم إلى الآكاموالتلال ، فداو آلامهم وآس جراحهم بكل ما يمتد إليه طوقك وتصل إليه قدرتك .
ولاتنس يا سيدي أن تقوم بكل هذا على نيتي ، وأن تصرفه من حساب جهازي دون أن تقسم شيئامن كلامي إلى حقيقة ومجاز .
ثم أتوسل إليك بعد هذا في تنفيذ آخر سطر من وصيتي يامولاي ، وهو أن لا تدع أي حاجز يقوم بيني وبين ممو في مقرنا الأخير . دعنا هناك ياأخي ، تنعانق في قبر واحد سعيدين منعمين ، تتلامس منا الأبدان التي أحرقها الحرمانوأذابها الشوق والفراق .
أطلت عليك يا سيدي .. ولكن عذري أن الطريق أمامي طويل ،وحفرتي ، بعدت عنك ، بعيدة الغور ، ويوم الفراق قريب ...‘‘
وهنا استبد الجزعوالحزن بالحاضرين الذي كانوا يسمعون كلامها في ذهول وإطراق ، وتعالت الأصوات واشتدالنحيب ، ولم تبق عين إلا انهمرت بوابل من الدموع . وتقدم منها الأمير باكيا ، ضمهاإليه وقبل رأسها قائلا :
’’ أقسم لك يا شقيقتي - وأنا أخوك الذي قسا ولم يرحم - أنني سأكفر عن ذنبي بكلما استطيع . سأقدم روحي ثمنا لجمعكما وسعادتكما . لن أدعوالله أي شيء يفرق بينكما لا في الحياة ولا من بعدها ..‘‘
ثم تذكر ممو وحاله فيالسجن ، فكفكف دموعه والتفت إلى من حوله قائلا :
’’ ولكن عليكم الآن أن تبادروامسرعين إلى السجن لتروا ممو ولتكن معكم زين ، فأنا واثقبأنه ليس بنزع .. ولكنهاغشية أو ألم قد انتابه ، وسيسري عنه حينما تتلطفون له في إدخال البشرى إلى قلبهرويدا رويدا وإخراجه من ذلك المكان ..‘‘


.
 
اللقاء الأخير
ساءت الحال بزين في تلك الليلة أكثر من ذي قبل بكثير، فقد كان لتلك الغشية الطويلة التي انتابتها، وتلك الدفقة الكبيرة من الدماء التي اندفعت من صدرها أثر كبير في إبادة بقية ما تحتفظ به في جسمها من طاقة واحتمال.
ولكنها على الرغم من ذلك تحاملت على نفسها عندما سمعت من الأمير الإذن بإطلاق سراح مم والأمر لمن حوله بالذهاب إليه وبالإسراع بإخراجه. فقامت، فتزينت، وأصلحت من شأنها، ثم امتطت جوادا وخرجت مع ذلك الجمع، يؤمون في تلك الليلة سجن مم... وكان فيهم اختها ستي، وبعض من الاهل والأقربين، وبعض خدم القصر وفتياته، وقد حمل الجميع في أيديهم شموعا لتنير لهم الطريق.
وانتهوا إلى باب السجن المغلق.. وبادر الحارس الخاص ففتح لهم الباب.. وهناك تأخرت عنهم زين لكي لا يفاجأ مم برؤيتها، بينما أخذ الباقون يدخلون، الواحد تلو الآخر في وجوم ورهبة.. إلى أن وصلوا إلى الدرج الذي يهبط إلى مقر مم، فنزلوا فيه. والشموع بأيديهم تبدد من حولهم الظلام، وقد ساد الصمت والرهبة، فلا يسمع إلا وقع الأقدام المتلاحقة على ذلك الدرج. ثم انتهوا إلى مكان مم، وقد بدا كالكهف الأصم ساكنا خاشعا تموج الوحشة في سائر جهاته وأطرافه.
وراحت أعينهم تجول في المكان.. وإذ بمم ملقى فوق بساط رث مهلهل ظهر أنه قد اتخذه مصلاة له، لا يتراءى فيه أي أثر لإحساس أو روح، وقد رق كل شيء منه حتى العظم، وانطوت منه الملامح والهيئة التي كانوا يعرفونها، وعاد كتلة من عظام رقيقة بارزة، في غشاء من الجلد المتغضن!
والتفوا يسألون حارسه الخاص عن شأنه فأجاب بأنه رآه على هذه الحالة منذ الصباح الباكر عندما أتاه بطعام الإفطار ولم يستطع أن يعرف لذلك سببا سوى أن بعض من في جواره من المسجونين حدثوه بأنهم شعروا قبل ذلك بأحوال غريبة من حوله، ولمحوا ضياء كبيرا يسطع من زنزانته قبيل الفجر..!
ولم يفدهم أي شيء من المحايلة وأنواع المنبهات والعلاج في بعثه من تلك الرقدة التي لم يكونوا ليعرفوا أهي إغماءة قد انتابته أم هي الرقدة الأخيرة والموت. وحينئذ جاءت زين فتقدمت نحوه، جاءت لتقف أمامه وتحدثه.. ولكنها لم تتمالك ذلك إذ رأته، وسرعان ما ارتمت عليه، وراحت تهتف باسمه في جزع شديد، وتبلل وجهه بدموعها الغزيرة.
هناك.. دب الشعور إلى مم، وتفتحت عيناه، وأخذتا تطوفان بالحاضرين في حركة باردة بطيئة.. تدل دلالة واضحة على أن الوقت قد فات.. وانكمش جسمه، وراح يحاول الجلوس.. ثم استدار نحو القبلة دون أن يكلم أحدا، وهوى ساجدا..! بينما أخذ الجميع ينظرون إليه واجمين، في حزن وألم.
وبعد فينة رفع رأسه.. واستدار بوجهه نحو زين ينظر إليها في ذهول وصمت.. وفجأة.. دب شيء من الأمل في نفوس الحاضرين فقد أخذ يتكلم..!
قال لزين بصوت خافت متقطع، وعيناه تزيغان في وجهها:
’’ لقد كنتِ لي نعم الدليل ‘‘
فأجابت: ’’ لقد كنتَ لي نعم الخليل..‘‘
فقال: ’’ أنتِ نعم السبيل إلى ربّي..‘‘
فأجابت: ’’ أنتَ نعم السراج لروحي..‘‘
فقال: ’’ أنتِ نور فؤادي..‘‘
فأجابت: ’’ أنتَ إنسان عيني...‘‘
فقال: ’’ أنتِ سلطان روحي..‘‘
فأجابت: ’’ أنت قبلة نفسي ..‘‘
وهنا انتبه أولئك الذين يسمعون منهما هذه المناجاة إلى أن مم لم يعد يملك وعيه، وأنه أخذ يغيب عن نفسه، فدنت منه ستي وقاطعتهما قائلة:
’’ لقد جئناك يا مم لننقذك من هذا الذي أنت فيه، لا لكي تتمادى في ذهولك وجنونك ّ إن الأمير الذي كان قد غضب عليك داخلته اليوم رحمة من أجلك، وقد أرسلنا لإخراجك وتحقيق مرادنا. إن زينا التي جننت بها قد سعت إليك وها هي ذي واقفة أمامك كما تشتهي وتريد. إن الأمنية التي طالما تأملتها وغبرت شبابك في الحنين إليها قد أقبلت إليك، إن الناس كلهم اليوم في فرح من أجلك ينتظرون خروجك إليهم ليستقبلوك ويهنئوك.
فقم.. قم يا مم لا يغلبنك هذا الهوى فتجن فيه، لا يصرعنك، من غير داع، أمواج هذا الشوق فتغرق في عبابه. لا تذهب بقية عمرك في هذا الجنون بددا. لا تبعروحك اليوم رخيصة وقد تدانت إليها سعادتها. أعد إليك رشدك الذي طال معه خصامك، وانفض عن رأسك هذا الجنون الذي طال بك تشبثه.
قم لنذهب معا إلى الأمير.. فستراه اليوم ذا كرم وأفضال، لقد هيأ من أجلك أسباب المسرة والأفراح، وجمع لك الأحبة والأصحاب، ولقد مذَ لك في قصره بساط السعادة في انتظار قدومك ليهنئك بزين، وليقيم لأفراحكما الليالي والأعراس..‘‘
ففتح عينيه قليلا وكأنما عاد إليه شيء من صوابه، وراح يميل رأسه يمنة ويسرى قائلا:
’’ لا.. أنا لا أذهب إلى أي أمير، أنا لا أقف بباب اي حاكم أو وزير، أنا لا أكون غلاما لأي عبد أو أسير. من هو هذا الأمير الذي لا يملك حياته، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه الفناء، أو أن يضمن لعرشه البقاء؟! أنا لا تغرني الشعبذة الكاذبة، ولا يبهرني بريق الخيال الفاني.
لقد انطلقنا إلى باب مولى السادة والعبيد، واستقبلتنا رحاب سلطان الحكام والأمراء، إنه السلطان الذي لا يفرق عدله بين غني وفقير وأمير وحقير. إنه مولى القلوب الكسيرة وولي النفوس الحزينة. لقد عقد هو بيننا بيمين لطفه، وأقام أفراحنا في رحاب قدسه.
فمعاذ الله أن نهبط اليوم إلى أكواخ الفناء، أو نولي وجهنا شطرالعبيد والأمراء، معاذ الله أن نقيم عرسنا إلا في تلك الرحاب التي تنتظرنا، وحاشا أن يجمعنا إلا مولى قلوبنا وخالق أرواحنا.
ها هو ذا... لقد زين من أجلنا جنان روضاته، وجمع لنا في جنباتها قدومنا، ويستعدون للقائنا. إن هنالك الميعاد الأكبر لنا في ظل رحمته رحيق حبنا، وسيسعدنا إذ ذاك مجتمعين برؤية وجهه.. سينسينا ما ذاقناه من أوصاب هذه الدنيا وآلامها، وسيسمح عن وجهينا قتام الدموع والزفرات، وسيجبر كسرنا، ويمحو بؤسنا.
واشوقاه واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود...‘‘
وهنا سكت وأغمض عينيه. وكما يسرع فيطير من قفصه ذلك الطائر الأهوج الصغير الذي لا يفتأ مضطربا يترامى بجناحيه في جنباته، إذ تمتد نحو بابه المغلق فتفتحه - أسرعت تلك الروح مغادرة ذلك القفص العظمي الذي طالما ظلت معذبة فيه وانطلقت تعلو إلى عليائها.. وكأن لم يكن شيء.
فإنقلبت تلك الزنزانة إلى مأتم يتعالى فيه النحاب والعويل وارتمت زين على أرض ذلك المكان وقد خار كل قواها. وذهب الخبر في الساعة نفسها ينتشر في الجزيرة عن طريق بعض الحراس الذين أسرعوا ليخبروا الأمير، قالوا فلم تبق دار إلا وانتشر فيها الحزن والكرب. وسهرت الجزيرة تلك الليلة بعين دامعة قريحة. وأسرع تاج الدين فخرج من داره ثائرا كالمجنون يتخبط مستعجلا قاصدا السجن الذي يضم خليله.
وفي الطريق لمحت عيناه ’’ بكرا ‘‘ واقفا بين جمع من الناس على مقربة من القصر. فارتمى إليه كالسهم، ولببه من خناقه بجمع يده، وأخذ يصعق فيه والحنق مكتظ في وجهه، وعيناه ترسلان إليه نظرات كالجمر، قائلا:
’’ أيها الإبليس المزور في لباس إنسان، أيها الثعبان الذي لم ينفث حلقه إلا نار الفتنة والدمار. وقفت أصلب باب مغلق بين هذين المسكينين البريئين، عشت أبلغ كيّ فوق جراحهما الداميين، حرمت قلبيهما من نصيب هنائهما في الدنيا وحرمتني من إنسان عيني الذي ألفه البصر وفؤادي!
أيها الكلب العقور، ما وقوفك اليوم على ظهر الأرض بعد أن غيبت خليلي في باطنها؟!‘‘
ثم رفعه بكلتا يديه، فلوح به من فوق رأسه، ثم طوح به في الأرض، فارتطم بها دماغه. فكانت القاضية..
وتركه ملقى هناك. وأخذ يتابع طريقه إلى أن وصل السجن حيث راح مندفعا في ثورة جامحة يخترق زحام الناس واجتماعهم ، دون أن ينظر في وجه أحد، إلى أن انتهى إلى جثمان صديقه الذي كان مسجى في مكانه كما هو، فألقى عنه الغطاء وارتمى عليه كطفل صغير إذ يهوي في أحضان أمه.. أمه التي لم يعد فيها لأي إحساس أو حياة. فبكى ما وسع عينيه البكاء! وانتحب ما استطاع حلقه النحيب.. ثم عاد وقد ازدادت ثورة أعصابه، وتألقت عيناه فياحمرار مرعب... وأخذ يرمي كل شيء من حوله بنظرات ثائرة ويتخيل كل من يراه أو تلقاه سببا في هلاك مم وموته. والتفت إلى الحراس الذين كانوا واقفين من حوله يصعق فيهم، قائلا، وقد وقف في بابا الزنزانة والشرر يتطاير من عينيه...
’’ أقتلتموه أيها الأوغاد...؟ قتلتموه، أليس كذلك. ولكن.. ولكني سوف أنتقم.. سأنتقم منكم أيها الأنذال..
سأهدم اليوم هذا السجن.. سأقوض أركانه، وأجعله قبرا لذلك الأمير الذي بناه. أين أنت أيها الأمير..؟ بل أين أنت أيها الجبان الذي خدعتني وقتلت خليلي. تعال لأنتقم منك، لا بل سآتي أليك في قصرك لأجندلك منه صريعا!‘‘
وما لبثت هذه الكلمات النارية من الهذيان أن أحالت أمره إلى ما يشبه الجنون، وراحت يده تمتدان إلى محاولة إهلاك كل من يراه أمام عينيه ممن يتخيل إليه أنه قاتل صديقه مم، لولا أن الأمير بلغه ذلك فأمر بتقييده وحبسه في مكان ما إلى اليوم التالي. وهكذا مرت تلك الليلة على أهل الجزيرة في جزع شديد وحزن أليم. بينما ظل تاج الدين ساهرا في السجن إلى جوار صديقه الراحل يقطع الحزن والبكاء فؤاده.
أما زين فقد استطحبتها ستي إلى دارها وقد خارت كل قواها وتحملها، حيث سهرت مع جمع من الأهل من حولها يواسونها ويرأفون بقلبها إلى الصباح.

.
 
النِّهاية
أشرقت شمس اليوم التالي على جزيرة بوطان، وقد عمها قتام من الحزن والكرب، ودب في سائر نواحيها وأسواقها الوجوم والكمد وكأنما تقلصت أشعتها فلم تعد تستطيع أن تبعث في جهاتها الرونق والبهاء الكاملين. حتى ذلك القصر المتألق الذي كان يصافح بهاؤه الشمس أول ما تبرز، لقد سطعت عليه في ذلك اليوم وهو كامد، يذرف دموعا غزيرة علّها تطفئ نار ندمه وحسرته ولكن دون جدوى.
وبعد قليل كانت قد امتلأت الطريق التي بين المقبرة ودار مم بمعظم أهل الجزيرة من نساء ورجال وولدان لتوديعهم قيدهم البائس وتشييع جنازته.
وكان موكبا غاية في الامتداد والضخامة، تماما كذلك الموكب العظيم الذي امتد في أسواق الجزيرة يوم عرس تاج الدين، ولكنه اليوم موكب أغبر قاتم لا تجد فيه بسمه أو فرحة عين. إنما هو الدموع والبكاء الذي لا ينقطع، والعويل والصراخ الذي يتعالى من سائر أطراف الأسواق ونوافذ البيوت.
وانتهى الموكب إلى المقبرة، وكانت في رابية كبيرة من الروابي التي تحيط بالبلدة. فانبسطت فوقها الجموع من الناس، وغطاهم سوادهم الكثيف. وازداد هنالك شعورهم بمعنى الموت والفناء وأخذت تلوح لأعينهم الحقيقة الراهبة الجاثمة من وراء خداع هذا الدهر وأوهامه، وامتزج ذلك الشعور منهم بالحزن الذي كان قد استولى على افئدتهم للنهاية التي لاقاها مم بعد كل عذابه وحرمانه، فقامت فوق تلك الرابية مناحة رهيبة عمت الرجال والنساء وانجرف في تيارها الكبار والصغار. وظهرت زين بين تلك الحشود بقامتها الفارعة ووجهها البادي لأول مرة وانطلقت مندفعة في ثورة كالجنون نحو الحفرة التي وري فيها مم وأخذوا يهيلون فيها التراب. ولكن بعض ذويها عرقل عليها عجلتها وسيرتها خشية أن تلقي بنفسها هناك أو يحدث لها أي أمر فوصلت إليها وقد طمرها التراب وسوي من فوق القبر، فانهارت عندئذ قواها وارتمت فوق ذلك الجدث تسكب دموعها فوق ترابه وتحدث من فيه قائلة:
’’ أيها المالك لجسمي وروحي.. أيها الراحل...!
يا من تركت بستانك ومضيت، هاهو ذا بستانك، وقد أينع وأثمر، باقيا من غير راع وصاحب. فقل لي من ذا يجنيه اليوم من بعدك ويجوب فيه..؟ وما بقاء ثمره ونضرته بعد أن غادرته ونفضت يديك منه؟ صحيح أن منظره بديع، وظله وارف وجميل، وثماره شهية يانعة، ولكنها اليوم والله حرام لغير وجهك.
لن أدع غير ريح الردى تجوب في خلاله، ولن أترك سوى يد الهلاك والتلف تعصف بثماره، سأهز جذع هذه النخلة فليتساقط جناها على الأرض، وسأبدد ثمار هذه الأغصان والكروم فلتذر في مهب الرياح، سأقوض جذوع هذه الأشجار النضرة وأفتت أوراق هذه الورود العطرة.
هاتان العينان اللتان أعجبك سحرهما وجمالهما، سأطفئ اليوم منهما هذا السحروالجمال. هذا القوام الذي أسكرك حسنه واعتداله سأحطم اليوم فيه هذا الحسن والاعتدال وسأريق الخمر التي كانت تعربد وتسكر. هذه الوجنات والشفاه، هذه الأصداغ والشعور، سأمحق من كل ذلك الفتنة التي سلبتك، سأذرو على جميعه التراب والرماد، وسأمرغه بالضنى والسواد! فلقد كان جميعه نذرا لعينيك ووقفا لبصرك. أما وقد أغمضت عينيك، فلن؟ أدع أي عين أخرى ترمقه وتتمتع به.
ولكن...
ولكن لا...! إن هذا تدخل فيما ليس من ملكي وشأني... إنني أخشى أن تعتب علي في تصرفي بملكي الذي اأتمنتني عليه وأنك تحب استلام أمانتك كما عرفتها وملكتها...
أولى بي إذاً أن أطوي هذا البساط كما هو، وأن أسلمك الأمانة كما تركتها وأن أقوض إليك جسمي بكل زينته ورونقه...‘‘
ثم انكبت على القبر تعانقه وتتمرغ بترابه، فأسرع إليها القوم الذين من حولها لينهضوا بها ويواسوا حزنها... ولكن أيديهم لم تقع إلا على جثة باردة جف منها آخر قطرة من الحياة...!
هنالك عادت أصوات العويل والنحيب مرتفعة من جديد، وطار الجزع والكرب بفؤاد الحاضرين كلهم، وألقى الأمير نفسه على جثمانها وقد عدم وعيه ورشده، يسترحم الأقدار أن تتراجع ولكن الأقدار لا ترحم ولا تجيب ولا تعود...!
ثم إنهم جهزوها وشيعوها كما أوصت وأرادت، وعادوا ففتحوا قبرمم. وجاء الأمير يحمل أخته وعيناه تذرفان، فنزل إلى القبر ومدها إلى جواره قائلا:
’’ خذ حبيبتك يا مم التي حجبتُها عنك حيا، ولتسامحني في قسوتي عليك في الدنيا، وفي جنايتي الكبرى على قلبك، فلقد عاقبتني الأقدار بأكثر مما تريد... لقد عاقبتني بأبلغ كيّ من الندم في قلبي لن يندمل ما بقيت حيا..‘‘
وهكذا حكم الدهر ألا يجتمع ذانك الحبيبان إلا في ظلمات تلك الحفرة.. وأن يتوارى أخيرا ذانك الكوكبان في برج واحد.
أما بكر فالغريب أنه دفن هو الآخر قريبا منهما بل عند قدميهما مباشرة! قالوا والسبب في ذلك، وفي أن يلازمهما حتى فيما بعد الممات أيضا، هو أن زينا حينما سمعت بنبأ قتل تاج الدين له اغتمّت لذلك وتألمت ألما شديدا.
وقالت إنه لم يكن يتحق شيئا من العقاب، ولكن الأقدار هي التي سخرته لهما ليصفو حبهما هذا الصفاء الروحي، ولتسمو نفس كل منهما إلى ما فوق مظاهر المادة وبرجها.
ثم أوصت بأن يدفن قريبا منهما قائلة: إنه سيكون حاجبا مخلصا لنا في دارنا الآخرى...!
وهذان القبران معروفان في جزيرة بوطان إلى اليوم، يستطيع كل من أراد أن يشاهدهما...
والعجيب أن قبر مم وزين يظل محاطا بسور من ظلال الأشجار والورود، أما قبر بكر فلا تكاد تبارحه الأشواك التي تعلوه في غزارة.

.
 
خاتمة واعتبارْ

أي رب :
أسألك بيحموم عشق المعذبين، وبكمال صدق العاشقين...
أسألك بحلاوة الجمال ونشوته، وبعظمة الجلال ودهشته...
أسألك بداء الهجر وعذابه، وبشهد الوصال ولذة شرابه...
أسألك بلذة حي العاشقين، وبمرارة عداوة الرقباء والكائدين...
أسألك بماء عيون البلابل والأطيار، وبالندى المتساقط على الورود والأزهار...
أسألك بما خلّفته ممو من وجد وزفرات، وبما أسالته زين من دموع وحسرات...
أسألك بكل ذلك يا مولاي أن تزيح عن عينيّ غشاوة هذه الظلال الفانية حتى لا أرى فوق صفحة الدنيا إلا قوة سلطانك، ولكي لا أبصر في زجاجة مرآتها إلا رونق جمالك، ولكي أسكر بالخمر نفسها، لا بلون الكأس التي تترقرق فيها...
أي رب:
لقد آمنت بقوتك وجبروتك، وأيقنت بنورك وبهائك. آمنت أن هذا الكون كله جسم وأنت روحه، وأن هذا الوجود حقيقة أنت سرها...
أنت حسن زينة الأحبة والعشاق، وإلى جمالك ميل قلوبهم وهوى أفئدتهم وأبصارهم...
أنت خلقت في الشهد حلاوته وطعمه، وأنت الذي أوجدت في الدمع حرقته ولذعه...
القلوب... أنت الذي ألهبتها بتأثير من عظمة جلالك...
أشجار السرو الشاهقة، أنت الذي خلقت في قامتها هذه البساقة والاعتدال...
الورود الناعمة الحمراء، أنت الذي أبدعت أكمامها من بين الأشواك القاسية الدامية...
البلابل والأطيار، أنت الذي ابتليت قلوبها الصغيرة بحسن تلك الورود وجمالها...
تلون الأزهار وخضرة الأغصان، أنت الذي بثثت فيما بينها روح الفتنة والجمال...
صوت الهزار والعنادل، أنت الذي أكسبته معنى الطرب والانسجام...
كَحَلُ الأهداب الناعسة، وسواد العيون المتألقة الباسمة، وتهدل الشعور والتواؤها من حول الوجوه وفوق الأكتاف، كل ذلك أقل من أن يغتي هذا السحر الذي يأخذ بالألباب لو لم تكن قد أمددته بفيض من كنه حسنك.
عكست، يا مولاي، آيات عظمتك وسلطانك ومظاهر حسنك وجمالك على صفحة الكون الفانية، وأذهلته القوالب والأشكال عن ملاحظة السر الرهيب دون أن ينتبه إلى حقيقة الشمس التي تسطع فيها، وعاش مشغوفا مفتونا بذلك الببغاء وحديثه الآلي دون أن يلتفت إلى المصدر الأسمى الذي يخلق هذا الكلام في شفتيه.
ومنهم من فتح عينيه ليستعيض عن الحلم الكاذب بالحقيقة الرائعة الجاثمة بين يديه، وانشغل عن الصدى ليستمتع بالصوت الذي سيري من حوله، واستدبر المرآة ليرى حقيقة الشمس التي تسطع أمامه، ثم خرّ ساجدا لإله الجمال في الكون، وخالق النشوة في الخمر، ومبدع الرائحة في العطر!

أيها الساقي:
إنني أبغى الوصول إلى سدة ذاك الجمال.. إنني أريد كأسا من شراب ذلك القدس. فتعال فانشلني من بن هذا القتام إلى هناك.
تعال ويحك حدثني.. حدثني فإن غبش هذا السكر لا يزال متدجيا أمام عيني، ولقد كاد أن يخنقني.
حدثني ماذا ترى في هذا الكون؟ قل لي، أهو خيال يسري، أم هو حلم نحن الذين نسري فيه...؟ ثم أنبأني إلى متى تظل عيناي معتصبتين بخمرك وكيف لي بأن ينتفض عقلي من غشاوة هذا الذهول بكؤوسك؟ فلقد سأمت والله واحترقت، وما أحوجني إلى أن أتنفس عن هذا الحلم الضارب أطنابه علي لأبصر بعينيّ التي طال شوقي إلى رؤيتها والنتهاء إليها.
إنني أشعر أيها الساقي، من وراء هذه الأوهام والخيالات التي من حولي بأسرار كثيرة ولكني لا أكاد أهتدي إليها، وإنه ليتألق أمام عيني بين الفينة والأخرى بريق لامع، يسطع من خلف هذا الضباب ولكن لا أستطيع اختراققه للوصول إليه، وإنه لينتهي إلى سمعي من بين لغط هذا الكون وضجيجه صوت من السماء ما أروعه وأسماه! ولكني لا أكاد من هذا الضجيج أتبينه...
يا إلهي: مزق أمام عيني هذه الحجب المسدلة حتى أراك...
يا إلهي: إقشع من حولي بصيرتي خمار هذه الدنيا وسكرتها حتى أهتدي إلى عظمتك التي تسير وتنفخ فيها الوجود والحياة...
يا إلهي: أزح من أمامي صور الجمال الخالد.. جمال ذاتك التي أشرقت بها الدنيا وما فيها...
يا إلهي: لا تحرم قلبي إذ يختفي وجيبه وتسكن دقاته من نصيب وافر من العشق والتعلق بهذا الجمال الباقي والسر العظيم...


.
 
الفصل الأخير: مناجاة مع القلم

أيها الفارس الهائم في فلاة القرطاس، متنكسا لمحو إشراقه، مغرما بتسويد بياضه. حسبك ما سجلته من أخطاء، وكفاك ما سودت من صفحات، فقد آن لصريرك أن يهدأ، وآن لك أن تعتدل و تترجل .
لقد أكثرت، أيها الراكب الأغبر المسنون، من تقبيح هذه الصفحات الناصعة بسوادك، ولقد بالغت في تشوه وجها بالخطوط والخيلان ورسوم,, الباء ‘‘ و’’ الدال ‘‘. والخطوط مهما لطفت في دقتها أو جملت في نسخها ورونقها، فإن من القبح أن يكثر رصفها، ويعمّ على وجه القراطيس سوادها. ألم تر إلى الغَُرر، كيف تغدو رائعة إذ تكون نتفا قليلة توحي بالفتنة وتعبر عما حولها من إشراق، وكم تكون قبيحة إذ تعم الجبهة طولا وعرضا، وتمتد من فوقها كامتداد الزمام...؟
أما الكلمات ومعانيها، فمهما تعالت في الرتبة إلى مصاف الجواهر والدرّ، فإن الإكثار جدير بإنزالها إلى حضيض اللغو الذي لا قيمة له. ألم تر أن الدرّ إنما سمت قيمته لفقدانه، وأن اللؤلؤ إنما زها بريقه في الأبصار لبعد مناله؟
على أنك كم نفثت بين ذلك من خلط وأخطاء.. وكم تجاوزت به إلى الألوان من السهو والعصيان، حررتها بلا روية وسجلتها من غير تأمل!.. فقل لي، من ذا يتولى اليوم مدحه وتحسينه، بل من الذي يتحمل كل ذلك ممن يراه...؟
أيها العود الأجوف الرقيق:
ماذا أفدتني إذا بريت منك هذا الرأس قلما سوى أخطاء رقمها منك هذا اللسان...؟
ماذا تركت لي فوق هذه الصفحات إلا آثارا من نشوة العصيان ونقوشا من ذكريات اللهو والآثام...؟
حسبك.. حسبك انصرافا إلى تسجيل ما تمليه عليك الأهواء، وكفاك انهماكا في مظاهر اللهو والألعاب. فلقد آن أن تقلع عن كل ذلك تائبا نادما، وآن أن تتبين طريق الحق لتسلكه مستغفرا باكيا، وإلا فالنوبة من ورائك لاحقة بك، ولعلها تفجؤك عما قريب، فلا تفيدك حينئذ اليقظة والانتباه.

ولكن القلم ما إن طرق سمعه هذا الكلام حتى هبّ ثائرا، فامتطى صهوة الأنامل وقد سلّ لسانا كالسيف يقارعني به قائلا:
أي أحمد :
لو لم تكن أنت ذلك الخبيث الذي تصف، لما برّأت نفسك عن إثم أنت صاحبه لتلصقه ببرائتي وضعفي، ولعلمت أنني لم أكتب إلا الذي قلته، ولم أرسم إلا ما تصورته. فالقول قولك حقا كان أم باطلا، والفعل فعلك خطأ كان أم صوابا.
أيها المتصرف فيما تتهمني به:
إنك لتعلم أنني كنت عدما في طوايا التراب، ثم أنبتتي الأقدار قصبا في عالم الرياض والبساتين، تتمايل النسمات بقوامي الفارع يمنة ويسرة، ليس لي صرير أسجل به قولا ولا صفير أبعث به لحنا. ثم عمدت إليّ فأبعدتني عن الأهل والأوطان واقتلعتني من بين الرفقة والأصحاب. فاتخذت مني قسما لتسجيل أقوالك.. واخترت قسما آخر لتصوير طربك وآلامك. نقلتني من بين روضتي ووطني إلى رياض الشوق والهجران، وثقبت جهات من جسمي بكّ العشق والآلام. ثم رحت تنفخ فيه روحا من أنفاسك ألهبت مني الكبد والجوانح، فكان كل بكائي من تعذيبك وإحراقك، وكان جميع آهاتي لنفخك وأنفاسك.
أنا جماد ضعيف أبكم ليس لي لسان، وقصب يابس لا يتأتى مني أي نطق أو بيان، ولكن أنت الذي اتخذتني إصبعا سادسا بين بنانك، وأنت الذي جملت بي مجالس طربك وألحانك، وأنت الذي سوّدت بس صحائف لهوك وعصيانك. وإلا فمنذا الذي سمع بأن الناي ينطق من غير نافخ، أو أن القلم ينقش من غير كاتب...؟

أي رب:
إنك لتعلم أن ’’ الخاني ‘‘ الضعيف إنما هو في قبضتك مثل هذا القلم المقيد المعذور . قلبه في يدك، وجوارحه ملك لتصرفك.. أنت الآمر القوي وهو المأمور الضعيف. أنت المالك الغني وهو المملوك الفقير. ولئن كنت قد منحته يا مولاي في شؤونه بعض تصرف أو اختيار، فلقد فوض ذلك أيضا إليك ، وتجرد من كل اختياره وتصرفه لسلطانك وأمرك. فهو بكل ما أوليته - سواء كان علما أم قلما أم عملا - ملك لأمرك ووقف لتصرفك وإرادتك. وهو وحقك يا مولاي لا يفرق بين نفع له وضر، ولا يملك لنفسه سعيا إلى خير أو تجنبا عن شر...
وهو على كل ما لطخه من صفحات كثيرة بمداد القبائح والآثام، ليس له دونك من غرض أو قصد، وليس له بغيرك أي طاقة أو حول...
كل ما سطرته يا إلهي من أول سطر في صحائف حياتي إلى أخره إنما هو نتيجة خطك وتقديرك، وإنها لسطور كثيرة قد حوت سجل ثلاثين عاما من عمري الذي مضى *... إذ كان التاريخ حينما انفكت روحي عن غيبها إحدى وستين وألفا .
ولقد ناهزت اليوم العام الأربع والأربعين، ولست أرى فوق كاهلي إلا ركاما من السيئات والآثام، لا أجد بينها درهما من عمل صالح قدمته.
رباه:
كما وفقتني في نهاية هذا السِّفْر إلى الالتفات لعظمتك والتسبيح بحمدك، أسألك أم توفقني في نهاية حياتي أيضا إلى التمسك بهديك والإيمان بلطفك وحكمتك...

* كان هذا عمرأحمد خاني حينما ألف هذه القصة مع إضافة أربعة عشر عاما، وهي أيام الصبا التي استثناها من سجل أعماله. فاذا أضيفت إليه كان أربعة وأربعين كما بين ذلك فيما بعد...


.
 
أعلى