العادل خضر - الطّعام والباه تفكيك أساطير الفحولة في حكايات من كتاب “الرّوض العاطر في نزهة الخاطر” لل

1/4
Est-ce que tu fais toujours mariner)
des serpents d’eau dans l’alcool
(...pour garder ta virilité
.Salman Rushdie, Les enfants de minuit, p34
“أوَ تُنقع دائما ثعابين الماء في الكحول لتحافظ على فحولتك”.
سلمان رشدي، أطفال منتصف اللّيل، ص34



***



في معنى الباه والقوى الأنثويّة

“ولي امرأة جميلة شابّة، إذا رأتني قد اطّليت وغسلت رأسي وبيّضت ثوبي، عارضتني بالتّطيّب وبلُبْس أحسن ثيابها، وتعرّضت لي، «وأنا فحل، والفحل لا يردّ رأسه شيء»” (1).

“والباهُ والباهةُ النّكاح وقيل الباهُ الحظُّ من النّكاح. قال الجوهري: والباهُ مثل الجاه لغة في الباَءَة وهو الجماع. وفي الحديث أَنّ امرأَة مات عنها زوجُها، فمرّ بها رجلٌ وقد تزيَّنَتْ للباه أَي للنّكاح (...) ابن الأَعرابي: الباءُ والباءةُ والباهُ، مَقُولاتٌ كلُّها، فجَعل الهاء أَصلية في الباه. ابن سيده وبُهْتُ الشّيءَ، أَبوه وبِهْتُ أَباه، فَطِنْت. يقال: ما بِهْتُ لهُ، وما بِهْت، أَي ما فَطِنْتُ له. والمُسْتَباه الذّاهبُ العقل، والمُسْتَباه الّذي يخرج من أَرض إِلى أُخرى.” (2).

يمدّنا اللّسان بخيطين أو مسلكين في تعريف “الباه”. فهو من جهة متّصل بالنّكاح والجماع، ومتّصل من جهة أخرى بالانتقال ومغادرة المكان وذهاب العقل. وهذان المسلكان متكاملان على نحو وثيق طالما أنّ “الباه” ليس مفهوما كالمفاهيم الفلسفيّة أو الأدبيّة أو السياسيّة...، وإنّما مسار كالمسار السّردي، ترتبط فيه الأعمال ببرنامج يبدأ بذهاب العقل، ويتوسّط بالانتقال، وينتهي بالجماع. ففي النّكاح والجماع يجتمع المرأة والرّجل معا لقضاء المتعة الجنسيّة، وهي متعة تستثيرها المرأة بجمالها، وزينتها، واستجلاب الرّجل إليها بفتنتها، وجعله يدور في فلكها الأنثويّ (3). فـ“الباه” في هذا المستوى مرتبط بالفتنة la séduction والأنثويّ (le féminin (4، أي في مدار مضادّ للتّمركز الذّكريّ القضيبيّ، أو للقضيبيّة الذّكريّة phallocratie masculine. وهو لا محالة مدار الإنتاج، كإنتاج البضائع، والمعنى، واللّحم البشريّ. ولمّا كانت الزّينة هي هذه الزّيادة supplément الضّروريّة في وسم الأنثى وتنزيلها في مدار القضيبيّة الأنثويّة phallocratie féminine، أو الفتنة الأنثويّة، فهي أيضا (أي الزّينة) هذه العلامات الإضافيّة الّتي تجعل الأنثى كائنا فاتنا، تمتلك الكفاية اللاّزمة الّتي تحمل الذّكر على أن يفارق أرضه، فيتحوّل بمجرّد الذّهاب إليها إلى ذكر “مُسْتَبَاهٍ”. فالفتنة الأنثويّة لا تشتغل بتجريد القضيبيّة الذّكريّة من خصالها الذّكريّة، وإنّما بانتزاع الذّكر من مكانه، أي بفتنته واستجلابه إلى موضع الأنثى (5). فالإنسان “المُسْتَبَاه” في اللّسان هو “الّذي يخرج من أَرض إِلى أُخرى.” ففي ذلك الخروج تنقّل وانتقال من موضع إلى موضع، وفي الانتقال تحوّل يجعل الذّكر يفقد كينونته، أي المكان الّذي كان فيه متمكّنا. فأن نكون هو أن نتمكّن من المكان. وعندما نُنْتزع من المكان نفقد ما به تكون الكينونة منشدّة إلى أرضها. فالرّابط الّذي يشدّ الرّجل إلى الأرض هو العقل، طالما ظلّ معنى العقل يدلّ على الوثاق الّذي يشدّ، والرّباط الّذي يحبس (6). فإن انحلّ الوثاق ذهب العقل ووَهَن عقاله وتراخت روابطه الّتي تجعله بالأرض متمكّنا.

من الشّيّق أن تكون العبارة المتكرّرة في باب “في كيفيّة الجماع” من كتاب “الرّوض العاطر” هي “إذا أَرَدْتَ الجماع فأَلْقِ المرأة على الأرض” (7). فإلقاء المرأة على ظهرها، إلى الأرض (8)، هو تثبيتها في أرض الذّكورة وعقلها لحرثها حيث “منبت الولد” (9). وقد استشهد صاحب “الرّوض العاطر” بالآية القرآنيّة “نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ”، مستعرضا بعدها بعض أنواع النّكاح بوصفها طرائق مختلفة في ممارسة طقس الإلقاح «le rite inséminateur». وهو طقس يُمارس بالإيلاج لبذر النّطفة في “مزدرع الأولاد”.

تشتغل المتعة الأنثويّة ضدّ كلّ “حرث” و“ازدراع” و“استنبات” و“ولادة” و“إنجاب”، بانفصالها عن موضع الحرث، وفكّ الذّكر من روابطه بالأرض، وزعزعة تمركزه القضيبيّ، وانتزاعه من مجال الذّكورة بواسطة “الباه”. فإذا طلب الرّجل “الباه” اضطرّ إلى طلب الأنثى بالانتقال إليها. فإذا انتقل فقد عقاله، أو عقْله الّذي يشدّه إلى موضع الذّكورة، فيضحي ذاك الذّكرُ “مُسْتَبَاهًا” بمجرّد تنقّله من حقل الذّكورة إلى “روض” الأنوثة العاطر. وبذلك الانتقال يتحوّل إلى “مستباهٍ” قد “ذهب” عقله. ذلك أنّ من معاني “اَلْمُسْتَبَاهِ” “الذّاهبُ العقل”. ولا يعني ذهابُ العقل انقلابَ “اَلْمُسْتَبَاهِ” إلى مجنون، وإنّما زوال كلّ الحواجز الّتي تمنع الحبّ وتعرقل نشوء علاقة بين اثنين، يجمعهما مشهدٌ يسمّيه باديوBadiou مشهد الاثنين (la «scène du Deux» (10. وهي علاقة لا يمكن أن تنعقد إلاّ إذا انتقل الذّكر إلى مدار الأنثى. فلفظ الجماع الّذي ورد للتّعريف بـ“الباه” إنّما هو دالّ على تأسيس علاقة جديدة من شروط إمكانها زوال كلّ ما يمنعها، وهو العقل. فالرّوابط الّتي كانت تمنع الذّكر من الانتقال إلى الأنثى هو مكوثه مقيّدا بالأرض. ولمّا كان العقل مرتبطا بالعمل، أي بالإنتاج، فإنّ بقاء الذّكر مقيّدا بالأرض هو بقاء للإنتاج: إنتاج الألفاظ لإلقاح المعاني، وإنتاج البضائع والسّلع، وإنتاج البشر بجلب الأنثى إلى أرضه ليحرثها. كلّ هذه الضّروب من الإنتاج إنّما هي مظاهر مختلفة من التّمركز القضيبي الذّكريّ، ومظاهر مختلفة من قوّة الإنتاج في مدار القضيبيّة الذّكريّة.

هذه القوّة معرّضة دائما للوهن والضّعف وعدم الإنتاج بتعطيل الإنتاج. وهاهنا فحسب يضحي “الباه” قوّة غير منتجة، لأنّها تشتغل خارج مداري العقل والعمل (11). فالباه، بهذا المعنى، يترجم مبدأ اللّذّة principe de plaisir. وهو مبدأ قد عمل في العديد من حكايات “الرّوض العاطر” بشيء من الإفراط (12). بل بذلك الإفراط كان مبدأ اللّذّة خارج العقل والعمل كما أكّد باطاي (Bataille (13. فالباه قوّة لا تكون إلاّ بالتّنقّل والانتقال، أي بمغادرة موضع العمل وهو الأرض، وبالتّحوّل، أي بذهاب العقل وزوال عقاله. فالباه قوّة استعاريّة هذا إذا استحضرنا التّصوّر الإغريقيّ للاستعارة. فهي قوّة بائيّة، تشتغل بالحمل والتّنقّل والتّحوّل. وكلّ ما تلمسه الاستعارة بقواها البائيّة ينتقل إلى مدار الأنثى ويصبح ذاك “اَلْمُسْتَبَاهَ”. فالذّكر بقوّة الباه يضحي “مُسْتَبَاهًا”. ولا يكون ذاك “”اَلْمُسْتَبَاهُ“أو في حال”اَلْمُسْتَبَاهِ“إلاّ إذا وقع في إسار القوى الأنثويّة، وهي قوى استعاريّة تعطّل عمل القضيبيّة الذّكريّة بجعل قوى الإنتاج غير منتجة. فالزّينة، أو الزّينة الّتي بها تكون الأنثى أنثى، وبفضلها تفعل قوى الفتنة فعلها المربك، إنّما يتجلّى وقعها العنيف في مظاهر شتّى. فهي الّتي تعطّل إنتاج المعنى، لأنّ اللّفظ إذا كثرت زينته احتجب المعنى فلا يحيل على شيء إلاّ على زينته ورونق لفظه (14). وهي أيضا الّتي تعطّل إنتاج اللّحم البشريّ لأنّ غاية الجماع وغاية الباه إنّما هو المتعة الخالصة الّتي لا تقيّدها حدود القانون. فهي تتحرّك خارج مدار النّافع، بما أنّ النّافع في الجماع هو طلب الولد. وخارج هذا المدار، لا شيء يصادفنا غير متعة وقد تحرّرت من القوى الّتي كانت تشطبها حتّى تكون نافعة. هذه المتعة هي لا محالة متعة أخرى تسمّى عند لاكان Lacan المتعة الأنثويّة Jouissance féminine. وهي لا تترجم بالكلام، ولكنّها تتجلّى كلّما انفلتت قوى الفتنة من قمقمها، فتجعل الذّكر”مُسْتَبَاهًا“فاقدا لعقله وخارج كلّ إنتاج، وفي مدار أقرب إلى اللّهو والعرض والسميولاكر (simulacre (15. فالباه في مدار المتعة الأنثويّة قوّة يغيب فيها المعنى. فهي غياب المعنى (ab-sens (16، لأنّ المعنى في غيبوبة قد فَقَدَ اتّجاهه لمّا فَقَدَ العقلُ أواصرَه الّتي تشدّه إلى موضعه الأصليّ، وهو الأرض. فهو، دون أرض، في تيه، ومن دون معنى مستباهٌ في غيبوبة. فالباه في المدار الأنثويّ فقدان تامّ لمبدإ الواقع principe de réalité، وبذلك الفقدان اشتغل مبدأ اللّذّة على نحو مطلق، أي دون قيد وشرط ووثاق. وعندما يشتغل الباه على هذا النّحو يصبح كرنفاليّا بالضّرورة، لأنّ زينةَ المرأة شكلٌ من أشكال الفرجة والاحتفال الأنثويّ بالجنس خارج قوانين العقل والعقد الاجتماعيّ. فهي لا تكتفي بفتنة الرّجل بانتزاعه من مجاله الذّكريّ، وإنّما بربطه بمجال الأنثى حيث يفقد العقل عقوده ومواثيقه، ويندمج في فضاء جديد قد انقلبت موازينه رأسا على عقب، تهيمن فيه متعة الأنثى هيمنة لا يمكن الحديث عنها إلاّ مشطوبة. فالنّساء، وهنّ ممثّلات هذه المتعة في”الرّوض العاطر“، قد اختزلن في جنس لا يرتوي،”لا يشبعن من نكاح“(17)، وفي المقابل”يشبع فيهنّ من هو مسخرة، أو وصيف، أو خديم، أو محقور، أو متروك“(18). وهي صفات الإنسان الوضيع الّذي ترك الخدمة والعمل وذهب عقله فتحامق، ولكنّها أيضا صفات قريبة جدّا من صفات المستباه، لا السّيّد (19). فالسّيّد وحده ينتج اللّحم البشريّ. أمّا”اَلْمُسْتَبَاهُ“فهو كالخصيّ”مأمون الإلقاح“لا تطلب نطفته، إنّما يُؤتى به للنّساء حتّى”يشبع فيهنّ“، ويشبعن به. فالعلاقة بين النّساء و”اَلْمُسْتَبَاهُ“، في مدار المتعة الأنثويّة، هي علاقة التهاميّة، فيها من استعارات الحرب والمصارعة و”الكفاح والنّطاح وشديد القتال“، ما يشي بأنّ العلاقة بين الرّجل والمرأة محكومة بنظامين من الجماع:

1 - جماع يطلب منه الولد تختزل فيه ذات المرأة فتصبح مجرّد رحم. ولكنّه رحم قد تحوّل في خطاب العلماء (20) إلى موضوع لعلم التّوليد une maïeutique، وهو علم يطلب بوصفه طريقة في صناعة الآباءprocédure de fabrication des parents ، حسب عبارة بيار لوجندر (Pierre Legendre (21. فالإنجاب يجعل من الأب شخصا نافعا (22).

و2 - جماع لا يطلب منه شيء سوى قضاء الشّهوة، ولكنّه يثير مسألة الإيروسيّة الأنثويّة في علاقتها بالنّكاح بما هو حرث و”مزدرع الأولاد“. وهو في النّهاية يترجم المتعة الأنثويّة الّتي لا تتجلّى في خطاب”الرّوض العاطر“إلاّ مشطوبة (23)، بيد أنّها رغم الشّطب rature لم يتمكّن”القانون الحمدليّ“بخطابه الشّرعيّ من تطويقها وترميزها (24)، لأنّها ظلّت خارج مدار الحقيقة، وخارج مدار القوّة الذّكريّة بوصفها قوّة إنتاج (25). والمقصود من الشّطب أنّ المتعة الأنثويّة لا يمكن الحديث عنها خارج المتعة القضيبيّة jouissance phallique، لأنّها متعة بلا دالّ signifiant يمثّلها، طالما أنّها تتنزّل في مدار خارج اللّغة. فالشّطب هو الّذي يجعل وجودها المفترض ممكنا بنكرانها وجحدها. فبهذه الطّريقة في النّظر شطبت المتعة الأنثويّة في الرّوض العاطر على نحو مكروه (شرعا) غير مندوب، اعتصر في أنموذج من النّساء هو”المكروه منهنّ“(26). وهو أنموذج لهويّ بامتياز جسّمته”المرأة الضّاحكة، الكثيرة اللّعب والضّحك [...] كثيرة الكلام، خفيفة الرِّجْل، كثيرة القيل والقال، نقّالة الأخبار، قليلة كتم الأسرار، كثيرة الكذب، صاحبة الحيل“. فنشاطها الأعظم هو الكلام بإفراط شديد وشطط لا يوازيه سوى التّفريط في كلّ ما له صله بالعمل النّافع المثمر. فهي:”قليلة التّدبير، كثيرة الاشتغال بالنّاس وعيونهنّ، كثيرة البحث والتّفتيش عن الأخبار الباطلة، كثيرة الرّقاد، قليلة الشّغل...“(27). كلّ هذه العيوب قد تضافرت لصناعة أسطورة”المرأة المكروهة“تارة بتعييرها بذكر ما فيها من عارٍ، وطورا بشتمها، أي بإلحاق ما ليس فيها من العيوب (28). وسواء أكانت أسطورة”المرأة المكروهة“قد صنعت بما فيها، أو بما ليس فيها من عيوب، فإنّ وظيفة هذه الأسطورة تظلّ واحدة هي شطب المتعة الأنثويّة بإقصائها شرعا بواسطة”الخطاب الحمدليّ“الّذي يتكلّم من موقعه مؤلّف كتاب”الرّوض العاطر“. فـ”المرأة المكروهة“هي الأنثى الّتي أُقصيت بالشّطب من فضاء الذّكورة، لأنّ بقاءها فيه يهدّد كينونة الرّجل. وهي كينونة يستمدّها من مواثيقه وعهوده الّتي تجعله بالأرض متمكّنا. فـ”المرأة المكروهة“هي كناية عن قوى الأنثى البائيّة الّتي لا يُتّقى من شرّها إلاّ بشتمها وسبّها، لأنّها قوى تنتزع الذّكر من مجاله الأوّل déterritorialisation، وذلك بإعادة تسجيله في مجال آخر reterritorialisation لا يكون إلاّ إذا صار مستباها ذاهب العقل (29).

وبهذه الأمثلة وغيرها تتّضح قيمة كتاب”الرّوض العاطر“. فهو من الآثار النّادرة الّتي تحدّثت عن الباه من خلال أسطوريّات mythologies ذكريّة صنعتها المؤسّسة الذّكريّة، لا لجعل القوى البائيّة في إطار النّافع على غرار كتب الطّبّ، فهذا المقصد ماثل في بعض أبواب الكتاب (30)، وإنّما لجعل تلك القوى تشتغل لصناعة أساطير مضادّة للمتعة الأنثويّة هي أساطير الفحولة (31). هذه الأساطير هي، في تصوّرنا على الأقلّ، أشكال من الشّطب تبرز في أشكال شتّى، وتتجلّى بطرق مختلفة عندما ينظر إلى المتعة الأنثويّة من زاوية المتعة القضيبيّة.

=================
الهوامش:

أبو عثمان الجاحظ، البخلاء، تحقيق طه الحاجري، القاهرة، دار المعارف، الطّبعة السّادسة،1981، ص.ص140-141. وما أبرزناه هو عبارة قد حذفتها الرّقابة المدرسيّة من بعض الكتب. انظر، كتاب نصوص أدبيّة لتلامذة السنة الخامسة من التعليم الثانوي، الجزء الأوّل في الأدب القديم، نشرة 1992، ص554.

2 ابن منظور، لسان العرب، مادة [ب.و.ه].

3 انظر، Daniel Sibony, (1991) Le Féminin et la séduction, Paris, Le Livre de Poche, biblio essais, p20 حيث بيّن أنّ من معاني الفتنة الإخضاع والاستعباد assujettir. وتمثّل حمدونة بنت الخليفة المأمون في حكايتها مع بهلول أنموذج المرأة الفاتنة الّتي يفتتن كلّ من رآها بجمالها ويخضع لمرآها الأبطال خوفا من فتنتها. وقد جاء وصف الخوف من فتنتها في، محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، ويليه كتاب الإيضاح في علم النّكاح، تونس، مكتبة المنار، ص12، على النّحو التّالي”[...] إذا رأتها الأبطال تخشع وتذلّ، وتخضع أعينهم في الأرض خوف فتنتها لما أعطاها الله من الحسن والجمال، من حقّق نظره من الرّجال فيها افتتن، وهلك على يدها أبطال كثيرون [...] كان بهلول هذا يكره الاجتماع معها، فترسل إليها فيأبى خوفه من الفتنة على نفسه...“. والإبراز إبرازنا. ونعتمد على هذه الطّبعة الشّعبيّة غير المحقّقة دون اعتبار لمسألة الفصاحة والسّلامة اللّغويّة.

4 هذا إذا اعتبرنا لفظ”الفتنة“هي المقابل العربيّ للفظ séduction من اللّفظ اللاّطيني seducere الّذي يعني الفصل séparer. انظر، Daniel Sibony, Le Féminin et la séduction, op.cit, p33..

5 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص3، حيث جاء في خطبة الكتاب هذا الدّعاء”سبحانه من كبير متعال، القاهر الّذي قهر الرّجال بمحبّتهنّ، وإليهنّ الاستكان والارتكان، ومنهنّ العشرة والرّحلة، وبهنّ الإقامة والانتقال“. والإبراز إبرازنا.

6 جاء في اللّسان في مادّة [ع.ق.ل] ما يلي:”والعَقْلُ التَّثَبُّت في الأُمور، والعَقْلُ القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْلُ. وسُمِّي العَقْلُ عَقْلاً لأَنه يَعْقِل صاحبَه عن التَّوَرُّط في المَهالِك أَي يَحْبِسه [...] وعَقَلَه عن حاجته يَعْقِله وعَقَّله وتَعَقَّلَهُ واعتَقَلَه حَبَسَه [...] والعِقالُ الرِّباط الذي يُعْقَل به [...] “

7 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص.ص32-33، وهي عبارة قد تكرّرت بصيغ متنوّعة تنوّع هيئات الجماع من قبيل”تلقي المرأة على ظهرها“، أو”يلقي المرأة على ظهرها“، أو”وهو أنّك تلقي المرأة على الأرض“، أو”هو أنّك تلقيها على الأرض“،”هو أنّك تلقيها إلى الأرض على جانب“،”وهو أنّك تلقي المرأة فوق الأرض“.

8 إذا أنصتنا جيّدا إلى لفظي”الإلقاء“و”الجماع“بالاستئناس بما كتبه جاك دريدا في كتاب”بطاقة البريد“، Jacques Derrida, (1980-2007) La carte postale, de Socrate à Freud et au-delà, la philosophie en effet, Flammarion, Paris, p/p327-340، في خصوص تأويل فرويد لمعنى لفظ”الفورت – دا“، fort-da، لمّا كان يراقب حفيده وهو يلعب ببعثرة الأشياء، فإنّ الجماع بوصفه عملا يُقصد به الإنجاب يمكنه أن ينقلب إلى فعل بين العمل المنتج واللّعب. فإذا كان الإلقاءُ يعني رميَ المرأة وإبعادَها فإنّ الجماع يضحي ضربا من الجمع لما انتثر بالإبعاد تعود فيه الأنثى للذّكر ليتجدّد الإبعاد. فالجماع هو استعادة لهذا الكائن المبعد بجمع ما تبعثر منه. هذا الإلقاء والجمع يترجمان لعبة”الفورت – دا“، fort-da، القائمة على البعثرة والتّجميع، وهو ضرب من اللّعب مداره ليس جسد المرأة فحسب، وإنّما أشياء اللّعب Spielzeuges. علما بأنّ لفظ zeug يعني في الألمانيّة الآلة والأداة والوسيلة و”الأير“. فموضوع اللّعب هو عضو الذّكورة الّذي تمثّل لحظة الجماع لحظة شتات منيّه في الغور الأنثويّ، وتجمّعه من جديد في الولد.

9 جاء في تفسير معنى”الحرث“ في هذه الآية ”نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.“(البقرة، 223)، في، الطّبري، أبو جعفر محمّد بن جرير، تفسير الطّبري المسمّى جامع البيان في تأويل القرآن، بيروت - لبنان، دار الكتب العلميّة، الطّبعة الأولى، 1992، المجلّد الثّاني، ص404:”نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم. وإنّما عني بـ “الحرث” المزدَرَع، و“الحرث” هو الزّرع، ولكنّهنّ لمّا كنّ من أسباب الحرث، جُعلن “حرثًا”، إذ كان مفهومًا معنى الكلام [...] حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس:“فأتوا حرثكم”، قال: منبت الولد. [...] “فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ”، قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك: فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى. و“الإتيان” في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع.“.

10 انظر، Alain Badiou & Nicolas Truong, (2009) Éloge de l’amour, Paris, Champs essais, Flammarion, p.p35-44 & pp45-57. علما بأنّ مشاهد الجماع في الرّوض العاطر تجري دائما بين اثنين، قد خلت من مشاهد النّكاح الجماعيّ.

11 انظر، Georges Bataille, (1957-2001) L’érotisme, Paris, Les éditions de Minuit, p188 الّذي يقرن العقل بالعمل في قوله التّالي: « La raison se lie au travail, elle se lie à l’activité laborieuse, qui est l’expression de ses lois. ».

12 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص13، حيث نجد في قصّة بهلول وحمدونة بنت المأمون ترجمة لهذا الإفراط بوصفه يمثّل قوّة الباه اللاّمنتجة. فشغل بهلول الشّاغل النّساء،”لم يشتغل بهنّ أحد مثلي. قال: يا مولاتي، إنّ النّساء تفرّقت عقولهنّ وخواطرهنّ في أشغال الدّنيا، فهذا يأخذ وهذا يعطي، وهذا يشتري، إلاّ أنا ليس لي شغل أشغل به إلاّ حبّ النّاعمات، أشفي الغليل، وأداوي كلّ فرج عليل.“.

13 انظر، Georges Bataille, L’érotisme, op.cit, p188الّذي يعرّف الإفراط على هذا النّحو: « Par définition, l’excès est en dehors de la raison ». والإبراز إبرازنا.

14 جاء في، أبو عثمان الجاحظ، البيان والتّبيين، تحقيق وشرح عبد السّلام مجمّد هارون، تونس، دار سحنون للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الخامسة، 1990مج1، ج1، ص254 ما يلي:” وقال بعض الرّبّانيّين من الأدباء وأهل المعرفة من البلغاء ممّن يكره التّشادق والتّعمّق ويبغض الإغراق في القول والتّكلّف والاجتلاب، ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلّم من الفتنة بحسن ما يقول وما يعرض للسّامع من الافتتان بما يسمع، والّذي يورث الاقتدار من التّهكّم والتّسلّط والّذي يمكن الحاذق والمطبوع من التّمويه للمعاني والخلابة وحسن المنطق، فقال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام، فإنّ المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا وأعاره البليغُ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلّم دلاّ متعشّقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملا. والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرّفيعة، تحوّلت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زيّنت، وحسب ما زخرفت. فقد صارت الألفاظ في معاني المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قويّ، ومدخل خدع الشّيطان خفيّ “. والإبراز إبرازنا.

15 بالمعنى الّذي حدّده بودريار في، Jean Baudrillard, (1981) Simulacres et Simulations, Paris, Éditions Galilée , Débats, p.p16-17

16 انظر، Alain Badiou & Barbara Cassin, (2010) Il n’y a pas de rapport sexuel, Deux leçons sur “L’Étourdit” de Lacan, ouvertures fayard, p110

17 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص47. يؤكّد ذلك قصّة الجعيد مع”امرأة ذات حسن وجمال... كانت سمينة ملتحمة، إذا وقفت يبقى كسّها ظاهرا... فتعجّبت من فرجها وقدرتها على أيري، لأنّي ما جامعت امرأة إلاّ لم تطقه ولم تدخله كلّه، إلاّ هذه المرأة فلا أدري ما سبب إطاقتها له إلاّ انّها كانت سمينة ملحمة وفرجها كبير، أو أنّه مقعور أو غير ذلك. ثمّ إنّها جعلت تطلع وتنزل، وتتعصّر وتشخر، وتقوم وتقعد، ثمّ تنظر هل فضل منه شيء [...] ولم تزل كذلك إلى اللّيل، ولا رقدنا منذ ساعة أو أقلّ، فحسبت الّذي أخذت منها بين اللّيل والنّهار سبعا وعشرين، الواحد في الطّول ما مثيل.“

18 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص.ص47-48.
19 تترجم وضعيّة الجماع منزلة الذّكر المستباه أو من شابهه ممّن كان خارج دورة الإنتاج والعمل. فهو يأخذ عند الجماع وضعيّة المرأة. إذا نكح رقد”كما ترقد المرأة للرّجل وأيره واقف كالعود.“. انظر، محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص14.

20 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص 32، حيث أورد في فصل”في كيفيّة الجماع“ما يلي:”فإذا قضيت حاجتك وأردت النّزول، لا تقم قائما، ولكن أنزل عن يمينك برفق. فإذا حملت المرأة في تلك السّاعة يكون ذكرا إن شاء الله تعالى. هكذا ذكره أهل الحكمة. وقال أهل العلم رضي الله عنهم أجمعين: إنّ من وضع يده على جوف المرأة الحامل، وقال بسم الله وصلّى الله على سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال بحرمة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم يكون هذا الحمل ذكرا، فسمّه محمّدا.“.

21 انظر، Pierre Legendre, (1985) L’inestimable objet de la transmission, Étude sur le principe généalogique en Occident, Paris, Fayard, p320.

22 انظر، Monique Schneider, Généalogie du masculin, op.cit, p130. حيث تعرّف كلمة”البروليتاري“، « proletarius » اللاّطينيّة بأنّها تعني”ذاك الّذي يعتبر نافعا إلاّ بما ينجب من الأولاد“. فالبروليتاريا « proletarii » هم المنشغلون بوضع الأولاد في العالم. وبهذا الصّنيع يلتحقون بالمنتجين عند دوميزيل Dumézil، ولكنّهم يبتعدون من جرّاء ذلك عن الأماكن الّتي يمارس فيها الحكم.

23 انظر، مقالة”الشّطب في الرّواية العربيّة“، ضمن، العادل خضر، يحكى أنّ... مقالت في التّأويل القصصيّ، تونس، دار المعرفة للنّشر، الطّبعة الأولى، 2006، ص142، حيث جرى الحديث عن المتعة الأنثويّة المشطوبة كما يلي:”ويتجلّى الشّطب لا في سكوت المرأة وصمتها وعجزها عن الكلام وإنّما في طريقة ظهور المتعة الأخرى خارج كلّ حضور ذكريّ. فمتعة الأنثى تتجلّى في غياب الرّجل كلّما استعاد الجسد لهجته الفريدة، وهي لهجة لا تجد مفرداتها في اللّغة والرّمز وإنّما في صور وأعراض وهيئات أقرب إلى التّعبير التّشكيليّ منها إلى اللّغة والكلام.“.

24 عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، دار العودة، بيروت، الطّبعة الأولى، 1980، ص102، حيث يعرّفه على هذا النّحو:”القانون الحمدليّ (كلام الله) يفتتح النّصّ ويختمه، إنّه يرتق على طول المسافة بعض الآيات المنعشة، وهو بالإجمال، قانون الكاتب الرّائي المستلذّ بترتيب المشهد الاستطراديّ والعقد الإستراتيجيّة الّتي تراقب الهذيان وانحراف النّصّ. إنّه الصّوت الظّاهر للشّرع، والنّفس الّذي يجامع به الإنسان بطريقة إلهيّة.“.

25 انظر، Jean Baudrillard , (1979) De la séduction, Paris, Galilée, p28

26 هذا الأنموذج شائع في الثّقافة الشّعبيّة وقد خصّص له صاحب روض العاطر بعض الأبواب نذكر منها على سبيل المثال، محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، الباب الرّابع”في المكروه من النّساء“، ص30، والباب الحادي عشر”في مكائد النّساء“، ص.ص50-54. وهو أيضا أنموذج شائع في الثّقافة الغربيّة عصر النّهضة. فقد ذكر، Piero Camporesi, (1997) Les Baumes de l’amour, Traduit de l’italien par Myriem Bouzaher, Paris, Hachette Littératures , p.p12-13 أنّه كان ينظر إلى المرأة من زاوية نظر ذكوريّة على أنّها شيء رخو، لا يمكنه أن يثبت، تحرّكها رغبة لا تزجر في التّبرّج والبروز، فهي بارعة في فنّ الافتتان والخديعة، بل هي موضوع شوق مربك ومنبع لا ينضب من الأحابيل الّتي يقع فيها كلّ الرّجال.

27 محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، ص30.

28 أن نعيّر شيخا بالشّيب هو أن نعيبه بما فيه من معرّة، وهذا بالتّحديد معنى الفعل «insulter» في اللّسان الفرنسيّ. أمّا أن نشتم كريما بالبخل، أي بما ليس فيه من عيوب فهذا بالضّبط ما يعنيه الفعل «injurier» في اللّسان الفرنسيّ. انظر فقرة «injure et insulte» من كتاب، Alain Didier-Weil, (1995) Les trois temps de la loi, Le commandement sidérant, l’injonction du surmoi et l’invocation musicale, Paris, Éditions du Seuil, p.p88-91

29 انظر، Gilles Deleuze, & Félix Guattari, (1972-1995) L’anti-Œdipe, Capitalisme et Schizophrénie II, Tinis, Éditions Cérès., p.p247-267.

30 من نماذجه ما جاء في، محمّد بن محمّد النّفزاوي، الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، م.م، الباب الثالث عشر،”في أسباب شهوة الجماع وما يقوّيها“، ص.ص57-58، والباب الرّابع عشر،”فيما يستدلّ على أرحام النّساء العقر وعلاجهنّ“، ص59، والباب الخامس عشر،”في أسباب عقم الرّجال“، ص60.

31 نستعمل كلمة”أسطورة، أساطير بالمعنى البارطيّ للكلمة الّذي ضبطه في كتابه “أسطوريّات”، Roland Barthes, (1957-2001) Mythologies, Paris, Points-Essais. . ولا تتحدّد الأسطورة عنده بموضوعها، وإنّما بطريقة قول الموضوع وعرضه. فالأسطورة عند بارط لا تنبثق من طبيعة الأشياء وإنّما هي كلام أو عبارة اختارها التّاريخ. ولذلك كان شغله الشّاغل في هذا الكتاب هو الإجابة عن السّؤال التّالي: كيف تصنع الأساطير؟ لأنّه بمعرفة طرائق صناعتها وتشكّلها يمكن أن نفكّك رموزها ونحلّ طلاسمها.

.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العادل خضر
الطّعام والباه تفكيك أساطير الفحولة في حكايات من كتاب “الرّوض العاطر في نزهة الخاطر” للشّيخ النّفزاوي (1/4)



ALLEN The Annunciation. 1976

صورة مفقودة
 
أعلى