قصص عراقية أحمد خاني - قصة مم وزين - قصة حب كردية - ت: د. محمد سعيد رمضان البوطي

في محراب الإلهام
تعال ايها الساقي فاملأ هذا الجام خمرا... املأه من تلك الخمرة الوردية التي اعتصرت من جنى الروح, واستخلصت من ذوب سر القلوب. ثم اسقنيها من شفاه كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح, اسقنيها نشوة تهيج مني فؤادي الغافي وتسكر عقلي الحيران.(1) وأنت أيها الشادي.. تعال فاجلس الى جانبي لتتم سكرة الروح بشجي من غنائك, أسمعني أنغام الناي والكمان, أطربني بوقع الدفوف والألحان. أبهجوا عيني بمرآى الورود الفاتنة والأغصان المتمايلة, دعوا كل هذا ياخذ بمشاعري وإحساسي ليسكرني عن هذا الوجود الذي حولي, فعسى أن تضمحل مني كثافة هذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا, وأبقى معنى وإحساسا. وعسى أن يذكرني إذ يدركني إذ ذاك فيض من نور القدس, فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورا من ضيائه, في صفو مني القلب وتجلو أمام عيني أسرار هذه الحياة. لكي أغدو مع كل صباح فأترجم للناس حديث النسيم مع الأغصان , وأشرح لهم مغازلة الطيور للأزهار, ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران, وأردد مع العنادل والبلابل أنغام الحب والجمال, ولكي أسكرهم من جمال هذا الكون بخمر من مداد قلمي, وأطربهم من ألحانه ببيان قلبي ولسني. هات أيها الساقي... هاتها كؤوسا مترعة من هذه الراح, لكي أنفض بها من قلبي أحزانه, ولكي أغدو مخمورا بحرارة لذعها ويسكر مني العقل بنشوتها. هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرارالقلوب, ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون المعاني ودرها, وأكشف عن خلجات النفوس ووجدها, وأبين عن آلام الأفئدة وحبها. سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غيرأوتار, سأبعثها شذا عطرا يبهج النفوس من دون أزهار, سأبعث اليوم تاريخا من الحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام, سأشعل من جديد زفرات لمعت في صدور.. ونارا الهبت في قلوب, ثم خمدت بعد أن أحالتها إلى رماد! سأعيد الحياة بروح من بياني إلى ( ممو ) و( زين ) ضحيتي نار الحب والغرام. لأدواي قلبيهما بفيض من شعري وإحساسي, إذ لم يرحمهما أحد بدواء الوصل والإسعاد, سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه الكيد والحقد, وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصر الوردة الناعمة في كف غليظة قاسية . سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبا مطرزا من بياني, ثم أرفعهما إلى أوج التاريخ فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة, ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر. فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما, وليفتتن آخرون بلطف (زين) وجمالها. وعسى أن يسأل لي الرحمة أيضا كل من يسترحم لهما, وعسى أن يدركني أنا أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم, وعسى أن يقول أناس: رحمه الله فقد وشى حياتهما بوشي جميل, وغرس قصتهما في بستان الخلود. وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي... عزيز الى نفسي, مدلل عند قلبي, جميل في عيني. وهو بستان وإن كان قد يرى بين ثماره ما هو فج غير يانع, غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي. وحسبهما من جهدي ما قدمت, وحسبي منها ما أثمرت



.
15101572.jpg
 
الجزيرة الخضراء

حدث ذلك في حوالي عام 1393م في جزيرة ( بوطان ) المعروفة اليوم باسم - جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة, وتمتد في اتساع شاسع بين الهاب والتلال الخضر الواقعة في شمال العراق. واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها, اذ ننشعب بين ريض طبيعية بديعة, وينعكس اليها من شائر أطرافها بريق دجلة الذي يحف بمعظم جهاتها, كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في جو السماء, التي تفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم, وتنتشر من حولها سر الخلود وآيات الجلال. وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأمير زين الدين ), حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهد العثمانيين منقسمة إلى عدة إمارات, يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة. ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب... بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان. والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه من امتلاكه العجيب لقلوب أمته, واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه, مما أذاع اسمه مقرونا بالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها, بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها. ولم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل, كقصور بقية الأمراء من أمثاله, وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذول لتصميمه وتشييده وإقامة أبهته..! ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب, وإنما كان يزدان أيضا بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر, وأنواع المجوهرات الغريبة والفاخرة..! أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان.. وبمثل ذلك من أجمل الجواري والفتيات... يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشعب الفتنة والجمال. غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحدة من تلك الجواري والحسان, وإنما كانت سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك. خلقهما الله في ذلك القصر، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال، ونموذجا كاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذا الإبداع العجيب في ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع، ومبدع وصانع، بأن الجمال إنما هو هذا..! لا رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع، هذه فتنة تبهر القلوب وتسكر الألباب، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار، وشتان ما بينهما من فرق. ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين. كان اسم كبراهما (ستي) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمها على حدة، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها، فعادت شيئا أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة . وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأسمى. كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب، ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير. ولم تكن شقراء، غير أن شعرها الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجهها الذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا. وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة في روحها، وخفة متناهية في دمها. فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفة واللطف. وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر عن معظم الأبصار، فقد كان اسماهما ذائعين منتشرين في سائر أطراف الجزيرة بل في كثير من بلاد كردستان، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال. وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامة فيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم، مما يجعلهم يتحرجون من اختلاط الجنسين ألا بمقدار... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا من هذه الغيرة بين جانبيه، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذي أبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى.. ولذلك فقد كان من العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع... وتسقط الأخبار

.
 
عيد الربيع ( النوروز )

كان الوقت أصيلا ، والناس يودعون يوم 20 مارس ليستقبلوا من ورائه ربيع سنة جديدة، وكانت أعمالهم وحركات طرقهم وأسواقهم قد اتخذت مظهرا لنشاط جلي غير معهود. فقد كان عليهم جميعا أن يتهيؤوا ويستعدوا للخروج مع صباح اليوم الثاني إلى ظاهر المدينة. ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح تلك الجبال. وذلك جريا على تلك العادة السارية في جميع أنحاء كردستان من الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد. فالطبيعة لها عليهم حق ومنة كبرى. ومن واجبها عليهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد، فينطلقوا جميعا من كبير وصغير ورجل وأنثى تاركين وراءهم كل آثار التصنع والتكلف التي تعج بها دنيا المدن والعمران، الى حيث تلوح صفحات الإبداع الإلهي الساحر. فيخشعون لها وحدها، ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم شمس ذلك اليوم..
وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافها، لا سيما حول قصر الأمير. فقد كان على رجال القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوم من تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع. وقد ينتهز الفرصة فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته. أما داخل القصر، فقد كان أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى منه. كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا الأميرتان زين وستي، كانتا منحازتين إلى إحدى الشرفات ومتخذتين مجلسهما على بعض متكآت تلك الشرفة ترقبان ساعة الغروب، وترنوان إلى الأصيل والآكام، وعلى صفحة دجلة الذي يتشعب ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة.
قالت ستي: ’’ يبدو أنني لن أعثر على الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر جماله لدي مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها في نفسي..‘‘
فأجابتها زين: ’’ ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكون ذلك الرجل بالغ الذروة في الجمال. وأين تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة..؟ أم لعلك تحسبين أن الرجال كلهم يعيشون في قصر مثل قصرك هذا، وينشأون في مثل ما أنت فيه من نعمة؟‘‘
قالت: ’’ ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجل الذي أتخيله وأعنيه.‘‘
فأجابتها زين مستضحكة: ’’ ولكن كيف تستطيعين أن تبحثي عن رجل خيالك هذا..؟ أم أنك قد أصبحت رجلاًً كالرجال.. تداخلينهم وتستعرضينهم في أنديتهم ومجامعهم حتى إذا ما عثرت عليه أتيت به وركنت اليه..؟!‘‘
فأطرقت ستي متكئة، وهي تداعب خصلات من شعرها، ثم هزت رأسها وهي تقول: ’’ أجل، فالمشكلة إنما هي هذه فقط...‘‘
وعادت إلى السكوت .
وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه.. ثم أسرت إلى أختها قائلة:
’’ لقد وجدت لهذه المشكلة حلا فاسمعي...‘‘
واعتدلت في جلستها، ثم دنت إلى أختها، كأنما تخشى أن يسمعها أحد. وأخذت تقول:
’’ تعلمين أن غدا هو عيد الربيع، وأن أهل الجزيرة كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقول والرياض. ولا شك أن ذلك أجمل فرصة لما تفكرين فيه..‘‘
فقالت: ’’ ويحك وأين الحل في هذا..؟؟ فمتى كانت النساء يمتزجن بالرجال في مثل هذا اليوم الإمتزاج الذي تظنين..! وهل تجهلين أنه ستكون لنا أمكنة خاصة من دون الرجال، أم ..‘‘
فقاطعتها زين قائلة: ’’ ولكنني لم أقل لك الحل بعد. أريد أن أقول إن أحدا من الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة، وسيتلاقى كلهم في هذا الفضاء. فما علينا إلا أن نتأخر عن موكب القصر غدا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي يمنعنا من الخروج، حتى إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم، ثم نندس في صفوفهم ولا شك أنهم سيحسبوننا من شباب القصر وغلمانه. وأكبر الظن أننا سننجح في الفكرة، وسيتاح لكل منا أن تجد من بين مختلف شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطراف من يروقها ويعجبها..‘‘
ولم تكد زين تعرض الفكرة على أختها حتى أعجبت بها، وسرعان ما اتفقتا على تطبيقها في الصباح الباكر.
ثم أخذتا تتحدثان عن وسائل تنفيذ الفكرة وعما يجب اتخاذه حيال ذلك من تدابير .. غير أنهما اضطرتا أخيراإلى قطع الحديث عندما تنبهتا إلى أن الشمس قد توارت في غيبها منذ فينة، وإلى أن الظلام الذي امتد على سطح الجزيرة وتكاثف فوق بيوتها التي راحت تختفي عن الأعين مخلفة آثارها من الأضواء المتفرقة التي تشع هنا وهناك. وخشيتا أن يحوم حول مجلسهم اذاك من يسمع شيئا من حديثهما الذي ينبغي أن يكون سرا لا يطلع عليه أحد، فطوتا الحديث، وغادرتا الشرفة، وأخذتا تتدرجان في الممشى الفسيح الذي يؤدي إلى البهو.
وهناك رأتا بعض غلمان القصر فسألتاه: ’’ أخرج الأمير من الديوان أم لا..؟؟‘‘ فأجابهما بأنه لا يزال في الديوان مع بعض رجاله، يتحدثون عما يختص برحلة الصيد التي عقد عليها العزم مع بعض أصفيائة في صباح الغد. ثم حياهما بانحناءة وانصرف.
فسرهما هذا النبأ... إذ كان ذلك من جملة الأسباب التي ستيسر لهما النجاح في تنفيذ الفكرة التي اتفقتا عليها.. تلك الفكرة التي لم تكن سوى أثر لما تتمتعان به من الجمال النادر، إذ كانتا تتصوران أنه لا يكافئهما إلا من كان في مثل ذلك الجمال أو نحوه. ولذلك فقد كانتا تتمنعان على كثير من الراغبين فيهما والطامعين بهما، انتظارا للفتى المناسب....
ثم إنهما تبادلتا التحية.. وإنصرفت كل منهما إلى مقصورتها الخاصة، على أن موعدهما الصباح...
وفي صباح اليوم التالي أشرقت شمس بوطان على أسواق خالية، وميادين خاوية . . فقد خرججميع من فيها يستجلون العيد الذي أقبل يحييهم من فوق مسارح الطبيعة الغناء التي انتشت وازدهرت من جديد بعد أن ظلت منكمشة متوارية شهورا عديدة تحت أعاصير الشتاء وركام الثلوج.
كان الناس كلهم ينتشرون بين أجواء خمرية ساحرة، تتهادى على ضفاف النهر الفضي.. وفوق الروابي الخضر.. المطرزة بأبدع نقوش الزهور، وفوق سفوح ’’ جودي ‘‘ المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتألق.
وكنت تنظر إليهم فتمتد بهم العين في الجهات الأربع ، ثم لا تكاد تبلغ النهاية. تراهم خليطا متضاربا من شتى الطبقات والأشكال والاتجاهات، قد امتزج فيهم الغني والفقير، وتحاذى الصغير والكبر وتلاقى المثقف والجاهل. فيهم العاشق الذي جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من خمر النسيان.. وفيهم الشاعر الذي أطرق خاشعا يرنو إلى الفتنة الحالمة، يستوحي منها آيات الإلهام، وفيهم الفيلسوف الذي أسرته الحيرة وملكه الذهول، فهوى ساجدا لخالق هذا السحر والجمال...!!
ولابدع.. فالطبيعة أمهم جميعا من دون تفريق، تحنو عليهم حنوا واحدا وتبتسم لهم ابتسامة واحدة، وتسقيهم حمياها من كأس لا تختلف. فلهم جميعا أن يثملوا اليوم برحيقها ويرقصوا في أحضانها، وأن يجد كل في سرها دواء قلبه، وعلى كل مظاهر الجمال الزائف وأشكاله المصطنعة أن تنتبذ عنهم إلى مكان قصي.. فالخمر هنا ليس إلا ما اعتصر من شذاها، والجمال ليس إلا ما انعكس من بهائها...
ولكن أمرا واحدا غير هذا استطاع أن يلفت عقول الناس في ذلك اليوم في حيرة بالغة، فقد كان في ذلك الجمع شابان لو أن تلك الطبيعة الخلابة استجمعت كل فتنها وسحرها ثم أرادت أن تقذف بجميع ذلك إلى الدنيا في مظهر شابين فيهما كل تلك الفتنة وذلك السحر لما استطاعت أن تجود بأبدع منها وأجمل..!!
كانا يثيران عواصف الدهشة لدى كل من يلمحهما مما آتاهما الله من ذلك الجمال الغريب..!! وكان لا يمر أحد من أولئك الحشد إلا وقفة الذهول فترة.. كأنما يتساءل: من عسى أن يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيء من كثافة الدنيا..؟؟ ألعلهما ملكان نزلا من سمائهما للمشاركة في هذا العيد؟!! أم هما توأمان لهذه الطبيعة الخلابة.. جسدتهما في مظهر هذين الشابين هدية إلينا وشكرا لاحتفائنا بها..؟!!
ولقد كان لهم في الواقع أن يعجبوا كل ذلك.. فإن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين ستي وزين..! خرجتا تشتركان في ذلك الإحتفال بعد أن تنكرتا في لباس الرجال وأشكالهم، ليسهل عليهما استعراض ذلك الجمع الحاشد الذي قد تجد فيه كل منهما فتى أحلامها، والشاب الملائم لجمالها.
بيد أن الأميرتين اللتين سحرتا الألباب لم تستطيعان العثور في ذلك اليوم على أي شاب بين ذلك الجمع الغفير يسحر لبهما ويحوز إعجابهما..!! إذ كانتا تنظران إلى معنى الجمال بمقياسهما الخاص، وتقدرانه بالنظر للمعجزة التي اختصهما الخلاق بها! وأنى للمعجزة الخارقة أن تظهر هنا وهناك؟ وكيف يتأنى للمثل الأعلى أن يتخذ مظهره في أفراد عديدة.. كأي شيء آخر غير معجز أو غريب..؟!
وهكذا ظل الناس بياض نهارهم ذاك يلهون ويمرحون على شطآن الأنهار وبين الورود والأزهار، وفوق الآكام والتلال وتحت ظلال الأشجار، إلى أن هب النهار ليدبر، وأخذت أشعة الشمس تتقلص نحو المغيب، وظهرت ظلال الروابي والأشجار شاحبة متطاولة بين الحشائش والأزهار، وأخذت الشمس ترنو إليهم من فوق منحدرها صفراء ذاوية، تحييهم تحية الوداع وتوقظهم من غمزة الخيال الحالم إلى مواجهة الحقيقة.. الحقيقة التي تطبع كل شيء بطابع الزوال والفناء، وتحرمه من عظمة الخلود والبقاء.
ومع تلك التحية التي راحت الشمس تلوح إليهم بها قام الناس جميعا منصرفين إلى دورهم .
وعند الرجوع حيث كانت الطرق والشعاب تهدر بتلك الجموع من الرجال والنساء والولدان، عائدين إلى بيوتهم، وقد انحازت الأميرتان في سيرهما إلى طريق بعيدة قليلا عن زحام أولئك النساء اللواتي امتزجن مع الرجال في ذلك الطريق، حدث امر غريب...!!!
فقد انتبهت الأميرتان إلى أن فتاتين من بين ذلك الحشد تقبلان نحوهما في خطى متعثرة ووجهين مشدوهين..! فأحرجتا.. ولم تشكا في أنهما فتاتين قد عرفتنا وألمتا بأمرهما.
ولكن الفتاتين ما إن دنتا منهما حتى أصابهما ما يشبه الدوار، وظلتا تتقدمان إليهما، ثم وقفتا أمامهما، وشخصت عيناهما في شكليهما، ثم أخذت تترنح من كل منهما القامة... ثم سقطت كل منهما على الأرض الواحدة تلو الأخرى، في غيبوية كاملة عن الدنيا وما فيها..!
أما الأميرتان فقد انتابهما ذهول شديد لذلك وتعلقتا بمعرفة تينك الجاريتين ومن عسى تكونان.. ومن أي طبقة هما..؟ ولكنهما خشيتا لأن تقفا قليلا إلى جانبهما للوقوف على سرهما، فيلفت ذلك نظر الناس الذين يمرون على مقربة منهما ويجتمعوا عليهم.. فتظاهرتا بعد الانتباه إلى شيء غير طبيعي وأخذتا تواصلان سيرهما غير مكترثتين.. حتى إذا ابتعد الناس عن مكان الجاريتين وأدركتا أن الجموع قد تجاوزتهما عادتا أدراجهما خلسة إلى مصرعهما وقد داخلتهما رحمة وشفقة شديدة عليهما.
ووصلتا إلى مكانهما.. وهما لا تزالان في غشيتهما تلك، فجلستا إلى جانبهما تسرحان النظر في ملامحهما، وتمعنان في شكل كل منهما وهيئتهما التي قد تكشف لهما الستار عن شخصيتهما ولعلهما تذكران أتعرفانهما أم لا؟.. ولكنهما لم تعرفا عنهما شيئا، ولم تستطع إحداهما أن تتذكر أنها كانت رأتهما أو رأت واحدة منهما في يوم ما في أي مكان.!
كانت على وجه كل منهما مسحة رائعة من الجمال مشوب بسيما الجلال ومعنى العزة. مما يدل على أنهما تتمتعان بمكانة ذات سمو..! وكانت ثيابهما متشابهة في طرازها وشكلها، مما يدل على أنهما شقيقتان أو قريبتان.. أما أناقة ذلك الهندام وبداعة وشيه وطرزه فقد كانت تدل دلالة واضحة على مبلغ النعمة التي تتقلبان فيها..!!
وأخذت الأميرتان ترنوان اليهما بعين من الأسى والإشفاق، وهما مطروحتان فوق تلك الأرض، وقد غمر كل منهما الإحساس في بحر لجي من الذهول المطبق. وليس من حركة فيهما إلا تنفس الصعداء الذي يمر في صدرهما جيئة وذهابا. وراح ذلك الإشفاق يستحيل تدريجا بقدرة خالق الأرواح إلى حب غريب غير مفهوم.!!
وأخذت نظراتهما وهما جالستان إلى جانبهما في تلك البيداء تتساءل في عجب: أي روض ترى إخضر فيه هذان الغصنان؟ وفي أي خميلة تفتحت هاتان الوردتان.!؟ أم أي الجداول والغدران أكسبتهما سحرها؟!!
ولم يطل جلوسهما.. فقد لمحتا على البعد فرسانا تجري بهم الخيول في بعض تلك الشعاب باتجاه المدينة. فأدركتا أنهم الأمير وصحبه عائدين من الصيد، وتذكرتا أن من الأنسب عودتهما إلى القصر قبل وصول الأمير. فنهضتا تودعان الجاريتين اللتين لم تزالا في غيبة عن رشدهما، بعد أن عمدت كل منهما إلى الخاتم النادر الثمين الذي يتلألأ في أصبعهما، والذي نقشت عليه بوشي دقيق رائع من حجارة الماس والياقوت اسم صاحبته فألبسته إصبع كل من الجاريتين، واستبدلتا به خاتمين بسيطين كانتا في يد كل منهما، لينوب ذلك عنهما في التعبير عن تقديرهما والعطف عليهما، ثم ليكون وسيلة لهما فيما بعد إلى معرفتهما والإهتداء إلى أصلهما. وهكذا مضت الأميرتان بعد أن استعاضتا عن الدر والألماس النادرين خرزا وزجاجا بسيطين


=================
* عيد الربيع الذي أشار اليه الخاني هنا هو عيد نوروز.. يحتفل به الأكراد والفرس في الحادي والعشرين من آذار من كل سنة... يحتفل به أبناء الشعب الكردي بالخروج إلى الطبيعة متزينين بالحلى الفلكلورية... يعقدون حلقات الرقص والدبكات.. ويشعلون النار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل آلاف السنين معلنانهاية الظلم والإستبداد.. رمزا للنصر والتحرر


.
 
سر الجاريتين

لم تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث من الصدمة والذهول امرأتان كما تبدوان..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوان الأمير! كان أحدهما ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين )، وواحدا من أشقاء ثلاثة عرفوا من بين سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة، واقترنت أسماؤهم في أنحاء الجزيرة كلها بالهيبة والإجلال، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفه الخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني ( جكو ).
وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان الصفي الوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه، قد جعل الله بينهما من المودة والإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين. ولعل الذي جمعهما على ذلك التحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال. فقد كانا مولهين به ولهاعجيبا في كل صوره ومظاهره، وكان يبلغ بهما التأثر بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتاد أو طبيعي، كما كانا في شوق شديد إلى أن يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتين اللتين ذاع جمالهما في معظم جهات كردستان وبقاعها.
وقد كان هذا هو الذيدعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن، فاستبد لكل منهما عن حلته بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق، وتمنطق في وسطه بمنطقة مزركشة من أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات. كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعا تتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا على نحوما تفعله فتيات الأكراد، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق الصدغين ، كأنهما سالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع. ثم انطلقا يستعرضان الجمال في كلا مظهريه، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج البديعة، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظ الساحرة، وكان أكبره همهما هو استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرة باسميهما، وما زالا منذ أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما.
وفي أثناء رجوعهما مع الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره، فكان لرؤيتهما في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما. ولم يكن ذلك كله ليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت على مشاعرهما. كانت تلك الحقيقة هي الحب.. الحب الروحاني الخالص الذي يتسامى على الإعتبارات الجسدية، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة. فقد مس كل من كليهما سويداء قلبه، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل مداخل الروح الأخرى التي كانت تعلقت بها منذ الأزل، ثم ضلت عنه في منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم، حيث طفقت تبحث عنهما بين صور الطبيعة والأزهار. وتصغي إلى صوتها في غناء العنادل والأطيار، وتفتش عن مظهرها في الوجوه والأشكال، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوق المستعر والفراق الطويل. فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها، ولاعجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض. ولا غرابة أن يتغلب الحب.. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب.
وبعد هزيع طويل مضى من تلك الليلة، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها مرة أخرى، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده. واستيقظ ممو وتاج الدين من غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت من سمائه النجوم، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم، ولا يرفرف في سمائها جناح. وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول، فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما، ولا يعلمان ما الذي طرحهما في تلك الأرض وما السبب في بقائهما هناك. غاية ما استطاع كل منهما أن يشعر به في نفسه خفقان غريب في القلب، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عام في القوى، وخبل شديد في الذاكرة..!!
وبعد قليل نهضا في جهد ملموح وإرهاق واضح ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمران بعد تحامل شديد وإعياء. وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته.
ومضى يوم.. و يومان... وما يقارب الإسبوع.. وكل من ممو وتاج الدين يقاسي آلاما غامضة تشتد ولا تلين!! وتزداد ولا تقل، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرى سببه ولا يدرك تفسيره. وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس يختلف عن الأول اختلافا باديا! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء، ويحس بالملل من سائر ما كان يألفه. وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في أعماق نفسه عن شيء عزيزافتقده، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها، ولكن ما هو ذلك الشيء؟ ومتى أحسبه حتى يشعر بأنه افتقده؟ كل ذلك كان سرا غامضا عنهما، يحومان حوله ولا يستطيعان اختراقه. وكانت غرابة ذلك الشعور وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عن الإفضاء بذلك إلى صاحبه، ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له، إذ قد يذهب حديثه الغامض مذاهب كثيرة بصاحبه لتفسيره وكشفه...
غير أن تلك الآلام والمشاعرالمرهقة.. ما لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه. فقد أخذ يبدو ذلك جليا في ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما. مما يسر لكل منهما أخيرا سبيل الإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في استجلاء شيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون، اللهم إلا ما يتبادلانه من المواساة، وما يشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها.
وبينما كانا ذات يوم مجتمعين في بعض خلواتهما، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما من الجوهر النادر يتألق في إصبعه، فأمعن النظر فيه قليلا، ثم قال:
’’ لقد كان علي أن أبارك لك هذا الخاتم البديع، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم، فمتى استحدثته؟‘‘
فنظر ممو في أصابع يديه، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين، ليجد في مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل! وسرعان ما عمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة، ثم أخذا يمعنان فيه باستغراب وتعجب. وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا عليه بأجمل وشي متألق من حجارة الماس والياقوت، وقبل أن يبدي ممو عجبه لذلك الخاتم الذي لا يدري عنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما تماما في إصبع تاج الدين..! وقد نقش عليه بمثل ذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘.
وغشيتهما الحيرة من جديد، وازداد عليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتزكر أحد منهما من هما ستي وزين ...!!
وهنا رفع رأسه إلى ممو، ونظر إليه كالمحموم قائلا:
- ’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين... أميرتي الجزيرة... شقيقتي الأمير زين الدين...‘‘
وعاد كل منهما يحملق في الخاتم الذي بيده مرة أخرى، ويمعن في نقشه وتألقه الرائع مما أكد لهما أن صاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير.! ومن بين ذلك البريق المتألق أخذ سرهما الذي كان غامضا يجلو ويبين، وذهبت ذاكرة كل منهما تعود أدراجها إلى الماضي.... الماضي الذي كان غيبا عنهما إلى تلك اللحظة.
لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولا رؤية هاتين الأميرتين، ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال. ثم تذكرا ساعة العودة.. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب.. كانا في غاية الروعة والجمال.. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان... و... إلى هناك توقفت الذاكرة بهما! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث لهما إذاك بسبب ذينك الشابين، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك الليلة كانت من أثر ذلك الحادث، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما منذ تلك الليلة. وأخيرا استطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثان عنهما، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر... وإخفاء الحقيقة... أما الخاتمان فلم يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهما واستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور جميل على الأقل بادلتاهما به.
وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون فهمهما لتلك الآلام والاحساسات التي كانت تساورهما، شعر كل منهما براحة وانطلاقة هدأتا من حاليهما. غير أن ذلك الشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر. أما تاج الدين فقد استطاع أن يتغلب بذلك على آلامه، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كان يعانيه. وكأنما كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه. وأما ممو فإن انقشاع الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه، وكأنما كانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه، ضالة عن الذات التي شغفت بها. أما اليوم وقد إتضح كل شيء، وظهر انسان تلك الروح، فهيهات منها الهدوء ما دامت بعيدة عنه، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن تلقاه وتركن إليه.
وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه، وألقى بيده على كتفه قائلاً:
- ’’ إسمع يا صديقي: إن من الامعان في الخطأ أن نسلم أنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرها واشتداد وطأتها. ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك... فكلانا في هذا البلد معروف بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس، فماذا عسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس؟؟ وماذا سيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا... وكيف أننا ونحن أولو العزيمة والشجاعة والبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهارت شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح امرأتين وقوتهما فقط..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور، ولنمط عنا رداء التوجع الوهمي الذي إنما أسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء... وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقه إلى نفوسنا..‘‘
ولكن ممو لم يكن يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاج الدين، فقد كان واضحا أنه كان يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرة وعينيه المخضلتين. كان الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘، وكان الشيء الوحيد المنتبه إليه هو الخاتم الذي في يده. فقد كان مرة يحملق فيه، وأخرى يقبله ويظل ضاماً عليه شفتيه.
وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له:
- ’’ أخي: إن هذا الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته، إنما هو اليوم انسان آخر، فلا تبحث فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم. فقد والله فقدت كل ذلك، وليس الذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه. وقلبا متأجاجاً تتقد فيه نار لا تعرف هولها، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر، فقد انتهت علاقة كل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري إن لم تكن تشعر بالمعذرة لي..‘‘
ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات من ممو حتى أيقن أن الأمر قد تجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة والإرشاد، وامتزجت في سائر مشاعره رقة شديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا أن يعتصم بالسكوت .


.
 
ج

جوتيار تمر

هي اسمها مم وزين ... وليس ممو زين.... مم اسم كوردي يستخدم للرجال و زين للنساء... هي بالفعل ملحمة عشق اشبه بالاسطورة لاسيما في مضمونها الدرامي المميز .. وتفاصيلها التي تجذب المتلقي الى تتبع خطاها للنهاية...
 
التعديل الأخير:
تحية اخي الرائع .. لا ادري كيف افلت هذا العنوان من التصحيح.. لان المصدر الذي استقيت منه الملحمة كل كلماته "سيامية" وأقوم بفصلها وتصحيح اخطائها الرقنية..
هي كما تفضلت قصة من قصص العشق الخالدةالتي خلدها التاريخ مثل باقي القصص الاسطورية التي احاول جمعها من التراث الانساني والتي تكاد تتشابه في عمقها الانساني، مثل القصص الجزائرية والمغربية سأدرج مستقبلا قصة حب بعنوان "حمو أونامير" وهي من قصص العشق في التراث الامازيغي المغربي.

بوركت اخي على تنبيهك لي وتوجيهي وهذا مرادي وغاية أملي و مبتغاي ..

لك كل المودة الصادقة
 
عجوز القصر
ولنترك الآن حديث مم وتاج الدين لنعود إلى القصر ونعلم ما الذي كان من أمر ستي وزين، فلقد رجعتا في تلك الليلة أدراجهما إلى القصر، واستطاعتا دخوله دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتيهما. ودون أن يرتاب أحد من الحجاب في أنهما من بعض الغلمان الحسان في القصر.
وما إن تجردت كل منهما من ذلك المظهر الذي تنكرتا فيه وجلستا تستريحان من النصب الذي لحقهما في ذلك اليوم حتى أخذت كل منهما تشعر بقلق واضطراب واضحين في نفسهما، ولم تكن إحداهما تعرف شيئا عن سر ذلك القلق أكثر من أن له اتصالاً بتينك الجاريتين اللتين حدث لهما ذلك الشأن العجيب. فقد كان منظرهما، وهما على تلك الحالة من الذهول وعلى وجهيهما تلك المسحة من الجمال المشوب بسما الوقار - ملازما لخلدهما. وكانت تتضافر على ذلك عدة عوامل، بعضها غرابة ذلك الحادث الذي أصابهما، وبعضها التطلع إلى معرفة حقيقتيهما ومن تكونان من الناس، وبعضها ذلك الشعور الغريب الذي أخذ يساروهما نحو تينك الجاريتين المجهولتين من حنان وإعجاب بل وحب آخ في الزيادة والإشتداد رغم أنهما امرأتان مثلهما على ما تظنان وتحسبان.
وهكذا أخذ التفكير في الجاريتين يستولي تدريجيا على خيال كل منهما، وبدأت تلك الأحاسيس تسيطر على قلبيهما، فلم تكونا توجدان إلا مختليتين في بعض غرف القصر أو جهاته تتهامسان في هذا الشأن وتتبادلان إفضاء خلجاتهما النفسية حول ذلك.
غير أنه لم يستطع أحد من سكان القصر رغم ذلك ملاحظة حالهما تلك سوى مربية عجوز لهما يقال لها ( هيلانة ). كانت هرمة مسنة، غير أنها أقوى من الدهر في مكره، وكانت متغضنة الملامح باهتة الشكل إلا أن ذكائها كان فتيا يلتهب. فقد أخذت هذه العجوز تلاحظ أن حالة طارئة تطوف بهما منذ اليوم الذي خرج فيه الناس إلى مهرجان نوروز، ومضت تراقب فيهما تطورات تلك الحالة التي لك تلبث أن اتخذت مظهرهما في كثير من أوضاعهما وأحوالهما!
وفي صبح ذات اليوم استأذنت عليهما فوجدتهما مطرقتين ذاهلتين، وقد أخذ التفكير منهما كل مأخذ، وتجلت مظاهرالحيرة والأسى على وجه كل منهما، فدنت إليهما، وجثت على مقربة منهما، ثم قال:
’’ بروحي يا أميرتيَّ الصغيريتين فديتكما، وجعلت الله ربي حافظا لكما، فأنتما انسان كل عين، وحبة الشوق لكل فؤاد. يخيل إلي أن هذا القصر قد كمد بعض بريقه وتوارى من أنحائه الكثير من أنسه منذ اليوم الذي خرجتما فيه لمهرجان الربيع ثم عدتما بما تحملان من هذا الإطراق والتفكير والذبول.!! فهل لي أن أسأل عن السر الذي طواه مقدمكما، أو عن الخمرة التي تسببت كل هذا في ذهولكما؟ فقد أستطيع معونتكما في شيء إذا كان مستعصيا، أو استخدام تدبيري وسحري إن كان خافياً ‘‘.
فنظرت كل من ستي وزين الواحدة منهما إلى الأخرى، كأنما تتشاوران في إفضاء الأمر إليه. ثم قال إحداهما:
’’ إن كل ما حدث لنا أننا أصبنا - على ما يبدو - منذ ذلك اليوم بضيق وكرب لا ندري لهما سببا، ويبدو أن شيئا بسيطا من أثر ذلك لا يزال يساورنا..‘‘
فأدركت هيلانة أنهما تحاولان كتم الأمر عنها. ودعاها ذلك الإدراك إلى ظن أن يكون الأمر حبا أو غراما انعقدت نواته لديهما في ذلك اليوم. إذ كثيرا ما يحدث فيه أن يتصادف الشباب والفتيات وتتبادل الألحاظ مظاهر الفتنة والجمال، ويحصل التعارف والتعلق... فدنت منهما، ثم أخذت تقول لهما:
’’ يبدو أنكما ياأميرتيَّ لا تعلمان بعد مبلغ ما آتاكما الله من سحر وجمال، وأنكما تجلسان منه على عرش عز على الدنيا كلها أن تجد لكما فيه نظيرا، وإلا لأدركتما أن كل جمال في هذه الجزيرة خاشع منحن أمامكما حتى تثيرا الحيرة من أجله وتذكيا نار القلب من ورائه؟ وهلا أخبرتماني عنه حتى تعرفا كيف يأتي أسيرا في قيود الهوى، ذليلا تحت سلطان هذاالسحر؟!!‘‘.
فأجابتها ستي:
’’ ليس هذا الذي تظنين أيتها الخالة هو السبب في حيرتنا... إنما السبب في ذلك شيء آخر... كنا نود أن نستطيع إيضاحه والإبانة عنه حتى تعالجيه لنا بدهائك وتدبريك. ولكنه لغز... لغز مقفل من كل جوانبه لا نفهم شيئا عنه. كل ما نستطيع بيانه هو أن نقول لك القصة التي جرت... والأمر الذي رأيناه...‘‘
وهنا تبسطت العجوز في جلستها، ومدت وجهها نحو ستي بعد أن أسندت أسفله إلى كفها قائلة:
’’ حدثيني يا ابنتي عن القصة.. فلا بد لي إن شاء الله من كشف سرها وحل لغزها..‘‘
ومضت تحدثها ستي القصة قائلة:
’’ بينما كنا نمشي في ذلك اليوم... يوم الربيع بين المروج والرياض، إذ فاجأتنا غادتين لم نر مثلهما لطفا وجمالا تقبلان نحونا في لهفة بادية وبخط متعثرة. حتى إذ أصبحتا على مقربة منا إذا بعاصف من الذهول الشديد يعصف بهما ويطرحهما في جانب من تلك الارض... ودنونا إليهما لننظر في شكليهما ونستكشف شخصيهما، ولكننا لم نستطع أن نفهم عنهما شيئا، فقد كانتا تبدوان غريبتين في زيهما وملامحهما.
ووقفنا فترة أمام منظرهما وهما في تلك الغيبوبة وقد سرى تأثير شديد منه إلى نفس كل منا، وشعرنا بروحين سرعانما طافتا حول قلبينا ثم استقرتا في سويدائه... فإذا بهما يخفقان بمعان كثيرة من بعضها الحنان والحب.
كانتا تبدوان أيتها الخالة كأبدع كآسين صافيين، وإن كنا نحن الخمر التي تترقرق فيهما، بل كانتا كأجمل مصباحين مضيئين وإن كنا نحن النورالمتوقد من ذبالتهما. بل كانت في شكل أزهى مرآتين وضيئتين، وإن كنا نحن الشمسين اللتين تشعان منهما .
ثم تركناهما أيتها الخالة على تلك الحالة ومضينا... دون أن نعلم ما الذي تم بشأنهما. بل لم ندر أكان ذلك حقيقة أم رأته أعيننا ، أم حلما من أحلام تلك الطبيعة صورتها لنا خمرها؟!!‘‘.
فأطرقت العجوز برأسها تحملق في الأرض وقد أدهشها ما سمعت، ثم نظرت إليهما وقالت:
’’ بل أظن يا أميريتي الصغيرة أن ذلك كما قلت حلما من أحلام الطبيعة.. أما أنه كان حقيقة رأتها عيناكما، وأما أنه يقينا قد تعلق قلباكما من كل ذلك الجمع الحاشد من الشباب والفتيان بتينك الجاريتين المجهولتين. فذلك أمر مستحيل أو لعله واقع كما تقولين، ولكنكما تمنيتما مثل تينك الجاريتين أطفالا لكما. لا أنكما شغفتما بهما حبا من دون الرجال.
من الذي - يا بنيتي - يصدق أن المرأة يتم جمالها إلا إذا كان الرجل هو مرآة ذلك الجمال، ومن الذي يصدق أن الرجل يمكن أن يكون لجماله معنى لو لم تأت المرأة لتضع فيه ذلك المعنى؟ وهل أثبت جمال ليلى وفتنة حسنها لو لم ينعكس إليها تاج ’’خاسرو‘‘ وسلطانه!! وهل سمع أحد في الناس أن زهرة قد افتتنت بالزهر أو أن بلبلا غنى فوق أعشاش البلابل؟؟!
لا يا أميرتيَّ الفاتنتين، ليس هذا الذي تقولانه إلا وهما من الخيال أو حلما من الأحلام. فلا تدعا للوهم والأحلام مجالا إلى قلبيكما...‘‘.
فابتدرتها زين قائلة:
’’ ولكنك قلت لنا أن لديك من التدبير والعزائموالدهاء ما تستطيعين الكشف به عن كل لغز وخافية. فهلا استعملت شيئا من ذلك في حلهذا اللغز.. أم يبدو أن عزائمك قد خرفت وتقدم بها السن، فلم تعد تصلح لشيء.
أما أن حديثنا هذا خيال أو وهم فليس كذلك، وما هو والله إلا الحقيقة التي شاهدناهما بأعيننا، ولقد دخل حب تينك الجاريتين في قرارة قلب كل منا. وسواء أكانتا في الحقيقة ملكين أو شيطانين أو امرأتين، فإن عندنا منهما هذا البرهان الذي يؤكد أن ما رأيناه حقيقة لا خيال، وهو هذان الخاتمان اللذان سللناهما حينذاك من إصبعيهما ليكونا عونا لنا في البحث عنهما‘‘.
وعمدتا إلى الخاتمين فألقتا بهما إليها.
فتلقفتهما العجوز، ومضت تحملق فيهما وتقلبهما وتمعن في شكليهما، ثم هزت رأسها وقال:
’’ أما الآن فأستطيع أن أفهم شيئا مما تقولان، وأستطيع أن أقول لكما إني عثرت على خيوط هذا السر الذي لا بد لي من كشف قناعه. ولكن لا بد لذلك لي من مهلة، ولا بد أيضا من بقاء هذين الخاتمين لدي‘‘..
فأجابتاها إلى ذلك بشرط أن تحافظ عليهما محافظة شديدة، وأن تكتم الموضوع كتمانا تاما عن كل واحد.
ثم إنها قامت عن مجلسهما بعد أن نفحتاها قسطا كبيرا من المال، ووعدتاها بالمزيد عند نجاحها في المهمة.
وإن هو إلا أمد قصير حتى كانت العجوز قد أوصلت نفسها إلى شيخ هرم في بعض أجزاء الجزيرة أمضى حياته كلها في علوم الحرف وحسابه، حيث نقدته دينارا، ثم جلست إليه تقول:
’’ لي طفلان يتيمان أيها الشيخ هما سائر ما بقي لي من أمل في الحياة خرجا مع هؤلاء الناس - بحكم طفولتهما - إلى الفلاة في يوم عيد الربيع وهما بكامل وضعهما الطبيعي وعلى أحسن ما يكونان رشدا وعقلا، فلما جاء المساء عادا إلى البيت وقد تشعثت هيأتهما، وتمزق لباسهما، ذاهلين لا يملكان وعيا ولا إحساسا، مشدوهين كأنما قد أصيبا بمس في عقليهما. وهما - أيها الشيخ - إلى هذه الساعة على هذا الوضع الغريب الذي لم أفهم له تأويلا.
ولقد جئتك بخاتمين لهما، لم ألمحهما في يديهما إلا منذ ذلك اليوم - ويخيل إليَّ أن فيهما سر الخمرة التي أودت بعقليهما إلى هذا الذهول - لكل تستعين بهما في استخدام طاقتك لاكتشاف حال هذين الطفلين وبيان حقيقة هذا البلاء المتشبث بهما، أهو صرع وجنون.. أم خمر هو وعشق.. أم هو ماذا؟؟!!
ذلك رمز ألقيته إليك أيها الشيخ فافهمه. وهناك سر دفين في هذين الخاتمين فاعلمه . وحسبك أن ترشدني إلى صاحبيهما، وتنبئني أهما ملكان يجوبان السماء، أم شيطانان تحت الطوايا السبع، أم بشران مثلنا فوق أديم الأرض؟! ‘‘.
فأخذ الشيخ الخاتمين، ثم أكب على دفاتره وحسابه... وأخذ ينهمك مرة في الحساب والترقيم، ومرة في الإطراق والتفكير.
وبعد قليل رفع رأسه إلى العجوز، وأخذ ينظر إليها بعينين ذاويتين قد تغضن ماحولهما قائلا:
’’ أو لا بد من كل هذا الكذب والتزوير أيتها الماكرة العجوز..؟
تقولين طفلاك اليتيمان.. فهلا صدقت وقلت الدرتان اليتيمتان والغادتان النادرتان؟ وتقولين صرع.. ومس.. وجنون.. فهلا أوضحت الحقيقة التي هي مس الروح للروح، وتعلق قلب بآخر ؟
أما هذان الخاتمان، فليس صاحباهما ملكين في السماء ولا شيطانين من الجن، ولكنهما شابان معذبان ضاع قلباهما منذ ذلك اليوم المشهود وراء هاتين الغادتين اللتين تقولين عنهما، طفلاك.‘‘.
فهز رأسه مطأطئا وهو يقول: ’’ من غير شك.‘‘.
وهنا دنت إليه العجوز وقالت:
’’ ولكني كنت أود أن أعرف من أي الناس هما؟ وكيف العثور عليهما؟ ألا قل لي أيها الشيخ وأوضح ، فإن لك عندي فوق ما تريد إن أنت كشفت الستار عنهما، أو أرشدتني إلى جهتهما ومكانهما.‘‘.
فقال لها: ’’ أما هذا فليس لي إلى فهمه سبيل، وكل ما وراء الذي أخبرتك عنه لا يمكن الخوض في شيء منه إلا بالحدس والتخمين. غير أني أستطيع إرشادك إلى حيلة قد تنفذين منها إلى معرفتهما والإجتماع بهما، وهي أن تنطلقي في شكل طبيبة ماهرة فتطوفي بمختلف أنحاء هذه الجزيرة وبيوتها، وتلفتي الأنظار بلباقة وبراعة، إلى أنك ذات خبرة ودراية بمختلف الأمراض النفسية والجسمية، وأن لديك الوسائل المختلفة لمعالجة مثل هذه الأمراض وماواتها. فلا ريب أن هذين الشابين معذبين اليوم ولا ريب أنهما إذ يسمعان بأمرك يستدعيانك لشأنهما ومعالجة أمرهما .‘‘.
فأعجبت العجوز بهذا الرأي. ثم أعطته دينارا آخر، وشكرته وانصرفت.


.
 
الطبيبة السائحة
لم تعد العجوز هيلانة - بعد مغادرتها لذلك الشيخ - إلى القصر، وإنما بادرت في إعداد العدة وتهيئة الوسائل لكي تصبح طبيبة. وبعد حين أصبحت ذات منظر جديد وشكل غريب... حيث ارتدت فوق ثيابها رداء سابغا فضفاضا قد شق من أمامه فبدا من تحته ما علقته على كل من جنبيها من الحقائب التي ملأت بعضها بزجاجات وعقاقير... وحشت بعضها الآخر مباضع وهنات مختلفة من كل ما يحتاج إليه الطبيب الماهر.. ثم استوت على ظهرها وانطلقت تطوف بالأحياء، وتؤم المجالس والبيوت، تتسمع خبر أي مريض مطروح أو متألم موجوع، لكي تأخذ طريقها إليه متبرعة بمعالجته ومواساته.
وهكذا بدأت توحي إلى الناس بأمكر أسلوب مبلغ ما اوتيته من براعة في فن الطب بمختلف أنواعه...
ولم تمض سوى برهة حتى كان اسمها قد انتشر في كثير من أنحاء الجزيرة، وتسامع الناس بأن عجوزا سائحة قد وصلت إلى الجزيرة، تعالج أنواع الامراض والأدواء المختلفة بمهارة فائقة. وكان مم وتاج الدين إذ ذاك قد ساءت بهما الحال أكثر من الأول وأصبح كل منهما نهبا لأفكار وآلام متواصلة مما لفت إليهما أنظار ذويهما بل معظم أصحابهما ولكن دون أن يعلم أحد بحقيقة الأمر أو يدرك شيئا مما حدث لهما.
ولم يكن - في الواقع - منشأ تلك الآلام والأفكار واحداً بالنظراليهما، بل كان مختلفا إلى حد بعيد. أما مم فقد كان السبب في ذلك زيادة تعلقه وتفاقم وجده.. فلم يكن يقر له قرارا أو يلين لجنبه مضجعا منذ عرف أن التي ضاع عندها رشده إنما هي أميرة الجزيرة.. ومنذ أخذ يفكر كيف أن تلك الغادة الحسناء رأفت بقلبه ورقت لحاله، فتركت خاتما الدري في يده لكي ينوب إشراقه عن ابتسامتها عندما يغيب طيفها عنه، ولكي يقوم مقامها في مواساته إذا تلظى منه القلب. كان ذلك التفكير يستحيل نارا تتقد في أحشائه وتسعر كل مشاعره وأحساسيه، وكانت تزداد ثورة هذه الآلام في نفسه حينما يقعد ليفكر في شخصه وفي مركزه البسيط الذي لا يجعله اهلا لأن يتقدر إلى الأمير زين الدين لخطبة أخته. بل لا يعقل من الأمير أن يقبل مثله صهرا له من بين مختلف أفراد حاشيته ووزرائه. فكان ذلك يزيد في آلامه مرارة اليأس, ويسلمه إلى زفرات طويلة تكاد تشق صدره.
أما تاج الدين فعلى الرغم من أنه أيضا كان متعلق القلب بصاحبة الخاتم الذي في يده ومنصرفا بمشاعره نحوها إنصرافا تاما ،إلا أنه لم يكن يقاسي في ذلك مثل آلام ممو وثوراته النفسية. ويبدو أن السبب في ذلك هو أنه كان ذا أمل قوي في الوصول إليها، ولم يكن يخامره شك في أن الأمير لن يتردد في قبوله صهرا له.. فهو ابن وزير الديوان، وهو أحد أشقاء ثلاثتهم عمدة الأمير في كثير من الظروف والاحوال، والأمير نفسه يدرك أن مصلحته تقضي بإكرامهم وتقريبهم منه.
ولكن تاج الدين كان يعاني أفكارا أخرى تؤلمه وترهق مشاعره إرهاقا شديدا، ولا يهتدي إلى مخلص منها! فقد كان ممو كما قلنا صفيه الوحيد من دون الناس كلهم ، وكان ينزله من قلبه منزله شقيقه.. بل أسمى من ذلك وأعظم.. ولم يكن يخفى عليه ما يقاسيهمن وجد وتحرق.. فكان يقعد ليفكر في أن مركزه كسكرتير للديوان لا يؤهله لأن يتقدم إلى الأمير بطلب يد أخته منه، ولكن لا يعقل أيضا أن يمضي هو متنعما بمراده تاركا خليله الوحيد وراء ظهره يتقلب في ناره. فكيف التدبير وما العمل؟!.. أيضحي بقلبه وسعادته من أجل صديقه ممو ويظل إلى جانبه يواسيه ويقاسمه ضره؟ أم يبحث عن سبيل لإمكان وصولهما معا إلى أمنيتهما المنشودتين؟ ولكن كيف العثور على هذا السبيل الخفي الشائك؟؟!!..
وهكذا أضحى كلا الخليلين مظهرا للقلق والتفكير الدائم مما جعلهما محورا لتفكير الاهل والأقربين، والحيرة في شأنهما.
وذات أمسية، وبينما كان مم وتاج الدين جالسين في ركن من قاعدة الضيافة التابعة لدار تاج الدين وشقيقه مع زمرة من الأهل والأصحاب يتسامرون، مرت من أمامهم الطبيبة العجوز وألقت التحية عليهم، وكانو قد سمعوا باسمها وتذاكر معظمهم في استدعائها لعرض حالة مم وتاج الدين عليها، فردوا عليها التحية وطلبوا إليها الجلوس معهم بعض الوقت. وبعد أن استقر بها المجلس سألها عارف قائلا: ’’ من أين أنتي ايتها الخالة وما شأنك؟‘‘.
- ’’ أما أنا فمن قرية صغيرة تقع وراء لك الجبل وتبعد عنه قليلا، وأما شأني طبيبة أسيح في أنحاء البلاد لإغاثة المرضى ومعالجة شوؤنهم..‘‘.
- ’’ وما هي الأمراض التي تعالجينها؟؟‘‘.
- ’’ الواقع أنني اشتهرت في المهارة في معالجة الأمراض النفسية والروحية فقط.. غير أني استطيع بحكم مراني الطويل معالجة غير ذلك أيضا من الأمراض البدنية ..‘‘.
وهنا فاجأها تاج الدين من ركن بعيد في المجلسقائلا:
- ’’ مذا تعرفين من الأمراض الروحية ايتها الطبيبة؟؟‘‘.
فالتفتت العجوز صوبه واخذت تلحظه بعينيها الضعيفتين حينما كأنما تريد أن تعرف من هو هذاالذي يسأل عن الروح وأمراضها .
ثم قالت له وقد خالها شك في أن يكون هذا أحد اللذين تبحث عنها:
-’’ أعرف يا ابني من هذه الأمراض أنواع كثيرة، كنت قدعالجتها في كثير من الناس، فهل تشكو - لا سمح الله - شيئا منها‘‘.
وقبل أن يجيبها تاج الدين بادرها ممو قائلا:
-’’ ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتها الخالة؟؟ وهل لكي أن تصفيه لنا وتحدثينا عنه؟‘‘.
فنظرت اليه وقد قوي شكها وغلب على ظنها أنها أمام ضالتيها المنشودتين. ثم تنهدت بعمق وقالت له:
’’ أشد أنواع هذا المرض يا بني، نوع - لا أذاقك الله إياه - يسري من الألحاظ . ويسلك طريقه في الألحظ.. ثم يتخذ مستقره في القلوب. هو في أول أمره رعدة في المشاعر، ودقات بين ألواح الصدر، وتلون على ملامح الوجه. فإذا نما وترعرع فهو برق يستعر وميضه في الأحشاء، تتلظى الجوانح بناره من غير لهب، ويشوى الفوائد في وهجه من غيرجمر. ثم إذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب، يجرحه بلا مبضع، وينزعه منغير سنان. فهناك يشخب دمه منهمرا من العينين، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفرات الصدر. وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره ولا يجدي سوى أن تتضامن الروح وتتطأ النار ببرد الوصال‘‘.
وسكتت العجوز هنا.. فقد لاحظت نشيجا قويا بدا يتعالى من صدر مم الذي لم يعد يملك دموعه، واصفرارا شديدا تلطع به وجه تاج الدين الذي أطرق ذاهلا، واتفتت إلى بقية الجالسين وقد خشعت ملامحهم، وداخلتهم رقة شديدة من أجل ذينك المسكينين الذين لم تعد تشك في أنهما ضحيتا الأميرتين في اليوم التاريخي الفائت.
ثم أنها قامت من مكانها تؤم الركن الذي كانا يقبعان فيه وربتت على كتفيهما قائلة:
’’ لا بد أنكما يا ولدي تعانيان مجهودا أو ألما من هذا النوع، ولكن لاضيرعليكما، فإن دوائكما عندي‘‘.
ثم توجهت إلى بقية الحاضرين وقالت:
- ’’ لا بد لي من تشخيص أمر هذين الشابين، ولابد أن يكون ذلك على خلوة معهما، فهل أستطيع أن التمس منكم الموافقه على ذلك!!‘‘.
وبعد قليل.. كانت الغرفة قد أصبحت خاليه إلا من المريضين.. وطبيبتهما التي أخذت تسرح فيهما وتقلبه لتجد شابينرائعين لم يتخطيا ربيع العمر، تبدو على مخايل كل منهما معاني العز والمجد، إلى جانب ما يظهر في شكليهما من سيما الروعة والجمال ، على الرغم مما اصطبغت به ملامحمامن مظهر الكآبة والإنكسار.
وبعد أن مضت تواسيهما مستدرجة لهما في الحديث عن شأنهما وقصتهما إلى أن فهمت كل شيء، فابتسمت قائلة:
’’ ليطب خاطركما يا ولدي ولتقرعيناكما فما أنا والله إلا رسولا من أميرتي بوطان إليكما لأسري عنكما وأواسي جرحكما، وها هو ذا خاتم كل منكما...
ولم تكد العجوز تنطق بهذه الكلمات وتمديدها لتريهما الخاتمين حتى دار بكل منهما فضاء، وغشيتهما موجة شديدة من الذهول لميستطيع ممو أن يثبت بأعصابه أمامها فهو كطفل صغير يقبل إلى أحضان العجوز يقبل أذيالها ويتشبث بأطرافها دون أن يملك رشدا. بينما ظل تاج الدين فترة من الوقت مشدوها يحملق في العجوز دون أن يستطيع نطقا أو يملك حراكا..
أما العجوز.. فماإن أبصرت منظرهما ذاك، وما آلت إليه حالهما، حتى داخلتها رقة شديدة من أجلهما، وفاض قلبها حنانا لهما ورحمة، فأخذت بيمين كل منهما قائلة :
’’ لا داعي إلى كلهذا الهم والغم يا ولدي... فوحق الله المعبود لم أدعكما ما حفلني التوفيق حتى أبلغبكل منكما إلى أمنيته وهواه.. ولن يطيب لي الموت إلا بعد أن أراكم أنتم الأربعة... وقد جمعكم الشمل وأظلكم نعيم الوصال وما على كل منكما الآن - لكي أستطيع الشروعبالمهمة منذ الساعة - إلا أن يخبرني عن اسمه ويطلعني على شأنه ومركزه في هذه الجزيرة. كما وأرجو وقد اتيتكما بخاتميكما أن تسلماني هذين الخاتمين لأعود بهماإلى صاحبتيهما تجنبا لإفتضاح الأمر.. ولن تطول غيبتي عنكما ، بل لا بد أن أعودإليكما قريبا بالجواب.
فتهللت أسارير تاج الدين، وقام فأعطاها خاتم ستي الذي كان معه بعد أن عرفها باسمه وشأنه، أما مم فإنه أطرق قليلا ثم قال للعجوز:
’’ لعلك يا سيدتي تعذرينني إذا قلت بأنه ليس بوسعي إعطاء هذا الذي تريدين .. ولعلك تصدقينني إذا حلفت لكي بأن هذا الخاتم الذي عندي هو اليوم بقية روحي التي تخفق بين جنبي! ومن ذا يستطيع أن يعمد إلى روحه فينتزعها؟!... لا يا سيدتي ... إنني أتشفع إليك بناري التي تذيب أحشائي ، وأتوسل إليك باسم ( زين ) أن تتركيها في هذه البقية من الرمق، وتدعي هذا الخاتم في يدي ...‘‘.
وسكت قليلا كأنما يغالب آلاما تثورفي نفسه. ثم مضى في حديثة يقول:
’’ والآن دعيني يا أماه.. وأنتي رسول قلبي الضائع... أبثك رسالة نفسي إلى ربة هذا القلب: قولي لها أنه مسكين من الناس... لا يبلغ أن يكون كفؤا لذوي الإمرة والسلطان. غير أن سهام الحب طائشة.. لم تكن تفرق يوما ما بين فؤاد مسكين وأمير، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلا له، ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الامراء أن يشملو به عامة الناس، وحسبه من هذا العطف أن تخطريه على بالك بين وقت وآخر.. وأن تسالي عن حاله ولواعجه بين الفينة والأخرى‘‘...
فتأثرت العجوز من لهجة كلامه ، ولم تجد بدا من أن ترحمه فتدع الخاتم في يده . وبعد أن حاولت مواساتهما فترة من الوقت قامت فودعتهما.. ووعدتهما في العودة بأقرب حين .


.
 
إنه الحب

ولنسرع الآن إلى القصر قبل عودة العجوز، لنعلم ما الذي آلت إليه حال ستي وزين ، منذ أن خرجت من عندهما ولم تعد .
والواقع أنهما أخذتا تنتظرانها على أحر من الجمر، وترقبان رجوعهما بين كل ساعة وأخرى. فقد تركتهما لتذهب فتستكشف لهما السر المخبوء، وتأتيهما بالخبر اليقين عن حقيقة تينك الجاريتين اللتين شغلتا قلبيهما و فكريهما، ولكنها ذهبت ولم تعد..! وبطول غيبتها عنهما استبد بهما القلق وزاد اضطرابهما ولم يعد يقر لهما قرار، ويهنأ لهما مأكل أو مشرب، وأخذ الفكر يذهب بكل منهما مذاهب متشعبة فيما يمكن أن يكون السبب في تأخر عودة العجوز!
وبينما كانتا ذات يوم جالستين في إحدى مقصوراتهما الخاصة من القصر تتحدثان، إذا بطارق يستأذنهما في الدخول. وما إن توجه نظرهما نحو الباب، حتى أبصرتا العجوز بوجهها المتغضن وظهرها المنحني واقفة أمامهما، ترمقهما بابتسامة عريضة ذات مغزى...
وهبت الأميرتان تطوقانها، وتبثانها شوقهما، ثم أسرعتا فأجلستاها بينهما، وأخذتا تسألانها عما استطاعت أن تصل إليه في كل هذه الغيبة من المعلومات، وعن مدى ما كشف لها علمها وبحثها عن سر تينك الجاريتين ومكانهما.
فقالت لهما وهي لا تزال تلهث من التعب:
- ’’ أقسم لكما أميرتيّ بالخالق الذي أولاكما هذا السحر والجمال أنني آتية الآن من عندهما. وإن قلبي لا يزال يخفق رحمة وحنانا لمنظرهما. واكبدي لهما يا ابنتي... كلما سمعا باسم ستي وزين التهب فيهما الدم نارا، وتمشت في أوصالهما رعدة تثير الرحمة لهما والإشفاق.
هما والله يا ابنتي خير شابين أبدعهما الله لطفا وجمالا وشهامة وكمالا. وما عجبي من ذلك بمقدار عجبي من أنكما - فديتكما - كيف وفقتما لانتقائهما. واهتديتما في ذلك الجمع الحاشد إلى مكانهما! فهما والله - سواء أكانا أميرين أم زعيمين أم بسيطين من الناس - خير كفؤين لكما، ولائقين لجمالكما.‘‘
وكان طبيعيا هنا أن تتملك كلا منستي وزين حيرة بالغة وتطوف بهما دهشة شديدة من هذا الكلام. فقد كانتا تتصوران كل محتمل لشأن الجاريتين، سوى أن تكونا رجلين من الناس قام في ذهنيهما ذلك اليوم مثلما قام لديهما أيضا من التنكر وإخفاء الحقيقة ... فلم يكن ذلك الاحتمال ليتطرق إلى خيالهما قط.
واستفاقا من حيرتهما ودهشتهما لتشعرا بلواعج حب شديد قد ظهرت في مشاعرهما، وأخذت تتضرم سعارا في قلب كل منهما. كانت في الماضي آلاما واضطرابا تحول السر المخبوء الذي لا تعرفانه، ولكنها اليوم أصبحت حقيقة أخرى ذات خطورة أشد.. فهي الحب.. الحب الذي بدأت رعدته تسري في مشاعر كل منهما من الفرق إلى القدم!
ثم أنه لم يطل التفكير في الموضوع بعد أن شرحت العجوز لهما عن تاج الدين ومم وكل شيء.. وبعد أن نظرتا حولهما فلم تجدا سوى العجوز التي قد أضحت خبيرة بحالهما مطلعة على سرهما. فقالت لهما إحداها:
- ’’ لعله ليس خافيا عليك - أيتها الخالة - أن خبرك هذا زاد في قلب كل منا آلاما طارئة.. وأرهق مشاعرنا بإحساسات جديدة.. ولسنا نرى غيرك الطبيب لآلامنا، ولن نجد إلا لديك العلاج لقلبينا. ولن نقدر أن نتصرف في شىء من هذا الأمر إلا بسعيك، ولا نتكلم عنه إلا بلسانك. فهل لك أن تتحملي من أجلنا شيئا من الجهد وتكوني لساننا الناطق في هذا السبيل!‘‘.
فأجابت العجوز متهللة:
’’ إنني منقادة يا أميرتيّ كل ما تبغيانه وتأمرانني به. وأي جهد هذا الذي سيلحقني في سبيل إسعادكما؟ بل أية راحة سأشعر بها ما دمتما معذبتيكما أرى؟‘‘
فقالتا لها:
’’ إن كل ما نبغياه هو أن تسرعي فتعودي إلى ذينك الشابين لتنوبي عنا في مواساتهما ومعالجة شأنهما، إذ لا ريب أنهما الآن يعانيان مزيدا من الآلام التي حدثتنا عنها. هدئي أيتها الخالة من كربهما، وامسحي بدلا عنا بيمينك زفراتهما، قولي لهما: انعما بالاً، فلستما وحيدين في هذه المشاعر والآلام. إن تينك اللتين صرعكما حبهما في ذلك المساء... بين تلك الشعاب... تذوقان معكما على البعد مثل ذلك. كان قبل اليوم عطفا عليكما ورقة من أجلكما، وهو الآن حب يخفقبه قلبيهما كما يخفق منكما ذلك وتقاسيان منه كما تقاسيان ولئن استطعنا أن نكتم هذه اللواعج إلى اليوم، فإن ذلك لسلطان الحياء و حاجبه المسدل علينا.. ولقد آن لهذا الحجاب أن يزاح عنكما.. لتعلما أننا قد ارتضيناكما رفيقني لحياتنا حسب الإختيارالذي دل عليه خاتم كل منا منذ لقائنا في ذلك اليوم المشهود. ولكل منكما إذا شاء أن يتقدر اليوم إلى الأمير لخطبتنا منه . فيسع إليه عن كل منكما أناس يعرضون عليه الخطبة. وآخرون من ذوي الشأن يتوسطون إليه في رجاء القبول . أما المكان والشأن.. والغنى والمال والمهر.. فقولي لهما أنهما رضيتا من ذلك كله بالحب الذي خفق في قلبيهما منذ ذلك اليوم واتضح مدى إخلاصه.
وكل ما امتدت إليه طاقتهما بعد ذلك من الدنيا وأسبابها فهو منهما مقبول وجميل .. هذه هي رسالتنا - أيتها الخالة - بلغيها عنا إليهما على أحسن وجه، فعسى الله أن يكون مقدرا لنا في أزله سعادة الواصال، كما قدر علينا في غيبه ارتشاف كأس هذا الحب.‘‘.


.../...
 
البشرى

ليس أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه ببشارة الوصل والرضى، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه بذلك من مرارة اليأس وآلامه. إن فيها لحنا تعجز عن أداء مثله الأوتار، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور، وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر.!
إنها تلك الساعة التي طنت دقاتها في مسمع مم وتاج الدين حينما عادت العجوز إليهما بمظهرها الأول حيث أهدتهما البشارة على أحسن وجه، وبلغتهما رسالة الأميرتين بالنص. ولم تكن رسالة وبشرى فقط بل كانت بلسما لداءيهما، وروحا جديدا سرت في جسميهما.
وغمرت العاشقين لحظات من النشوة والفرح، وطاف بهما من حديث العجوز أريج عطري بديع، وتموجت في سمائهما من صداه أنغام سحرية سرت في مشاعرهما، وأسكرت لبهما. ثم قاما فنفح كل منهما طبيبته المبشرة ما استطاع من الهدايا والمال لقاء تلك البشرى التي زفتها إليهما.
وهب الصديقان يسرعان إلى الأقارب والأصحاب يقصان عليهم لأول مرة قصة حبهما، ويبلغانهم البشرى التي وصلتهما. فعمهم الابتهاج والفرح، لا سيما عارف وجكو اللذين كانا في حيرة بالغة من أمر أخيهما تاج الدين وصديقه.
وفي صباح اليوم التالي تألف منهم جمع من وجوه الجزيرة وأعيانها وعلى رأسهم شقيقا تاج الدين، وانطلقوا متوجهين إلى قصرالامير زين الدين ليكلموه في الشأن ويلتمسوا منه قبول هذين الصديقين صهرين له. ولكنهم رأوا فيما بينهم أنه لا بد لكي يضمنوا إجابة الأمير لخطبة مم أيضا أن يلتمسوا أولا يد الأميرة ستي لتاج الدين دون أن يذكروا شيئا عن صاحبه، فإذا ما أجاب اتخذوا من ذلك فيما بعد وسيلة لالتماس يد الأميرة زين لمم، وسيمهد ويهيئ لذلك ما سيحدث من احتكاك ممو بالقصر وتقربه إلى الأمير بسبب ما بينه وبين تاج الدين من المودة والعلاقة الشديدة.
ودخل الوفد ديوان الأمير.. وأدوا أمامه مراسمالتحية والإجلال.. وبعد أن استقر بهم المكان نهض عارف مستأذنا الأمير في الكلام ثم قال:
- ’’ مولاي صاحب السلطان : إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم هذا الرجاء:
لا ريب يا مولاي أن العزيز منا من شرفته بعنايتك، ولا يفيده بعد ذلك أن تحاول الدنيا إذلاله، والمهين من حرم من عطفك، ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة يركن إليها أو سلطان يعتز به.
وإن تاج الدين يا مولاي وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن شيئا من لك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك.. وهو اليوم يأمل من مولاه أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب.. ملتمسا منه يد الأميرة ’’ ستي ‘‘ ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا الرجاء. فهو يا مولاي أخلص خادم يستأهل عطفكم، ولعله أليق شاب بالتشرف بمصاهرتكم.‘‘.
ثم عاد عارف فجلس في مكانه. وتعلقت أنظار الجميع بشفتي الأمير ينتظرون جوابه. ولكن الأمير لم يطل تفكيره، بل سرعان ما نظر إليهم قائلا:
’’ الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة إلى ما تطلبون، بل أنا سعيد بموافقتكم فيما أجمعتم على رؤيته لائقا وموافقا. فليتقدم إلينا من كان وكيلا عن تاج الدين في هذا. واطلبوا لنا القاضي الذي إليه إبرام العقود، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن.‘‘.
فهب جكو من مكانه منكبا على يد الأمير يقبلها ويشكره بحرارة ولهفة وتابعه الجميع يشكرونه على تفضله وعطفه. بينما تابع الأمير حديثه قائلا:
’’ لا ريب أن هذا الشاب قد أمضى أياما طويلة في خدمتنا ووقف حياته بإخلاص لنا . وإن من شروط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه، ونؤديه حق خدمته، وأن نقوم بواجب هذا الوفاء له اليوم. ولا بورك لي في الإمارة والسلطان إن لم أعطه حقه كاملا غير منقوص، وإن لم أجعل له في رحاب قصري هذا محفلا تزدان فيه الولائم والأفراح ليالي وأياما‘‘.
ثم التفت فاستدعى رجال القصر قائلا:
’’ عليكم أن تبادروا من الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح. هيئوا لها كلما طاب من أنواع الشراب، وادعوا إليها كل أصحاب الطرب والغناء، فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه السويعات التي حولنا. لسنا ندري وليس أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين من الغد نملك حياتنا، أم سيتخفطها منا القدرالمحتوم.
هذه الحياة وبهجتها، وهذا السلطان وأبهته، وهذا الفلك الدائر من حولنا، كل ذلك مظاهر لااطمئنان إليها ولا أمان لها، هذه الأشكال التي يتضرب فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة، وهذه الصور التي تمتزج فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة، وهذه الصور التي تمتزج فيها مباهج الأفراح والأعراس بمآسي المآتم والأحزان، كل ذلك يحذرنا من تفويت الفرص بعد حلولها وينبهنا إلى تدارك ساعات اللذه قبل غروبها. فالدهر لم يكن يوما ما يفرق في خداعه بين شيخ وأمير، وسلطان وفقير ‘‘.
ثم التفت إلى شقيقي تاج الدين ومن معهما، وابتسم قائلا:
’’ فلأكن واحدا منكم من أجل تاج الدين اليوم. ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب، والقيام في سبيل إرضائه..‘‘
وفي مساء اليوم التالي كان القصر قد أمسى قطعة من الفردوس، مما كان يتألق فيه من مظاهر البهجة والزينة وتتراقص في كل أنحائه كل معالم المرح والترف، كما غص كل نواحي القصر وأطرافه بمختلف الطبقات والأشكال من الناس. وأقيم في ردهته المتسعة خوان عظيم امتد به الطول والعرض امتدادا شاسعا، وصفت من فوقه عشرات الطباق الفضية التي استدير بعضها على شكل نجوم، وقوس بعضها الآخر على شكل أقمار، وأقيم فوقها قباب من أغطية فضية تتألق في هندسة ما تحتها وشكله، وقد من تحت كل منها خروف مشوي لم تمس هيأته ولم يتغير شكله، كما حشر بين ذلك مئات من أطباق الفاكهة والحلوى ومختلف ألوان الطعام و نثرت في سائر الأطراف كؤوس يترقرق فيها ألوان الشراب.
ولم يكد العشاء يرتفع حتى بدأ الحفل من جديد، واتخذ الناس أمكنتهم في الشرفة الواسعة التي تطل على حديقة القصر. وجيء بمختلف ألوان الشراب في أباريق مفضضة بديعة، يديرها غلمان قدأفرغوا في أروع قالب من اللطافة والخفة والجمال. وأدير أرق أنواع العطور، فانتشرشذاها في الحاضرين متهاديا مع نسيم الليل وأضوائه. ومع حفيف ذلك النسيم أخذت أصوات الغناء تنساب إلى الآذان في جو حالم خلاب بألحان الفرح والبهجة. فرادى حينا، وحينا تنساب أصواتهم جميعا في مقامات وألحان سحرية تتردد أصداؤها حلوة بديعة بين حفيف تلك النسمات العطرة التي تداعب القوم في سكون حالم.
وفي تلك الأثناء أخذت أنظار الجميع ترتكز على مقعد في صدر المكان، حيث كان يجلس فيه تاج الدين، وقد بدا في عينيه بريق الأمل السعيد، وتجلت في ملامح وجهه فرحة السعادة. وكان كل من يدقق في نظرته يدرك بسهولة أنه لا يكاد يرفع بصره عن ناحية بعينها في ذلك المجلس، فإذا ما تبع بصره إلى تلك الناحية رأى هنالك ’’ مم ‘‘ وقد جلس جلسة تدل على أنه منطو على نفسه انطواء تاما، فهو لا يكاد يشعر بشيء مما حوله. ونظرة في عينيه الذابلتين، وفي ملامح وجهه الذي أماله وأسنده على ظهر كفه في إطراقة طويلة - تدل على أن شيئا من سحر ذلك الجو وجمال تلك الأوتار والألحان لا يلامس نفسه، اللهم إلا لمسة عابرة غير مبالية، كأنما تقول له: ’’لا أعرفك... ولست من أجلك..‘‘
و بينما الناس في تلك الأثناء إذ سكت كل شيء.. وهب الناس جميعهم قياما.. فقد دخل الأمير في تلك الساعة. وقبل أن يصل إلى الصدر الذي كان يجلس تاج الدين في بعض مقاعده نهض هذا من مكانه مسرعا فقبل يده. فأخذ الأمير بيمينه ومضى به فأجلسه إلى جانبه بعد أن أشار إلى الحشد الكبير بتحية باسمة.
ولم يكن يخفى على الأمير أن بين تاج الدين ومم ودا شديدا ومحبة صادقة، فأخذ يجيل النظر في هدوء باحثا عنه إلى أن عثرت عيناه عليه، ورآه ساهما مطرقا. فأدرك أنه ربما أوحشه أن يكون بعيدا عن صديقه في هذا الحفل الذي يقام من أجله، فاستدعاه إليه ثم قال:
’’ أنت صديق تاج الدين وصاحب وده. وليس ثم أقرب منك إليه وأليق بأن يكون ’’حفيظه‘‘* منذ الليلة إلى آخر أيام عرسه. فتعال واجلس إلى جانبه هنا.‘‘
فانحنى مم للأمير قائلا: ’’ أمر مولاي.‘‘ ثم تراجع وجلس إلى جانب تاج الدين .
وعاد الطرب والغناء، وعادت الكؤوس تدور. وكانت ليلة رائعة أضفت على كل الحاضرين سعادة وأنسا. وامتدت تلك الليلة السعادة امتداد الليل، حيث كانت نهايتها أول أساس في بناء عرس تاج الدين. وكان ذلك الأساس هو عقد نكاحه على الأميرة ’’ ستي ‘‘.

======================
* حفيظ العريس هو ذاك الذي مكانه بجانبه ويمشي وراءه كأنما هو حارسه . وهي عادة من عادات الأكراد في أعراسهم . ويختار الحفيظ من أخلص أصحاب العريس وأقربهم إليه .


.
 
العرس
ونعود الآن مرة أخرى إلى رحاب قصر الأمير بعد أن مضت مدة على نكاح تاج الدين، وانهمك خلالها في إعداد العدة وتهيئة اسباب العرس. وقد غصت ردهة الطابق العلوي منه بعشرات الوصيفات اللواتي أخذن في تهيئة شتى وسائل الزينة والتجميل للأميرة العروس وأختها، وليضفين على فتنتها روح الأناقة، ويزدن في سحرها روعة الصنعة.
وأقبلن إلى العروس يسرحن النظر أولا في شعرها... شعر كستناوي في نعومة الحرير.. قد تموج من سائر أطرافه في غزارة منسابا إلى ما تحت المنكبين في بهاء وفتنة... وتمايلت من أعلاه خصل ملتوية فوق الجبين في دلال ولطف، بينما استدار سائره أمام الصدغين وحول الوجه في تجاعيد رائعة ذات سحر. تصميم إلهي بديع لا يستطيع أي مخلوق أن يلمس في روعته نقصا ليكمله، أوخطأ ليعدل فيه .
وانتقلت أبصارهن إلى العينين... عينين واسعتين تنظران بسهام الفتك، تحت حاجبين ينطلق منهما مثل ما ينطلق من كبد القوس وأهداب ناعسة سوداء في سواد الليل... تسترخي على تلك المحاجر استرخاء شاعريا يفعل في الألباب ما تفعله الخمر. هذه الفتنة من الكحل الإلهي العجيب، وهذا البريق الساحر المنبعث من هذه النظرات، أي إثمد أو صبغ في الدنيا له أن يغير من ذلك ويبدل؟!
ثم استدارت أنظارهن إلى القوام.. قوام مياد أفرغ في أروع قالب من التناسق والجمال، وصمم في أدق تكوين إلهي معجز. فجاء منسجما من كل أجزائه وأطرافه، يبعث بعضه الفتنة في بعض. فأي يد من أيدي التقليد والصنعة تزعم أنها ستزيد فيه روعة وإبداعا؟
ووقفت الوصيفات من حول ستي في جمود وذهول يمجدن خالق هذا الجمال، وقد اعترفت حيرتهن بأن الجمال الذي صورته يد الخالق لا سبيل ليد المخلوق في تغييره.
ثم رأين أن ليس لهن إلا أن يتوجن ذلك الجمال بإكليل رصع بالدر وأثمن أنواع الماس. يضعنه فوق جبينها المشرق وبين أمواج ذلك الشعر الحريري الرجراج. أما قوامها فقد تركن فتنته تشع من خلف ثوب من القطيفة البيضاء، سرت فيه نقوش رائعة من خيوط الذهب الخالص، وقد التف من الاعلى على جسمها التفافا يبعث السحر. بينما اتسع من الأدنى اتساعا كبيرا، وترك له ذيل طويل يتهادى من حولها على الأرض. أما نحرها وما دون ذلك إلى الصدر فقد ترك إشراقه باديا ليتألق فيه عقد من الماس تدلت من سائر أطرافه على النحر حبات اللؤلؤ النادر.
وانصرفن بعد ذلك إلى ’’ زين ‘‘ ولكنها كانت أغنى من أختها عن التجميل المصطنع لقد كانت هي وحدها الآية التي دلت على أن للإبداع الإلهي أن يسمو على فتنة ’’ ستي‘‘ وجمالها فلم يكن الشأن في تزيينها يحتاج أكثر إلى مما قمن به بالنسبة لأختها..
ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى انبعث من قصر الأمير موكب يتهادى من وراء صفين من الخيول المزينة، موكب يزدان بأفخم مظاهرالجمال. عشرات من الوصيفات والجواري يتمايلن في أبدع أنواع الزينة والحلي، تتوسطن غادتين لو أن الشمس الساطعة في السماء انقلبت إلى انثى من بنات حواء لما استطاعت أن تكون في سحرها وجمالها! من ورائهن عشرات الغلمان الذين أفرغت عليهم كأس الزينة بأنواعها، يحملون أطباقا متألقة ملئت بالحلوى والنفائس والتحف.
وبدأ الموكب الرائع يعوم في يمٍّ متلاطم من الخلائق، الذين تدفقت بهم الجزيرة من شتى نواحيها، يتطلعون في ذهول إلى تينك الغادتين اللتين طالما سمعوا بهما، وحرمهم القصر رؤيتهما. ومضى الموكب يمخر العباب... ويتهادى في وسطه، والأعين كلها شاخصة في مشرق تلك الفتنتين إلى أن رسا أمام قصر تاج الدين... وهو قصر شيده على أبدع ما تخيله من طراز. رافعأ أعمدته وفرش أرضه وجدرانه بأفخر أنواع المرمر المتألق، وجعل أبوابه ونوافذه من الصندل والأبنوس النادر، ثم حلىَّ أطرافه وسقفه بنقوش دقيقة من ماء الذهب الخالص.
وما إن دخلت العروس إلى الردهة الخارجية للقصر حتى رفعت فوق عرش فخم من الأبنوس كان ينتظرها هناك.
وفي مثل طرفة العين اعتلى ذلك العرش فوق عشرات الأيدي والأكتاف. يتهادى وسط ذلك الخضم من الناس، وبين صخب ممتزج من الزغاريد وأصوات الدفوف والمعازف وعبارات الدهشة والإعجاب، حيث صدِّر أخيرا في بهو الطبقة العليا من القصر، بينما كانت الجموع الحاشدة من المدعوين يجلسون في جناح آخر منه، تطوف عليهم كؤوس الشراب، وقعد إلى جانبه ’’ مم ‘‘ وقد بدا في مثل أناقته ومظهره. وراحت جزيرة بوطان كلها تسهر في ثمل ومرح. وتتمايل في أحضان اللهو والطرب. وتوارت من وجه الدهر كآبته، وأخذ يطل على الناس بخالص من مظهر الصفو والسعادة. كؤوس الراح تدور، ورنات العيدان وصوت الغناء والدفوف يشق جو السماء، ومئات الجواري والشباب يرقصون رقصات جماعية فتانة تتهادى معها القلوب والمشاعر. وظهرت في تلك الأثناء أطباق فضية فوق أكف رجال من حشم القصر قد فاض كل منها بأكوام من الذهب والفضة وكرائم التحف ونفائسها، حيث أخذوا ينثرون تلك الأكوام من علو فوق تلك الجموع المحتشدة في سائر جهات القصر وأنحائه، فتتفرق فيما بينهم في بريق كأنها النجوم تتهاوى عليهم في غزارة من السماء. وعم كرم الأمير جميع الناس. وأدخل الفرحة والبهجة إلى جميع القلوب. فكم من فقير في تلك الليلة استغنى، وكم من عديم أيسر، ولم تزل هذه الأفراح على هذا المنوال قائمة لا تهدأ إلى سبع ليال كانت كلها مجمع الصفو والمرح، ومقدمة بين يدي ساعة العمر... ساعة الوصل بين ستي وتاج الدين.
وفي ساعة السحر من الليلة السابعة، والأفراح دائرة وقلوب الناس مستطيرة - كان قد بلغ الشوف بالعروسين أشده، واستعرت نار الشوق في ضلوعهما، وامتزج وهجه بندى ذلك السحر ونسيمه، وأخذ كل مظاهر الأنس والبهجة من حولهما يلمس فؤاديهما لمسة كاوية. يلتف بها النسيم، ويقام من حولها الخشيم، لا بد أن تتوهج وتتلف...
هنالك... وفي لحظة من تلك اللحظات المتموجة في نسمات ذلك السحر - انفتح باب تلقاء الأريكة التي كان يجلس عليها تاج الدين ظهرت من ورائه مقصورة مزينة تميس في فتنة حالمة... وقد فاح من أركانها أريج العطر، وأقيم في سائر أطرافها شموع تشع بأضواء مختلفة الشكل تنتشر في جوها نورا ناعسا ذا جمال وسحر، كما نظمت في بعض جهاتها أطباق صغيرة مذهبة شُكل فيها ألوان الحلوى ووسائل التسلية. ثم ظهرت في أيدي جمع من ذوي العروسين شمعة باسقة، في طول القامة. وقد وشيت أطرافها بأغصان من ماء الذهب، وتوج أعلاها بإكليل من الزجاج المنقوش يشع من ورائه لسان من النور المتوهج.. حيث أقاموها في وسط تلك المقصورة تلقاء نظر تاج الدين، لتقول له بلسان حالها:
’’ أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره.. يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألم واحتراق..
إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته إلى حيث تنتظرك عروسك...
قم فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته - نعيم الوصال ...
قم فإن شمعتك مثلك في الإنتظار.. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك...
من نار الإصطبار...
حسبك مثلي ذوبا واحتراقا... وكفاك مثلي دموعا وتسكابا...
إن ذلك النور الذي ضاع وراءه قلبك.. هو ذا أمامك اليوم... فلترتم في أذياله، كما تفعل الفراشة الملتاعة.. إذ تنثر روحها على أذيال اللهب.
أيها الساعي... طالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصول إلى هذا المطاف..
أيها السالك.. كم أظمأت كبدك قصدا إلى الطواف...
لقد قدر الله لك كل ذلك في سهولة... وحققه من أجلك في يسر...
ها هي كعبتك.. قد سعت نحوك. وها هو ذا مطافك قد تدانى إليك...
أيها العاشق السعيد.. قم لتطوف وتلتزم.. وتقبل وتستلم...
أيها العاشق الظمآن.. قم، فالكأس مترعة.. وخمر تكفي الإنتظار... ‘‘ .
وأدرك تاج الدين من هذه الإشارة وملابساتها أن قد حانت ساعة الوصل ولاح فجره.. فنهض من مكانه في سكينة وهدوء، وسار نحو المقصورة التي فتح بابها في انتظاره، وإلى جانبه مم صديق سروره وأحزانه، يده في يده وقلبه معلق به، وقد اشتمل على سيف في جنبه، وهو شأن ’’ حفيظ ‘‘ العروس في العادة. وعند الباب وقف مم منحازا ليودع خليله ويشير إليه بالدخول، وكانت لحظات... توارى من بعدها تاج الدين وراء الباب الذي ما لبث أن أغلق، بينما ظل صاحبه واقفا في مكانه ذلك كأنه حاجب أمين.
ودخل تاج الدين إلى المقصورة، ليجد عروسه جالسة من وراء تلك الشمعة التي حدثته بدموعها حديث الحب والوصال.. حيث تصافحت عيناهما في سكون حالم وتعانق قلباهما في ذهول طويل، وتبدلت نار ضلوعهما شهدا وخمرا. وباركت لهما تلك الشموع التي تحترق كؤوسا مترعة من الرحيق.. وشهدت وحدها أجمل لحظات الدنيا لدى الأحبة ...
وظل العروسان ثلاثة أيام في انشغال عن الدنيا وما فيها، يرقدان في مهد الأحلام ، ويستيقظان على الأحلام، غذاؤهما شهد الوصال، وشرابهما كوثر الشفاه.
أما مم فإنه لم يشأ - حتى بعد أن انفض الجمع، وانصرف الجميع - أن يبارح مكانه من قصر صديقه، إذ كان سعيدا بأن يتولاها لصديقه المحبوب، تقضي - إذا أريد أن تكون في أسمى درجات الإخلاص - بأن يظل مكانه كأي حاجب مخلص إلى أن يخرج العروس في اليوم الثاني أو الذي يليه، ليتلقاه ويكون أول من يهنئه من أصحابه.
وهكذا اتخذ مم مكانه في ناحية من فناء صرح تاج الدين الذي كان عبارة عن حديقة غناء تحيط به من سائر جهاته وحملته دواعي إخلاصه على أن يلازم المكان طوال تلك الأيام الثلاثة، فلم يكن يبارحه إلا بعد منتصف الليل، أو إلى شأن ضروري له، ثم لا يلبث أن يعود مسرعا إلى مكانه في انتظار خروج صديقه ليهنئه بحبه الذي سعد به.
والحق أن شعور مم في تلك الفترة لا سيما بقية الليلة الأولى عندما انفضت حشود الناس، وطوى بساط ذلك الأنس والصخب، ولم يبق سواه واقفا عند ذلك القصر وسط سكون الليل - كان شعورا ثائرا ألهب شوق فؤاده، وأحاطه بمعنى الوحشة والغربة، وأيقظ آلامه التي بين ضلوعه، وأثار حبه العنيف الذي كان من غير شك أشد من حب تاج الدين. فإذا علمت أيضا بأنه كان قد لمح مليكة قلبه في تلك الليلة والليالي التي قبلها ولمحته أكثر من مرة، ورأتها عيناه وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلي - أدركت أن شعوره إذ ذاك جديرا بأن يحدث أثرا جبارا في نفسه، ومن بعيد أن يتحمله مهما آتاه الله وأمده به من جلد وصبر.
غير أن بردا من الآمال المنعشة كانت تسري إذ ذاك في مشاعره، فتخفف مقدارا من الآلام والثورة في نفسه وتجعل فكره ينشغل بنشوتها عن الإنتباه إلى تلك اللواعج الشديدة.
فلقد كان لا يفتأ - وهو يجوب كالحارس في أطراف القصر وبين حدائقه - يفكر في الك الملاطفة التي أبداها الأمير نحوه تلك الليلة والليالي التي قبلها، وقد أخذ يتراءى له من ذلك أكثر من دليل على أن آماله قد راحت تزدهر.
إذ هل يمكن أن يعتبر شيء من ذلك التقدير الذي أبداه لما بينه وبين تاج الدين من علاقة الود والخلة، أو اختياره له خاصة أن يكون قرينه وحفيظه إلى جانبه في عرسه، أو تلك الملامح الخاصة المفاجئة التي ظهرت في عنايته وعطفه عندما امره بأن يقعد إلى جانب تاج الدين ويتزيى بمثل زيه وحلته، هل يمكن أن يكون شيء من ذلك إلا أكبر برهان قاطع على أنه لن يمانع أبدا من أن يسعد هو الآخر بــ ’’ زين ‘‘ وعلى أن يزوجه بها، ويقيم لهما مثل هذا الحفل الرائع عند أول إشارة أو رجاء؟!....
بل من يدري؟ فقد يكون الأمير لاحظ طرفا من هذا الحب المتمرد في فؤاده وأدركته رقة ورحمة لحرمانه من هذا الحفل البهيج الذي ينفرد فيه صديقه بالسعادة والهناء، فأراد أن يشعره بالأمل، ويدخل إلى قلبه البشرى، فجعل من تصرفه هذا ألطف إشارة إلى ذلك.
وأخذت هذه الآمال الجميلة تجعله يشرع في تصوير حياة سعادته وبناء أحلام حبه. وراح يفكر كيف أنه سيحاول تشييد صرح جميل كصرح صديقه، وسيجعله يزدان بأبهى أثاث ويحيطه بفتنة خضراء كهذه الحديقة. بل لقد حدثته نفسه بأنه لا بد من أن يشرع في التفكير لتدبير كل هذا من الآن فما أضيق الوقت إذا تقدم إلى الأمير بعد أيام لخطبة حبيبة فؤاده، وعاجله الأمير في كل شيء كما عاجل تاج الدين، وما أشد على نفسه الصبر بعد ذلك في انتظار تهييء الجهاز وتدبير الأسباب.
والخلاصة أن حالة مم النفسية في تلك الأيام الثلاثة التي كانت أول عهد فراقه عن تاج الدين، والتي قطعها منفردا في فناء قصره ينتظر خروجه ورؤيته - كانت أشبه ما تكون بقوس قزح من ألوان مختلفة من المشاعر والأحاسيس، لا يمكن أن يسمو إلى تصويرها أي بيان. فلقد امتزج الحب القاسي العنيف بأد لهيب من الشوق وخالطهما الأمل المزدهر في أجمل صوره وأصدق إشراقه، ثم انبثت كل ذلك مجتما في سائر مشاعره، وراح يخلق له من بين ضرام الوجد أحلاما سعيدة، ونشوة عطرة، وابتهاجا بفرحة صديقه ووصوله إلى مبتغاه.
وفي صبيحة اليوم الثالث خرج تاج الدين... وكان أول ما دعاه إلى الخروج هو تذكره لمم. فلقد طالت غيبته عنه، واشتاق إلى أن يراه ويطمئن على حالته مع قلبه الجريح.
خرج من القصر.. وأخذ يسير في الحديقة متجها نحو بابها الخارجي قاصدا دار مم دون أن يعلم أنه لايزال واقفا هناك، ولم ينتبه إلى وجوده إلا بعد أن لمحه على البعد وأسرع يجري إليه..
وهناك امتزج الصديقان في عناق طويل، ونظر تاج الدين إلى وجه صديقه، فأدرك أن هناك آلاما ولواعج في نفسه، قد حاول طيها وجمعها في زاوية صغيرة من قلبه لكي يتسع للابتهاج التام بفرحة أخيه... فتنحى به جانبا من الحديقة وأخذ بكفه قائلا:
’’ أقسم لك يا صديقي أنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو ظهر لي أي طريق يمكنني أن أفتدي فيها هنائي وحبي بلحظة واحدة من حبك وسعادتك لما توانيت عن ذلك. ولكنك تعلم أن هذه هي السبيل الوحيدة لوصول كلينا إلى آمالنا التي علق القضاء قلبينا بها. وثق أنني لن أستسيغ طعم سعادتي التي تهنئني بها إلا بعد أن يسعدني التوفيق في إيصالك إلى مناك وآمال حبك.‘‘
وهكذا ظل الصديقان برهة من الوقت يتبادلان التهنئة والمصابرة. هذا يهنئه من كل قلبه ويشعره بفرحة فؤاده من أجل سعادته، وذاك يواسيه ويحمله على الصبر، ويبشره بقرب وصاله هو أيضا.
الصديق...؟؟؟؟ ألا ما أثمن الصديق الذي يتسع قلبه المحروم للابتهاج بسعادتك، ويقيم وراء صدره المكلوم عرسا يوم فرحك.
هذا الصديق الذي منحتك الدنيا مثله فافده بسائر مظاهرها ومن فيها، فإنما هو سراج من أجلك في الظلماء، وهو أمل لقلبك عند اليأس.

.
 
الفتنة

الكون كله منذ فجر الحياة مسرح للصور المتضاد, والمظاهر المتناقضة. فهذا الليل والنهار، والنور والظلام، هذه الشمس المتوهجة والظلال الوارفة، هذا الهجر والوصال، والمآتم والأعراس، هذه المآسي والأفراح، وهذا البؤس والنعيم، هذه الورود الناعمة بين أشواكها الدامية - كل ذلك نماذج لمشهد هذا الكون المتناقض أبدعه الله كذلك ليوجد في كل من الخير والشر معناه، وليست بين كل منهما بالآخر ويتميز كل عنصر بنقيضه ثم لكي تشيع في الكون روح الحركة والكفاح ولترتبط هذة الخلائق بنظام السعي والتعاون.
ويأبى هذا السنن في الكون إلا أن يجري في قصتنا أيضا، فيجمع فيها عنصري الخير والشر ويمزج فرحة السعادة بدموع البؤس... وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص لديوان الأمير، أما اسمه ’’ بكر‘‘ وأما اسم أبيه فلم يكن يعرف من هو حتى يعرف اسمه. كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر. وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة فهو يتعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها. ولم يكن في مظهره قصيرا وقميئا فقط، بل كان إلى ذلك أجرد الشكل باهت السحنة ذا عينين تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد.
وكثيرا ما كان يقترح تاج الدين للأمير أن لو استغنى عن هذا الماكر الخبيث واستبدل به آخر يكون أليق بالقصر، وأشرف منه خلقا وأصلا. وكان يقول له عنه فيما يقول:
’’ ... إن الحاجب يا مولاي وإن كان لا يرجى منه فوق ما يرجى من أن الكلاب فيها طبيعة الإخلاص والوفاء، أما هذا فإنه لا يعنيه شيء سمى أن يكون وغدا خبيثا...‘‘
فكان الأمير يهز رأسه لكلامه، ثم يبتسم إليه قائلا:
’’ إن حياتنا يا تاج الدين تضطرنا إلى سفيه من هذا النوع... فإن لنا خارج هذا القصر شؤونا ومصالح... ولنا أيضا هناك مشكلات ذات عقد... قد نحتاج إلى متاعب كثيرة في حلها لو لم نحو من حولنا سفهاء من هذا القبيل. وإن كل هؤلاء الحجاب والحراس الذين تراهم من حول قصور الأمراء والحكام، لا يراد منهم أن يكونوا حجابا بمقدار ما يراد منهم أن يكونوا أداة بارعة لتسيير شؤونهم وحل معضلاتهم. أما أنه غير ذي نسب وأصل، فلن يضير شيء من ذلك في مصالحنا ما دامت تقضى، وأما أنه ذو فتنة وخبث فإن شيئا من خبثه وفتنته لن يتطاول إلينا بمكروه أو ضرر.‘‘
وهكذا أصر الأمير على استبقائه، ولك يستطع تاج الدين أن يقنعه بوجود ما يدعو إلى طرده والاستبدال به.
ومضت الأيام لم يَخْفَ فيها على بكر أن تاج الدين يكنُّ له كراهية وبغضا، فطوى في قرارة نفسه أمرا، وراح يضع بين عينيه خيوطا لفتنة يثيرها على رأس تاج الدين... ومضى يتحين لذلك الفرص السانحة، إلى أن كانت ذات أمسية...
كان الأمير إذ ذاك جالسا على انفراد في جانب من حديقة قصره، وليس من أحد حوله إلا حاجبه بكر الذي كان منهمكا على مقربة منه في تقليم بعض الأغصان اليابسة من أشجار الحديقة وتنسيقها.
ولاحت لبكر فرصة سانحة عندما سأله الأمير: ’’ أجاء تاج الدين في ذلك اليوم إلى القصر أم لا؟‘‘... فقد أجابه قائلا:
’’ إن تاج الدين يا مولاي لم يمر بالقصر منذ أربعة أيام.‘‘
وسكت هنيهة، ثم عاد فقال:
’’ كأني أرى يا مولاي أن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد على الديوان كسابق عهده‘‘!
فسأله الأمير:
’’ وما الذي أصبح يشغله؟‘‘
’’ لا أدري ، قد يكون مجرد أنه لم يجد داعيا لأن يتردد كثيرا...‘‘ ثم انتهز فرصة تفكير بدت ملامحه على وجه الأمير ودنا إليه قائلا:
’’ الواقع يا مولاي أنه لم يكن يمكن أحد من الناس أن يصدق بأن الأميرة ستي يمكن أن تقدم رخيصة بهذا الشكل لمثل تاج الدين في حين أن جميع أمراء كردستان وسلاطينها كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء جميع ما تمتد أيديهم من مجد ومال ‘‘.
فأجابه الأمير وقد بدا عليه التقزز من كلامه:
’’ ومن يكون هؤلاء الذين يحسبون ويظنون..؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين أمام كل من تاج الدين وشقيقيه..؟ إن كل واحد من هؤلاء الأشقاء الأبطل يساوي عندنا في يوم واحد من أيام الحرب الكريهة جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين‘‘.
فلما سمع بكر هذه اللهجة من الأمير أيقن أن ذلك الإسلوب لن يفيده فيما يريد. فغير مجرى الحديث وقال وهو يتشاغل بما بين يديه:
’’ لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلمانهم على المزيد من الاستقامة والخدمة عن طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم، ولكن بشرط أن لا ينسيهم الأنس حقيقتهم ولا يسكرهم عن أداء واجباتهم، وأن تظل انحناءاتهم للأوامر في ساعات الصفو والمرح، موجودة بنفسها عند الشدائد وفي ساعة الكر والفر.
غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل منصرفا إلى غير أهله فتكون نتيجته الكفران والطغيان. إن البخيل يا مولاي لا تليق بين يديه النعمة والثراء، والحقير لا يلائمه...‘‘
وهنا قاطعه الأمير بحدة شديدة قائلا :
’’ صه أيها لاقذر، فما الحقير غيرك. إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه، وأعلم ما يجب عليَّ فعله، فلا تتماد فيما ليس من شأنك‘‘...
فتصاغر بكر حول نفسه، وتمتم قائلا:
’’ لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص... لولا أني اطلعت منه على أمر لعل مولاي الأمير لم يطلع عليه..‘‘
فقال له الأمير في اشمئزاز:
’’ وما هو هذا الذي اطلعت عليه؟‘‘
- ’’ لقد أصبح يا مولاي منذ أوليتموه شرف هذا القرب يستقل بالتصرف في كثير من شؤون القصر الخاصة... ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاته في ذلك هو أن راح يقدم الأميرة ’’ زين‘‘ إلى صديقه مم، ويده بتزويجها منه...!‘‘
وما إن سمع الأمير هذا الكلام حتى أخ الذهول منه كل مأخذ، وهب من مكانه يدير عينيه فيما حوله من الفضاء قائلا:
’’ ماذا؟ تاج الدين... يتصرف في مثل هذا الشأن دون أن أعلم..؟ تاج الدين يقوم بتزويج شقيقتي لمن يريد. دون أن يستشيرني على الأقل؟ أم يبدو والله قد أسرفت في العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أية رهبة مني ولا خوف‘‘.
فدنا منه بكر قائلا:
’’ أليس يدري مولاي من هو تاج الدين..؟ إنه ذلك المعتز بنفسه، المغرور برأسه حتى قبل أن يحظى من مولاي بهذا العطف... فكيف وقد نُفح غروره اليوم؟ وإن أشد ما أخشاه والله يا مولاي أن يكون هذا الرجل يهدف من وراء استبداده الطائش إلى غرس نفوذه ونفوذ ذويه في رحاب القصر عن طريق المناسبة والمصاهرة، ليعلم بعد ذلك الإمارة لنفسه، ويسلسلها من لدن آبائه وأجداده..‘‘
وعاد الأمير فجلس في مكانه وهو يقول :
’’ لقد كان لي عزم والله على أن أجعل زينا من نصيب مم، وأن أقيم أفراحهما عما قريب. ولكن ها أنذا أقسم اليوم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع ذلك يكون، ولو جرت في سبيله سيول من الدماء حولي. فليتقدم إليّ إن شاء كل من ضجر من حمل رأسه ليتوسط أو يستعمل نفوذه في ذلك.‘‘
وهكذا أقام الأمير، بفتنة حاجبه الخبيث، أصلب حاجز بينه وبين كل من كانوا يريدون أن يتوسطوا إليه في تزويج ’’ زين‘‘ لصديق تاج الدين، وهدم آخر ساف من الأمل في إقامة فرح هذين الحبيبين، ولكن دون أن يعلم مم أو تاج الدين أو أي واحد من أصدقائهما هذه الوشاية التي تسببت في ذلك.. وهذا الدور الخبيث الذي لعبه بكر للوصول بالأمير إلى تلك القسوة في الموضوع. غاية الأمر أنه كان يصد إليه كل من كان يفاتحه في هذا الشأن، أو يحاول الرجاء أو التوسل إليه لتزويج مم من شقيقته زين وكان آخر ما قاله في مجلس ضم تاج الدين وشقيقيه وجمعا كبيرا من أصدقائهم، يحاولون فيه استرضاءه بشتى الوسائل، هو أن قال:
’’ ... تأكدوا جميعا أنه قد يمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر، ولكن لا يمكن أبدا أن أجعلها يوما ما من نصيب مم، ولا داعي أيضا إلى أن تعرفوا سببا لذلك أكثر من أنني هكذا أردت. ولا داعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى سمعي هذا الحديث، إلا إذا رأيتم داعيا إلى إثارة شر أنتم اليوم في غنى عنه..‘‘
ولقد كاد تاج الدين أن يعلن للأمير إذ ذاك أنهم ليسوا في غنى عن هذا الشر ما دام هو وحده الثمن لما تقدموا إليه برجاء تحقيقه، لولا أنه كان ذا أمل في تطورات المستقبل التي قد تسهل الموضوع، ولولا أنه كان يرجو استرضاء الأمير يوما ما عن طريق السياسة واللين عوضا عن الثورة والشدة.



.
 
في محراب الأحزان

الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو والسرور، ويمد من حول حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم، ويقدم كؤوسا مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق.
والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما. يقضي كل منهما الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت أي راحم.
والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من حرها، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة من صاحب وشريك فيهما. وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والإنفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون.
كان تاج الدين فيما مضى أليف مم لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما هاج به الشوق. وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين، فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها، وسرورها لا يتم إلا إلى جانبها.
أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما، وانشغل كل منهما بالفرحة بالآخر... وبقي مم لوحدته الموحشة، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجع له، ويتأوه فلا يرى أمامه من يواسيه. كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما بها، فهي دائما مختلية في غرفتها، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشة والإنفراد، تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم.
ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما... وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها، ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها.
أربعون يوما... كانت زين فيخلالها شاردة اللب، قد اتخذت من غرفتها محرابا للبكاء والزفرات، طعامها كله غصه، وشرابها مزيج بالدموع.
أربعون يوما... بدت من ورائها تلك الغادة التي طالما سحر جمالها وأسكر، وقد ذبل منها ذلك الجمال وتهدل، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعد تألقه نحو الرقة والذوبان.
ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهى إليه حالها. فكن يعجبن من أمرها، ويرثين لشأنها. ولم تكن تشك إحداهن في أنها تقاسي هذه الآلام لفراق أختها التي تحبها حبا شديدا.. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة هذه الذكرى لشقيقتها، ولكن دون أي جدوى.
وفي ذات يوم تجمعن كلهن، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها، وجلسن من حولها يواسينها ويقلن لها في رقة وعطف:
’’ كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم؟! وإلى متى تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم؟!
إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها. فبأي سبب تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأجزان؟
حسبك يا مولاتي... حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه. قومي.. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان. جففي لحظيك من هذه الدموع ليعود إليهما سحرهما، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه... اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياقوت الرحيق، فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب. دعي هذه الغرفة التي جعلت منها بزفراتك جحيما، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد طالت عليه فترة الكمود. مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها. دعي هذه الجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء. أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده، وليتدلى على الجانبين من ليل هذا الشعر قرطاه.
هذه الدنيا وزينته ... هذه الطبيعة وبهجتها.. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة.. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك عنها بكؤوس الدمع والأحزان.
الحياة جميلة يا مولاتي، وأنت أجمل منها. والدنيا من حولك مشرقة، وإشراقك أتم منها. فانهضي... وافرحي.. وابتسمي.. ليتم في الحياة الجمال.. ويتكامل للدنيا الإشراق..‘‘
وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن. فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها، واختلطت أصواتهن في صوت بكائها، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموع لم تسكب مثله إلى ذلك اليوم.
ولا بدع، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقادا، وهو سر مستكن في الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح. لا سيما إن كان هذا الناصح لا يدري سر الحزن والألم في من ينصحه، فهو يلقي على سمعه كلاما بعيدا عن دنيا قلبه وآلامه، لا ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربة وإحساسا بالوحشة والآلام.
ووجمت الفتيات في حزن وأسف... وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمة تشير بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب. ولكن عبرات عينيها، ونشيج صدرها، لم يكن شيء من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث.
ثم نهضن جميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه... وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار.
وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن... فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشةوالانفراد، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات، وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم.. وأحست من قرارة قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحدهم أصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم، وخالطوا كل حبة من قلبها ونفسها. فراحت تتأمل من حولها تلك الأشباح، وأخذت تحدثها قائلة:
’’ مرحبا بكم أيها الأصدقاء.. أيها الأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب المكلومة.. أيها الشركاء في سرِّ ما رواء الجوانح المعذبة، وأطياف الوسن لعيون الخواطر الحزينة... يا كوؤس الراح للحلوق المريرة، ومظهر البهجة أمام العيون القريحة...
العشاق جميعهم قد وصلوا إلى محاريب آلامهم، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج أنسهم وسعادتهم. وها هو ذا قلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم، لا يجوب أحد غيركم في أركانه.
لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون، وأن تتجازوا ذلك إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي. عيناي... سأتخذ منكم شعاع رقادهما، شفتاي... سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري... سأجعل إليكم في أيامي السود، وما أشد شوقي إلى الأنس بكم في ليالي الظلماء.‘‘
ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي‘‘ وكأنها جالسة إليها، تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة، فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم، وتمضي إليه لتعانقه قائلة:
’’ أختاه ... يا روح زين ونور بصرها، يا جليسة أفراحي وهمي، وشريكة سر قلبي، يا عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي. لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة، ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين. فليبتسم لك الدهر، فإن في ابتسامته عزاء لهمي. ولتسعدك الحياة، ففي إسعادها تهوين لشقائي.
أما حظي، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوزالقسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن إليها. كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التي تحيط من حولي، والبؤس الذي يقيم في نفسي. ذلك هو المقدر المسطور.. صفو الحياة وأفراحها من أجلك، وحزنها وآلامها لقلبي. لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيه أفراحها ، ولي مم الذي قدمته إليَّ في همومها وشقائها. فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته.‘‘
أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهر مختلية في غرفتها. وكثيرا ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها، تتأمل احتراقها، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها، وسيرها نحو الذوبان والنتهاء . فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذه الشموع، تسير مثلها نحو الاضمحلال والانطفاء. ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعة وتحدثها قائلة:
’’ أيتها الأخت القائمة حيالي، المحترقة بمثل ناري. لك أن تغتبطي وتحمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها. نارك إنما تعلو ظاهرا منك فقط، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني. نارك إنما تمس منك خيط هذا اللسان، ثم لا تتجازه، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي، ويقيم لهيبها حربا في كل جوانحي وجسمي.
هو في أعلاك نور يشع من حولك بهجة وضياء. وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات وقتاما.
هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام كاوية تفقدني النطق والكلام.
ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجر إلى المساء، زفرات كاوية... ولظى مستعر.. وأجيج متقد.. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار، ليس من فم يطفئه، أو نسمة تخمده.‘‘
وتلمح أثناء اطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع، فتنظر إليها بعينين زائغتين بالدمع قائلة:
’’ أيها الطائر الهارب من عش الفراق، والبلبل المولع بأزاهير اللهب، أيها الحجة الصائبة على المدعي الكاذب، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق.
قل لي، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران، ألا تشعر بتعب من هذا السعي المرتعش الدائب حول هذا المطاف؟
ولكن أسفا.. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في ضجر مرتعش.
كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب، وأن ارتعاشك الدائب طيش لا ينبغي، وأن تعجلك للفناء قبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من الصبر وآلامه.
هلا قعدت تصبر مثلي، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا، وتتلاشى المادة في ضرام الروح؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود، ولعادت روحا صافية في كأس شفافة من النور. وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في جنباته من غير اكتواء.‘‘
وهكذا كانت تمر حياة زين... خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام، يطوف كل ذلك بها، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيء واحد... هو اسم مم... هو حظها المنكوب الذي أبعدا عن أليف روحها، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها.



.
 
آلام مم

أما ’’ مم ‘‘ فقد كان عديم الصبر والقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه، يشركه في ألمه ووجده، فكيف به اليوم، وقد افتقد من جانبه الصديق، وغاب عن قلبه الأمل، ولك يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم القاتل..!!
لقد كانت فترة وجيزة من الأيام... سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع، المعتز بقوته وشخصه، المعجب ببطولته وبأسه وظهر من وراءها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة. ينظر ما حوله بعينين شاردتين، كأن فيه عتها أو جنونا، يهيم على وجهه بياض نهاره وسواد ليله، متنقلا بين الآكام والتلال، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا، ويتسلق أخرى ذرى الجبال صعودا ونزولا. لا يقر له مكان في أي جهة، ولا يكاد يستأنس بأي انسان.
إنه مم بعينه.. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبت الآمال في نفسه، وكادت تزدهر.
وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين.. إنه اليوم يراه فلا يكاد يتبينه، ويجلس إليه، فلا يرفع رأسه عن إطراقته، ولا يكلمه بغير آهاته وزفراته.
وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير.. إنه اليوم يدخل الديوان، ويرى الأمير أمامه، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه.
ولكنه مع ذلك ظل يكتم سر دائه عن كل مخلوق، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك أي وسيلة في محاولة إسعاده.
أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمته إلى خلوات الشطآن ، أو في بعض سفوح الجبال، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته، ويسكب كل ما في عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله، والمياه الجارية من أمامه جلساء يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره...
كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة، جالسا إليه في حديث طويل، يسكبه على صفحته الرقراقة، قائلا:
’’ أيها المتدفق كدمعي، الهائج مثل نار شوقي.
ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهار إلا هائجا زخارا، لا يقر لك قرار، ولا يهدأ منك البال؟!
أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات هذا العشق وجنونه، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار والهدوء فهي الذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة؟
ولكن من يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها؟ ففيم الهياج إذا؟ وهي نائمة بين ذراعيك منازلها مستقرة في قلبك، يمناك ملتفة منها حول الخصر، وشمالك مبسوطة فوق عقد النحر.
كل هذا، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها!... تظل ترغي وتزبد. هياجك يعلو إلى عنان السماء، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد! ألا قل لي، ما الذي تبغيه بعد كل ما أنت فيه؟ وأي أمل ضاع منك، حتى تظل حول نفسك من أجله؟
لقد كان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي، وهياجك في نفسي، ولقد كنت أجدر منك بأن تعلو إلى السماء زفراتي، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي.
فأنا الذي أظل متحاملا بقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله. تراءى لعيني منه، إذ كان بعيدا، بريق ماء عذب، ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم!
هو يا دجلة قلب مجدب، أحرقه وهج اليأس، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في تطوافك حول هذا البساط الأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج؟ فربما كان أخضرّ فيه أيضا غصن، أوهفت بين سمومه نسمة باردة.‘‘
ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله، فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه، ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا:
’’ أيها النسيم الساري في رقة الروح، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع. هل لك أن تلتفت إلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس؟ إن كان كذلك، فامض أيها النسيم في اتجاه هذا المشرق، فسترى فيه شدة الروعة والجمال، ومحراب سعادتي وأنسي. فإذا ما وصلت فقف بالأعتاب أولا لتقبلها. ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال، ولكن في تواضع ولطف، لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم. ثم تراجع خطوات إلى الوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة.. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه، وجسمه المتقد صفحة كتابته .
فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له في أدب ولطف: إنه يا مولاي بائس مسكين.. عاش فترة في حلم قصير من عطفك، ثم سرعان ماتبدد الحلم وضاع العطف، وغدا يتخبط في دياجير البؤس والشقاء. إنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه، اللهم إلا قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه، وهو اليوم هارب منه قد افتقده منذ أمد طويل. ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه، وربما كان قد اقترف إذ ذاك إثما أو جنى ذنبا، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهم النقص والسهو والنسيان. نعم، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده، وأن يتصرف كما يشاء في عقابه. ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه، وأن تدركه الرحمة له في دينه إلى ظل حماه ولطفه..؟
ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّ بغبار من تراب ذلك المكان. عد إليّ ولو بقليل منه، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسم دائي.‘‘
أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسه مطرقا في غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس .
إنه في تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه. قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم يعد يتعرف إليه. إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا:
- ’’ أيها الخائن الغدار... قل لي.. هل تتذكر..؟
هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان، التي كنت يوما ما تسوقها إليّ جملة واحدة لتؤكد بها مبلغ وفائك وإخلاصك؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي في شدة وعزم، بأنك صادق معي في كل أمر، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت.
هل تذكر إذ كنت تفتخر أمامي، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي ومن أجلي؟
هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي. ذلك الغرام الذي يستحيل أن يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف؟
هل تذكر إذ كنت تتصنع الكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي، وتشعرني بامتهانك لكل من على هذه الأرض في سبيلي؟
أسفا.. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك، ونسيته مرة واحدة لأول هوى في نفسك، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك.
ألا قل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا وراءك هذه الروح المعذبة في محبسها من هذا الجسد؟
هذه الروح التي خلقت معها توأمين، وعشتما معا خير قرينين، تمد وجودك دائما بسر من فيضها، وتبث فيك الاشراق من نورها. حسبك طيشا أيها القلب. وكفاك ابتعادا وتوغلا في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها. فإن الطريق، ويحيك، مظلمة. والهدف أمامك بعيد.
إنها ، ويحك، روحك! روحك التي هي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى تسعى ورائها. إن كان مقصدك الجمال، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن كان النور والاشراق، فمن ذا الذي يغذيك بأكثر من نورها وإشراقها.
أيها القلب عد. عد لا تخدعنك مفاتن الغروروالأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات الثغور والشفاه، ولا يأخذنك سحر العيون النجل، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة الشعور الملتوية. فكل هذا الذي يتألق في عيني كنوره إنما هو نرا وجمر، سرعان ما يتوقد عليك لهيبا، وتهلك في لظاه.
وإلا، فإن مثلك ألف بلبل، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام.. ثملا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب. لظى وضنى واكتواء.. ثمهو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك الورود والأغصان .
أيها القلب أنت معرض نفسك لمجال الهوى والملذات، مقصدك الوصول إلى صفوها والاستمتاع بنعيمها. ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن شفاءك إنما هو الاحتماءعن مطارح الشهوات، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة والحرمان. لقد حدثني هذاالطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو وراءه نفسك، والدواء ليس إلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه.
أيها القلب، كيف أكلمك، وعمّ أحدثك وماذا أقول؟ لا أراك إلا مدبرا عني، لاهيا عن حديثي وصوتي، كأنك لم تكن يوما تعرف صاحب هذا الصوت والرجاء.‘‘
وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا على القلب المسكين، ويتصاعد من سويدائه إلى أعلى الرأس فيه كأنما هو الدخان واليحموم، وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب مركوم في يوم ممطر. ثم ما هو إلا أن ينهمر بسيل من الدموع الحارة متدفقة من العينين! هنالك يروح ’’ مم ‘‘ مستسلما لتلك الدموع في نشوة وذهول، ويظل مستروحا بلهيبها، منتعشا بتدفقها، بعد أن كادت تخنقه غصة تلك الكلمات في حلقه، إلى أن تجف من العين، وتنعصر منه الحشاشة والكبد، حيث يعود ثانية إلى الحرب بين روحه وقلبه، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية، ويظل يعاني من غصتها إلى أن ترحمه حشاشته بفيض آخر من الدموع. وهكذا تظل القصة تتكرر وتعود.
بكى مم حتى تقرحت عيناه.. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته. ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى.
أما داره في المدينة فقد تركها حتى قبل أن يطرحه المرض، فقد كان يحاول جاهدا أن لا يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلامن كان من خاصة أصحابه كتاج الدين، خشية أن يبلغ الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرام الحمية، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير


.
 
رحلة إلى الصيد

كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلة وأبدع وشي، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندس أخضر وتخفق بنسمات فواحة بالعبير، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت في أطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آيات خالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها، والأودية غاصة بأشجار باسقة، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار، وعيون المياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطر افغانية
وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأميرعلى الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم، وأن على كل صاحب قوس أو نبل، أو ساعد وعزيمة أن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها
وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها. وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبوا كل لوازم الصيد وأسبابه، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساءورجال، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير...
وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام، وغابوا متفرقين في شعاف الجبال، كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء. فربما كان نصيب هذا أسداً كاسراً أو نمراً عاتياً، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه. وربما كان نصيب ذاك غزلاناً بديعة، يثبت لهم بها خفته وبراعته. وربما جاء آخر بأشكال نادرة من الطيور والحيوانات. وربما ظهر فيهم من تلقف من كل صنف ونوع، فراح يهز بينهم سنانه وقوسه، ويلوح لهم بساعده القوية، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظ ولم ينل أي نصيب.
ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره، وموليا كلامن المكافأة والقرب ما يستحق .





.
 
لقاء الحبيبين

ولندع الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم.. ولنعد أدراجنا إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس، ولنأخذ سمتنا إلى القصر.. فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق. ومع دنو خطواتنا من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘. هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها. ها هي اليوم، تقف على هذه النافذة في ذبول وإطراق، وقد اثّاقل بها الهم والكرب، ونال منها الشحوب والضنى، مسندة رأسها إلى قبضة كفها، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة والميادين. إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه، وتتبين فيه نموذجا عن حالة قلبها المقفر، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها، وتبددت الأحلام الجميلة، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان.
ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن الأمير في تشكيلها وإبداعها. جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها. ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي، أو على أي شاطئ من الشطآن. تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع.
لاحت لها تلك الحديقة خالية.. هادئة، لا يجوس خلالها أي إنسان، ولا يرى من بين أغصانها أي مستأنس أو مستمع، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود، وطيورا يسمع صوتها من بين أوراق الأغصان. فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها - بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها، فتخرج من محبسها في هذا القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة والانتعاش.
واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل وإعياء شديدين، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق، وشدت خصرها من فوقه بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من الفضة، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ وقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل .
ودخلت الحديقة، وراحت تمشي بين جنباتها، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة:
’’ أيتها الأطيار السعيدة: كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين، أسود الحظ، منكوب الطالع، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد! أفليس منكم من يدري في أي روض استوطن، وعلى أي غصن أقام عشّه؟... وهل فيكم من يحدثني عنه، أهو حي لايزال يخفق بجناحيه، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه..؟؟‘‘
ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال. فارتمت عندها، واستندت إلى جذعها، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل. ثم ثبتت عيناها على وردة صفراء، وقد تميزت عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة، فأثار ذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها... وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها، قد اصطبغت بتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض من الوحدة والوحشة، ليس من يرحمها، ولا من يرق لها، فراحت تخاطبها في رقة وحنان:
’’ أيتها الوردة الصفراء، إن اصفرار كهذا والله قد أحزنني. حدثيني، أهو لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات؟ أم هي البلابل. قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء، فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين؟
آآآه... إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة.! إن لي أختا من أمثال تلك الورود المزدهرة الحمراء، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به، ولكنه أبى، وأبعدني عنه، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان.‘‘
وكأنما شاءت الأقدار رحمة بهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء... فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ حين على فراش المرض، رغبة ملحة في الحركة.. في السير.. السير إلى أيّ جهة...!
فأخذ يتقلب مم فترة في فراشه، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في نفسه. ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من الفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه.
ثم نهض فارتدى عباءته الرقيقة، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها.. وأخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه، ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية. فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة. ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها، ويتمم سيره إليها، دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون، وفي أي مكان تقع.
وبعد قليل كان مم يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين، ينظر من وراء سورها إلى جوها الرائع، ويتأمل هدوءها الكامل، وخلو جنباتها عما سوى الطيور. ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في فيء شجرة من أشجارها. فمضى متجها نحو بابها المؤدي إلى الداخل، وقد كاد يسقط من الإعياء.
ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة - شبح مم على البعد، قادما من بين الأغصان..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها... وكانت الفرحة أكبر من قلبها.. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من خيالات أوهامها، أم معجزة حققها الله لها، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها الدهشة، ووقعت مغمى عليها بين تلك الحشائش والأشجار.
أما مم فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله. وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع. فراح يتأمل فينة وهو يقول:
-’’ فيم كل هذا الهلع أيها الطائرالصغير؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك جمالا، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت.
أيها الطائر، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها إلا وردة واحدة، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال، فليس التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد.
ولكن قل لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها! ثم حرمه الدهر من قربها، وأبعده حتى عن روضها، وتركه وحيدا في قفص الوحشة والأحزان؟ ‘‘.
وهكذا ظلت أفكار مم وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش، ولم يكد ينتبه إليها، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره، وألقته في يم من الغشية والنسيان، وهوى صريعا على مقربة من جثة زين.
وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى مم الذي أبصرته يمشي في الحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها. فعادت إليها الدهشة والذهول. وأخذت تحدق النظر في كل ما حولها.. في جدول الماء الذي ينساب أمامها، في الورود التي إلى جانبها، في مم وهيأته، كأنما تتساءل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة..؟
ثم استعادت كامل رشدها.. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن تسعدها في هذا اليوم.. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلى جانبها، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى عنهما حينا من الدهر. ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق، ومدت ركبتها من تحته، وأسندته إليها، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته. وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه.
فتح عينيه.. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين... ورأى أجمل وجه في الدنيا يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو.
ورفع رأسه.. وأخذ يجيل النظر فيها.. وفي نفسه.. وفي سائر ما حوله.. دون أنيدور لسان أحدهما بكلمة. هذا أسكتته الدهشة.. وتلك عقد لسانها الحياء.. ثم أمعن مم في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا:
’’ ماذا..؟ ألست أنت زين..؟ ألست أنت قلبي.. قلبي الذي فقدته من بين جنبي؟ ولكن.. أتراني في منام رائع.. أم نحن في الحياة الأخرى..؟ في جنان الخلد!! ‘‘
فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها، كيما يؤوب إليه رشده:
’’ بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي. ونحن هنا في الحديقة، حديقة قصرنا ألست تذكر.‘‘
وأخذ انتباه مم يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب، وآمن بالحقيقة.. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق لحظة منها، وعاد ينظر إلى زين من جديد. وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول: ’’ إن هاتين العينين من أجلك...‘‘ وفي ثغرها الرقراق البديع، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف، وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها.
وسكت... ثم قال لها في نشوة حالمة: ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين‘‘.. فأجابته: ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا مم. فها أنت ترى كيف فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك منذ أول ما التقينا...‘‘
فدنا منها قائلا:
’’ لا يا زين. إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل. وها أنا ذا ألمح بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن. عيناك... إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر. فيهما معنى رائع، احتارت في معرفته روحي، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني..؟ ثغرك... إن خمره اليوم لتبدو أشد إسكارا، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا. أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر، ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة، إذ تسترخي على العينين الفاتنتين ..‘‘
وقطع حديثة فجأة.. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه:
’’ ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا، مالي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان، أتطاول بهذا الكلام إلى البدر الذي لست أهلا للصعود إليه؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها، أما هذا الروض فإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به..‘‘
ثم قطعت غصة البكاء حديثه، وراح يجهش في بكاء حار أليم! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف مم تبلله بدموعها قائلة:
’’ أقسم يا مم بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به، وبالخلوات التي لم يكن يتراءى لي فيها سوى رسمك، أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت، وسأكون وقفا من أجلك، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا، وإما في الحياة الآخرة...‘‘
ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان. فقاما، واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها. وهناك جلسا يتواسيان.. ويشرحان الهموم والأحزان.. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله.. وراح بهما ذلك الحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها.


.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
الوفاء

انتهت الشمس إلى مغيبها، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك، منتشين بخمر اللقاء، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء.
وعاد الأمير وصحبه من الصيد.. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ماصادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصوات والضجة في كل جهاتها، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما.
وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه في إحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر إلى القاعة.. القاعة التي لا يزال مم وزين يتبادلان في غبش ظلامهما حديث الحب في ذهول عن كل شيء. ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح.. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة...!
هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله.. وأسقط في أيديهما...
وهنالك.. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة مم وتضاءلت خلفه. بينما دخل الأمير القاعة، ومن خلفه جماعته، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام...! فصرخ الأمير فيه قائلا:
’’ من هذا القابع هنا، وسط هذه الظلمة، من غير أي رخصة أو استئذان...؟‘‘
فاستجمع مم جرأته، ثم قال، دون أن يتحرك من مكانه:
’’ أنا مم يامولاي الأمير... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني في الفراش، مما منعني عن اللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد، فغادرت الفراش لأمشي قليلا.. ووجدتني أمام هذه الحديقة.. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق..‘‘
فقال له الأمير، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه:
’’ حسنا. وكيف حالك اليوم...؟ وهلا أسرجت لنفسك...؟؟ ‘‘
فقال: ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية.. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي.. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري..‘‘
وأسرج المكان وجلس القوم.. وأخذ تاج الدين يلحظ مم من مكانه في المجلس، ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها، إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه، وساوره القلق.. وتطلعت نفسه إلى معرفة السر الحقيقي لجلوس مم هنا... في هذا الوقت... بهذا الشكل!! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره.. فلم يكن من مم إلا أن مد يده في هدوء إلى داخل العباءة، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها..
فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر.. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة.. ما من ريب في أنها ستأتي على حياته. وأخذ يحاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة.
ولاحت لذهنه الفكرة... فكرة واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر. وما هو إلا أن ان ثنى خلف باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره..!
ودخل الدار لاهثا، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون. فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة:
’’ ماذا... ماذا حدث هل هناك أي عدو؟! ‘‘
فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل:
’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا. أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر..! ‘‘
ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا:
’’ إن مم وزين واقعان تحت ورطة عظيمة، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما. ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما..‘‘
ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول:
’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار...‘‘
وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا، وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع، في سبيل إنقاذ صديقه.. والوفاء له..!
وانطلق تاج الدين يستنجد.. وراح الخبر يسري في كل مكان.. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك.. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء.. بينما تباطأ مم في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما.. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا:
’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر...‘‘


.
 
وقفة عابرة

أيها الساقي حسبي... حسبي فإن العقل لا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب، وأخشى أن يداهمني سلطان الأجل كما داهم الأمير مم ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل تاج الدين ينجيني وينقذني..
أيها الساقي، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة.. فأبعدها عن شفتي.. أبعدها، فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب.. أبعدها ويحك قبل أن يطرحني وهج الشمس أمام رقراقه الكاذب، ويتلفني هناك الظمأ والضنى...
ولكن.. ولكن حدثني، أليس بين زجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى..؟ تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس، وتسكرني بروعة الجمال الخالد.. وتنتشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقهاالخداع.
آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا.. ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه، لكي أعلو بها فوق هام هذه المادة، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها، والوفاء الذي أدين به.
ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني، وبريق السرير الذي أمتد عليه، إذا كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدها بنور ذلك القصر والزينة والسرير؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي، إذا كان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه؟.
هذه المادة الفانية، ما أثمنها في القلب، وأبعثها للنشوة في النفس، عندما تكون فداء للمعاني القدسية الخالدة. وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركزالبقاء والخلود...


.
 
عودة الفتنة

لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة. وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما يحيط به من حجب، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي، وسلطانه القاهر، ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا...
ولقد استطاع مم وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما، وأن يحجبا عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا.. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر، وانتثرت مدامعهما بين أبصار الناس، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل مكان، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلاصابه وعلقمه أقاويل كاذبة. وتسرب الخبر إلى ’’ بكر ‘‘.
تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الحبيث، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات اللازمة له. وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه، وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه...!
فثار جنون الأمير - ويا لجنون الأمراء حين يثور - واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه، وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله، وقام يذرع المكان الذي ليس فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى. فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد مم منفردا فيطير رأسه، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا لاهبة على مم وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما.
ولكنه عاد أخيرا، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان. لا يستأهل إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق. فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة والغضبة عليه وحده قائلا:
’’ يبدو أيها الحقير الوغد، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة..! ولكن إعلم أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي تقول‘‘.
فجمدت ملامح بكر قليلا، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد.. ثم عاد فتمالك رشده قائلا:
’’ يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا مم إلى مبارزة بالشطرنج الذي يفتخر بالمهارة في لعبه. وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل ما يقترحه ويتمناه. فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك..‘‘
فأعجب الأمير بهذا الرأي.. وسرعان ما التفت فدعا خدمه، وأمرهم بإعداد القاعة الكبرى - وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح - وتهيئتها لسمر حافل تلك الليلة، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء مم ليأتوه به، ويبلغوه دعوة الأمير له للحضور إلى سمر في القصر...
وراح الأمير ينتظر.. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب، ودمه يغلي في رأسه. إنه في ظمأ شديد إلى أن يعرف.. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي بعد ذلك غيظه، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء...
وجاء المساء. وهيئ مجلس الأمير كما أراد.. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في وسط المكان، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة. وامتلأت القاعة بالخاصة من حاشية الأمير ورجاله، إلا تاج الدين وشقيقيه، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث وراءهم. وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن لباسهم وكامل أسلحتهم.
ودخل الأمير. وهب المجلس قائما، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له في صدر المجلس. وجلس الأمير.. وسكت الحاضرون.. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء ورهبة إلى أن وقع بصره على مم، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا:
’’ سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا مم. فهل لك أن تعرض أمامنا الليلة مهارتك هذه، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال.‘‘
فأجاب مم في هدوء، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه: ’’ لم يكن لي يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني بما شاء‘‘.
فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشيرإليه، قائلا:
’’ بل قم.. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها...‘‘
وقام مم من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه.. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة. وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير:
’’ إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه‘‘
وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لمم اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه ما بينه وبين عمته زين من الحب.. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه، وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بمم. فتسلل من قصره، وانطلق متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء، بما له من قرب إلى الأمير.
ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس، يترقبون ما سيحدث...
وتغلب مم على الأمير مرتين متواليتين.. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب الأمير بدهائه ومهارته، وبدا على وجه مم وهو منكب على اللعب في استغراق شديد إشراق واضح من الأمل والسرور.
بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة يتعثر بها مم عن التغلب على الأمير في هذه المرة. إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة وفاء الأمير له بالوعد، وذلك يعني زواج مم من زين...
وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى جدار القاعة المقابل لظهر مم، ترقب اللعب باهتمام.. فالتفت إلى الأمير قائلا :
’’ ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في اللعب...‘‘
فنهض كل من المتبارزين، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها.. وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا مم إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله، ليجد زينا واقفة أمامه ترمقه
وهنالك تشتت ذهنه، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير، كانت عيناه لا تنفكان عالقتين بالاعلى، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى، يفدي الجنود مرة بالخيول، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير، وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس مرات متواليات وختم اللعب على ذلك!
وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي مم الخجل والحياء فنظر إليه قائلا:
’’ إيه أنسيت الشرط يا مم؟‘‘
فأجابه مم وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من الإخفاق الذي انتهى إليه:
’’ لا ... فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء.. ‘‘
فقال له الأمير: ’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك ما لا تغنينا به، أو جاها ترفعنا إليه. و إنما يعنينا أن نعرف السرائر... فحدثنا عن قلبك. قل لنا من هي التي تكن لها حبا، وتمني شبابك بها، كي ننظر.. فإن كانت لائقة لك، حاولنا إسعادك بها...‘‘
فأطرق مم قليلا، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه . وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه، فقال:
’’ يا مولاي: يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد كنت رأيتها مرة، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس الأمير...‘‘
فأثار هذا الكلام غضب مم، والهبته حميته وإباؤه، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة والمجد. وأسكرت الطعنة عقله. فنسي الأمير الذي أمامه، والناس الذين من حوله، وانتفض منتشيا يقول لبكر:
كذبت والله أيها الحقير النذل، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك، وكفؤ دنائتك. أما التي عندها قلبي، فرفيعة المجد، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها، رائعة الجمال، لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها... أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن ينازعها فخر ذلك. إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق.
إنها... إنها أميرة هذه الجزيرة...! ‘‘
وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة الغضب قائلا:
’’ ولأجل ذلك، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها، مدنسا بدناءتك قصري هذا...؟‘‘
ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا:
’’ ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا؟ هيا.. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان فقد آن أن يعتبر بع غيره...‘‘
وقبل أن ينقض الحرس على مم، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء، كل منهم هامة، وساعد، وقامة..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب. وراح أوسطهم وهو تاج الدين يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى مم.. قائلا:
’’ مكانكم أيها الاوغاد، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلوا بطشنا! أم أنكم نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا...؟
ربما تستطيعون أن تصلوا إلى مم، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم، وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم..‘‘
ثم دار رأسه نحو الأمير، يرمقه بطرف عينه قائلا:
’’ أما مولانا الامير.. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه.. فإن له في أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه... قد لا يكون من المناسب أن ننكرها..‘‘
وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى مم فقيد يديه، وأمر به إلى السجن..! وسكت تاج الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم. ولكنهم لم يجدوا من الحكمة - وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس - أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا.
ثم فض المجلس، وانصرف الناس في وجوم وحزن. بينما كان مم يتخذ طريقه إلى قاع السجن!

.
 
صفاء الروح
حكم الفلك أزلي قديم، وإصرارالدهر قضاء لا يتراجع، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ.
فماذا يغني التأوه والضجر، وأي فائدة يجني الألم والتوجع، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذا كانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان؟!
على أن السجن الذي انتهى القدر بمم إليه لم يكن كأي سجن آخر، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض، ضيقة الأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها، اللهم إلا من تلك الكوة العليا، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء.
وأنزل مم إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره. فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصر شيئا سوى أشبح السواد المدلهمة المطبقة من حوله، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس، وراح يخطو في حذر متلمسا بيديه الهواء، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة...
تفكر شبابه الغص وقوته النابضة... عزته وبأسه.. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس، ولم يكن قد مس قلبيهما شيء من هذه الآلام. ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا، والسكرة التي غشيتهما في مسائه...
وتذكر الآلام.. والآمال التي ترعرعت في نفسه، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله، وتصدع قلبه.. قلبه الذي لم يرحمه أحد، ولم يعطف عليه إنسان، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به، والدموع التي قرحت عينيه، وروى بها الآكام والسفوح، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة! ثم تلك السويعات الجميلة... التي كانت كل أيام سعادته من دنياه، والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده. ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش.. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر: هذا الظلم له من الناس دون أي جريرة أو موبقة ارتكبها.. افتراآتهم عليه، واستعانتهم بدموعه وآلامه.. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته.. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير.. الأميرالذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيته والاستمتاع به. لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك، وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل.
وما إن راح يستعرض في فكره كل هذا.. حتى رق قلبه عليه، وأدركته الرحمة لنفسه، وراح يبلل ثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع، وأمله الذي خاب، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام.
ثم التفت حوله، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانها السود تلوح لعينيه، وتراءت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستند إليه الجنب، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها، يمتد عليها بساط مهلهل.
وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيل فيه الرحمة والعطف، ليتعلق به ويبثه كربه، ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء، لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا. فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومن فيها، ولم يجد أمامه إلا السماء.. السماء التي هي وحدها بمثابة المكروبين ومآل البائسين والمظلومين. فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا:
’’ رباه ألست تبصرني..؟
ألست تبصرني، وأنا عبدك الضعيف، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها...؟
رباه إن عبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي، وإنما سحقوا جراحي، كما ترى، في التراب، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي. فارحمني أنت يا رب، فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك، ولن أتذلل إلا لجلالتك...‘‘
ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب..
وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة، يناجي الله سبحانه قائلا:
’’ إلهي، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها، فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها. فليظلمني الظالمون، وليكد من أجلي الكائدون، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش. فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله.
ما أعذب إلى نفسي الصبر.. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك.
أما اليأس.. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي؟ّ أقسم بالقدّ الذي سبيتني باعتداله، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله، أقسم بالنور الذي أضرمته علي نارا، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا، أقسم بكل ذلك أنهذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولو أسدلوا بيني وبينه حجاب الموت! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك.
ولماذا لن يسعد...؟ وهما وحقك يا مولاي، كما تعلم، روحان طاهرتان عفيفتان، لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف، ذي الرحمة الواسعة، والعدل الشامل.
واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم...! إذ نمضي إلى رحابك، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين، وتضمنا بين ذراعي رحمتك، آمنين مقبولين..‘‘
وهكذا أخذ يهبط إلى قلب مم، وهو في قعر تلك الموحشة، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم. وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده. فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأ يناجي فيها الله تعالى، ويتعبده لياليه وأيامه. يدخل إليه حارسه لإحضار طعامه إليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة...
وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق. وكلما راح منه الجسم نحو الرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة، ازداد غيبوبة عن الدنيا وأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يد الروح تصرفه كما تشاء، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب.
وبدأت الروح ترقب في شوق ولهفة شيئا واحدا.. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها...

.
 
أعلى