علاء مشذوب - شاعرية فن العمارة والجسد

العمارة احد الفنون الجميلة السبعة، يعرِّفها رفعة الجادرجي : " بأنها المأوى أو مُغلف بنائي أو السياج المشيد من قبل فرد أو مجموعة. ولا يشمل هذا التعريف الملجأ الطبيعي كالكهف مثلاً. العمارة هي نتاج يد الإنسان وفكره، أي تعامل يد الإنسان وفكره مع مواد خام ومن ثم تحويلها أو تغييرها

وسيطها التعبيري الكتلة والفراغ والوظيفية. عناصرها هي التضاد والتماثل والتكرار ...الخ. هذا باختصار الإطار العام لفن العمارة لندخل بعدها الى شاعريته من خلال نبذة تاريخية مختصرة كتأسيس لفن العمارة تاريخياً، ومن ثم العلاقة التي تربط بين فن العمارة والجسد ومن ثم الذاكرة الإنسانية. يقول المفكر ناصر الرباط :"ان العمارة منتج إنساني ومادي، موجودة بذاتها ومرئية لكل ذي عينين، ذات وظائف حياتية وطبيعية ومعنوية وأبعاد جمالية وفراغية ودلالات اجتماعية وتاريخية واقتصادية ورمزية وهي ترتبط بالذاكرة الإنسانية، فالعمارة تؤطر الذاكرة، تجذرها وتعطيها شكلاً...الخ" .

ان العمارة نوعان: اصطناعية وطبيعية، وقد استثنى السيد (الجادرجي) في تعريفه لفن العمارة، الكهف، على اعتبار ان فن العمارة هي نتاج يد الإنسان وفكره، وهو صادق فيما يخص نتاج الإنسان، ولكن لا يمكننا إلغاء أو عدم الاعتراف بمعمارية الطبيعية، التي اكتسب الإنسان منها أغلب فنونه، ان شاعرية العمارة الطبيعية تكمن في طبيعتها، وغياب الحدود – الإطار – التي تحددها، أو لأنهارها الهادرة، أو تشكلات قشرتها، وهي في تنوع مستمر وغريب، فقد تجد في بعض الدول ذات المساحات الكبيرة الفصول الأربعة، ففي أقصى الشمال تجد الجبال تلبس ثوب العرس، لتلامس الغيوم وقد تتجاوزها، وأشجاره الجبلية تتشكل كأنها قلب مقلوب لتدافع عن وجودها، ان الحلة البيضاء التي تكتسي بها، تشعرك بالطمأنينة وتخلق أجوائها الخاصة، وفي أقصى الجنوب تجد الأرض المنبسطة المفتوحة المساحات، يكسوها طبقة رملية متحركة، سمتها التعرية، بينما تجد في الوسط بين ذينك الفصلين، يتهادى الربيع، بعطره، وتتماوج الأشجار وتنوء بحملها، وسط أرض منبسطة يعلوها البيوت المتناثرة بحظائرها حيث يعيش الإنسان والحيوان والنبات في وسط تكافلي، وسط مساحات خضراء، حتى إذا ما أعلن الصيف إشهاره، كانت الأرض تتنفس الصعداء وهي تخرج زفيرها الى عنان السماء معلنة تحررها من القيود، راجعة الى حنينها الأول، وسافرة عريّها "ان العمارة بناء شعري خالص لا تصنع تكويناتها من الأفكار بل من الأشياء التي تغني بذاتها بالمعنى وبلغة معمارية مختزلة الى ماديتها وحسب وهي تشدد على وجود مفرداتها في بنية النظام والإيقاع وكيميائية تكشف عن إمكانات مبتكرة من الدلالة، فما يأخذ الأهمية في العمارة كما في الشعر هو (ماهية) التكوين بذاته لا ما نحاول ان نضمنه فتأتي الفكرة متزامنة مع الشكل لا تبتعد عنه بأكثر من طاقته على المضمون. ان شعرية العمارة في تقنية دلالتها وهي تمسك بالفكرة تسكنها الأشكال في حالة بناء مشددة ومكثفة الوجود تحفظ للأشياء فرصتها المميزة لكينونة لا يمكن التلاعب بها دون ان يناله التشوه اذ يمتلك الشعر نسقية أكثر مما في الحياة اليومية" ، ان ماهية العمارة الطبيعية تكمن في بدائيتها وهي ترسم على أديم الأرض، شوارعها غير المعبدة، وفروعها الملتوية كأنها مشية أفعى، وسهولها وهضابها، مثلما ترسم تلالها وجبالها، وبين كل تلك التضاريس، كانت الأنهر والوديان التي تسرح في الفضاء المفتوح الى حيث تنضب أو تتسرب الى باطن الأرض، بينما يبقى الباقي متجهة برعاية الدفق حتى يصب في بعض البحيرات والبحار، لينقطع نسله معلناً ولادة نسل آخر، ومثلما رسمت بدائية الطبيعة أشكالها المعمارية على الأرض، برعونتها وقسوتها، وجمالها وروعتها، أنعكس هدوؤها واضطرابها في بعض الأحيان على من يعيش على وجهها، ليحصن نفسه من خلال معمارية مسكنه، فالأشكال السداسية التي يصنعها النحل، تعد من أجمل الأشكال وأكثرها اقتصاد ووظيفة، ونحن نعرف أن أهم شرط بالعمارة هو الوظيفة. وكذلك الكثير من الطيور التي تبني أعشاشها وما تقتضيها ضرورة حماية بيضها وأفراخها ونفسها، أو النمل الذي يبني مستعمرته على شكل هرم بمواجهة الشمس، من أجل الدفء، ويترك فتحات بما يساعد على إدخال تيار الهواء وخروجه من المنافذ الأخرى بما يضمن التهوية وبتقنية عالية جداً، وينسحب ذلك على الكثير من الحيوانات الأخرى في إيجاد المعالج المناسب من العمارة لديمومة أمانها واستمراريتها. ولم يكن للإنسان من أن يلاحظ كل هذا التفاعل البيئي بين الطبيعة بكل تشكلاتها المعمارية، وانعكاسه على النبات والحيوان دون أن يتأثر ويؤثر فيها.

حيث تتطرق بعض النظريات العلمية الى أن أصل الإنسان. قرد، ونتيجة التطور والارتقاء أستطاع أن يبلغ مبلغه، وربما أخضع القيمين على تلك النظرية بحوثهم الى التجربة والاستنتاج، ليصلوا الى ما أفتوا به، ولكن من يستطيع أن يطلق العنان لخياله، يجد أن تلك الرجلين المنحنيتين قليلا الى الأمام مع تحدب الظهر ربما يثيران التساؤل عن سببهما، حتى استقاما بالشكل العمودي.

فلربما كان الكهف الذي يسكنه أحد تلك الأسباب، ونتيجة لصغر حجم فتحته، وربما فضاؤه الضيق من الداخل هو الذي جعل الإنسان ولفترة طويلة أن يكون بالشكل الذي رأيناه بالصور المرسومة على جدرانه، أو الهياكل العظمية، وأسبابه معروفه، هو تجنبه للخطر المحدق به من الوحوش الضارية وأخطار الطبيعة المحتملة. "لقد تطورت البيوت والمعابد مثلما تطورت الحيوانات والنباتات : فظهرت أشكال مختلفة أولاً مثل الكهف والمأوى تحت الأغصان المتدلية نتيجة للضرورة الآلية، وبقيت هذه الأشكال نتيجة لعملية الانتقاء التي كانت فيها حاجات الإنسان وملذاته البيئية التي يتحتم على شكل البناء أن يتكيف معها. وهكذا فرضت الأشكال المحددة ذاتها وألفت العين رؤيتها" . ومن المؤكد أن ذلك التطور الذي صاحب النباتات وتأقلمها مع الظروف الجديدة، هي نفسها التي طورت الحيوانات، ومن غير المنطقي والعقلي، أن يبقى الإنسان على وضعه دون ان يمر بنفس المراحل وربما أكثر في تطوره الجسماني الذي سينعكس براغماتياً مع الجسد، فهناك بعض الصور وكذلك البحوث الذي تثبت أن جسد الإنسان سابقاً كان يملؤه الشَعر، نتيجة لأكله اللحم الني، وكذلك هيئته الضخمة التي تتناسب والظرف البيئي الذي كان يعيش وسطه، وغيرها من التطورات التي طرأت على جسده نتيجة لتغير الظروف والأوضاع المعيشية، حتى إننا نلحظ في القرنيين الأخيرتين أن عدد البشر على وجه الأرض تضاعف مرات عن القرون السابقة نتيجة لاكتشافه الأمصال والأدوية التي تقيه فتك الأوبئة والأمراض.

وكل ذلك التطور الذي طرأ على الكائنات الحية – الإنسان، الحيوان، النبات – طرأ أيضاً على محيطه، ولذلك أخذ يجرب ليصل الى أفضل الأشكال التي تحميه من شرور الطبيعة بكل طوارئها. "أن صلاحية الشكل الهرمي، أي قدرته على الصمود، هي التي جعلت منه نمطا من أنماط البناء. وحينما اختار المصريون شكل الهرم فأنهم لم يفعلوا أكثر من أنهم كرروا عملية كان في مقدورهم ملاحظتها في الطبيعة ذاتها، حين تبنى هرما كلما كونت تلاً، ولا تصنع الطبيعة ذلك لأنها تود أن تبنى أهرامات أو لأن بناء الأهرامات هو الغاية التي ترمي إليها من عملياتها، وإنما تفعله لأنه لا توجد فيها أية قوة تستطيع أن تزحزح بسهولة المادة التي تأخذ شكل الأهرام" . وإذا كانت الأهرام من صنع الإنسان واستمرت لآلاف من السنين، فإن الجبال تشبهها، أو أن الأهرام قد أخِذَتْ من شكل الجبل باللاوعي عند الإنسان، من كل ذلك نريد ان نقول أن الشكل الهرمي هو أقوى الأشكال، ويبقى محافظاً على شكله العام رغم التعرية الطبيعية التي مرَّت عليه ولازالت، وهو انعكاس لعمارة الطبيعة.

والعمارة الريفية تمتاز ببساطة البناء والأشكال وتتشابه باللون والشكل العام، وهي انعكاس لضرورة الحياة وتدل على ذوق من أقامها، مثلما تدل على تفكير الإنسان واحتياجه، حيث نجد في الأرياف، البيوت المتناثرة وهي تجثوا قرب الأنهار وسط الأرض الخضراء يحبوها الحيوانات الداجنة الصغيرة والكبيرة، ميزتها الرئيسة التفريط بالمكان، وعدم قيامها بنسق واحد. يفترشها شوارع غير المبلطة والملتوية، يحثها من على جانبيها، الحشائش الخضراء مع بعض الأشجار الدائمة الخضرة، وليس هذا ببعيد عن جسد الإنسان واهتمامه به، يمتاز أهلها بأجساد خشنة، قليلة الاعتناء. فقد نجد الكثير من الأجساد الهائمة في المناطق الريفية، وهي مغطاة بوشاح أسود، بالعموم لا فرق بين من يحمل الهم أو الفرح، ربما لأنهم ورثوا ذلك من أصولهم البدوية، والتي هي انعكاس لبيئتهم الريفية، يقول (حسين زيدان) في رواية النبطي ذلك: إن الصغيرات يخرجن الى النواحي البعيدة نهارا، لرعي الأغنام فتسهل هذه الألوان، العثور عليهن إذا ما ضللن الطريق، وأقترب المساء، والنساء مستترات ولن يزيد السواد من إحساسهن بالحر، ما دمن بالظل، والرجال يمشون تحت الشمس كثيراً، فيكون الأبيض أنسب لهم، لأنهم لا يشعرون معه بسخونة النهار." ، وبالمقابل فأنهم يمتازون بقوة النظر، بسبب المساحات المفتوحة.

أما العمارة في المناطق الحضرية، فأنها تمتاز بنسق متقارب، ضمن السياق العام للعمارة، كما تمتاز باهتمام أكبر فقد أضحت انعكاس لذوق الإنسان وثقافته، وهو يعمد الى أكساء مظهرها الخارجي بمختلف المواد الغالية الثمن كالحجر الصوان والمرمر والزجاج، او نثرها بمادة الأسمنت الملون، مع تطعيمها بالسراميك، مثلما حاول قدر الإمكان الإكثار من منافذها – الشبابيك – بسبب صغر المساحة بعض الأحيان ولتعامد بعضها ما يجعل الإنارة ضعيفة، والعمارة هي الوجه الأول لأي مدينة، التي يتلمس منها وفيها رقيّ البلد، ومن منا لا يسعد وهو يرى هذه الارتفاعات الشاهقة بطريقة هندسية رائعة وهي تتحلى بأشكال وأحجام وألوان مختلفة. لكنه ورث التصميم الداخلي لبيوت الريف إذ يندر ان يخلو أي بيت من غرفة استقبال أو ضيافة، وهي تكاد تكون على طراز متشابه. وفي المقابل فإنه – أي الإنسان الحضري – يشكو من قصر النظر، بسبب قرب المسافات، لأنه في الدائرة أو البيت أو المقهى، لا يتعدى حدود النظر أكثر من الجدران المحيطة بالمكان.

وفيما يخص العمارة الاصطناعية، فأنها دون شك من صنع الإنسان وفكره، والذي حاول ان يعكس انسيابية جسده وتكراره، حيث تتكرر أعضاءه داخل الجسد الواحد، والأجساد الأخرى، بجمالية رائعة دون ان تتشابه تلك الأعضاء مع بعضها والآخر، ويقترب من شكل الجسد الإنساني كل الأبراج العالمية التي بنيت سابقاً – برج إيفل – وحديثاً – برج خليفة – في كونه يرتكز على قاعدة رصينة هما كفي القدمان بأطرافهما ومفاصلهما، ولو أردنا أن نوضح النقطة الجوهرية التي تربط ما بين الجسد وفن العمارة، فأننا نستطيع القول، في أن دلالتنا على الجسد من خلال تمظهره على سطح الجسم، وهي نفس الدلالة التي يتمظهر من خلالها فن العمارة في كون الأخير، يحده سطحه الخارجي. أما الصفة التي يشترك فيها كل من النحت والعمارة والجسد، في ان كل منهما يتعامل أو يشغل حيز مكاني ثلاثي الأبعاد. أما شعريتها – أي العمارة الاصطناعية - فهي تميل الى الاختزال والتكثيف في استخدامها، لما للمساحات من قيمة مالية عالية وخاصة في المناطق المدنية المزدحمة بالسكان والأعمال، يعلوها صبغة جمالية خاصة في المؤسسات الحكومية والمباني المدنية كدوائر عمل، أو أماكن للسكن، وهي تعمل جاهدة على أن تضفي عليها بعض السمات الطبيعية كأن تجني بعض النباتات الظلّية، وترك مساحات داخلية كبيرة، لتعطي إحساساً بالارتياح وعدم الضيق أو الاختناق، كما وتعمل جاهدة على خلق رفوف خارجية أو شُرفْ مطلّة للخارج، لتكون بمثابة الرئة لذلك المكان المحصور من جهاته الثلاثة.

وفي مقاربة بسيطة بين شاعرية الجسد – شكله، لونه، رائحته، لغته، إرهاصاته - وانسيابيته، نجد انه يقترب من شاعرية العمارة – تكويناتها، أشكالها، بنائها – وتمثلها بشكليها الأفقي والعمودي، ولكننا سنأخذ البيت كنموذج لتلك الشاعرية، كونه النموذج الأقرب الذي أكتسب روح الجسد، وكان أول ما سعى إليه الإنسان ككيان يضم أحدهما الآخر ويسعى كل منهما الى امتلاك الآخر حتى أضحى جزء من ذاكرته، وكيانه " ان جدلا قوامه الروح والجسد، يتقاسم البيت كما يتقاسم الإنسان، والإنسان روح البيت الذي يسكنه" .

ويكاد يكون البيت هو أقوى الأماكن التي تبقى خالدة في ذهن الإنسان، لما يتمخض من نشأته حتى بلوغه وما يرافق ذلك من ذكريات، إذ ان للمكان ذاكرة يطلق عليها (ذاكرة المكان) حيث ترتبط هذه الذاكرة بالذكريات من خلال تكوين علاقة ألفه وحميمة وحنين، والتي تنشأ جراء العلاقة الوثيقة بين الجسد الحي القائم بالإدراك والمكان المقصود لأنه البيئة المناسبة لذلك الجسد ولأفكاره وأمنياته ورغباته ومن ثم قد يستعاد الآن من خلال الذاكرة .

والذاكرة قد تكون هي أداة الاستدعاء أو التذكر لذلك المكان القديم الحميم أو حتى أداة تلصص عليه من خلال تذكره، كما وقد أكد (باشلار) أنه لا تتكون لدينا مشاعر خاصة حول أماكن خاصة موجودة في الذاكرة مثل منازل الطفولة فقط، بل أيضا حول تشكيلات مكانية خاصة مثل النوافذ والأبواب وكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة الخاصة بالمكان، إذن أهتم (باشلار) بالمكان في الصورة الفنية هنا هو المكان الأليف الذي ولدنا فيه - بيت الطفولة - أنه المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا.

وأجزاء البيت بالعموم تتكون من باب ونافذة ورواق وغرف وسطح، إضافة للحديقة أو المنور في بعض الأحيان، ولأن سمة البيوت الحديثة لعموم الناس الآن، تميل الى صغر المساحة فأنها تهتم أولاً بأن تكون خريطة البناء تحتوي أكبر قدر ممكن على الاختزال للكثير من الجدران التي تُعد عوائق حقيقية وسدود تعيق من ان يكون البيت أقرب الى معتقل منه الى مكان فيه من المؤانسة والطمأنينة، مكان هو أميل للرحابة منه الى الضيق، ومن المؤكد أول ما يؤخذ بالحسبان هو الشارع العام وربما الزقاق الذي يكون البيت جزء منه وعلى أثره يتحدد وضع الباب، فالكثير من الأساطير والمعتقدات تميل الى أن لا تكون الباب الرئيس على جهة القبلة، ومثلها مقعد المرحاض، كما وتضع الكثير من البيوت على واجهاتها (حرز) كأن يكون رأس ثور أو ماعز، أو أي من الحيوانات التي تجلب الانتباه، منعا للحسد؟

وكما في الرسم يُعد الخط ذكر واللون أنثى، فإن الباب في عمارة البيوت، يُعد المدخل الشرعي، هو الحارس الأمين لأسرار البيت وكاتمها وهي صفة ذكورية، وبعكسه يُعد الشباك منفذ للتلصص والسرقة، والذي هو الإذن الداخلية لأهل الدار والإذن الخارجية لكل مستطرق يسمع من خلالها أصوات من في داخله، وهي صفة أنثوية تنقل الحكايات والأسرار، كما يقول المثل الشائع (إذا أردت أن تذيع خبراً فأعطيه للنساء).

الباب بوابة البيوت وكاتم أسرارها هو الناطق بأسمها دون كلام، هو الصامت الشامخ بأعلى الأصوات بإيحائه، يقول أسعد غالب الأسدي: قبالتي الآن باب معتم يأخذ ملامحه في صمت يربض خلفه عالم من المجهول. يثير في داخلي زوبعة السؤال ويلفني هيام من القلق استذكر لحظات نشوتي عندما كنت إدخال خلف كل مغلق عالم يتعرى .. جسداً بالرخام أو منحوتة تتلوى ..شيء ما خلف الباب المغلق عالم ما!" ، ولكني أعرف أن خلف الباب لم يكن مجهول، لم تكن سوى حبيتي التي أنتظر طلتها، كنت أقطع الشارع ذهاباً وجيئة، على أمل أن تخرج برأسها في لحظة مواربة الباب، لتبحث عن أختها التي أطالت الغياب، أو لتخرج بجسدها الملفوف بالعباءة السوداء لترمي عند رأس الزقاق كيس الزبالة، كانت تلك اللحظات التي يشرع فيها الباب إعلانه، من أسعد اللحظات التي أنتظرها، لم يكن يهمني أياً من الأسباب الذي يؤدي بها الى فتح السر الذي يخفى خلف الباب لتعلنه، ولكن الذي يهمني أن أراها، أخبرني بذلك صديقي في مرحلة المراهقة، دون وعي منه أو بوعي وهو يبوح لي بعلاقته بالباب الذي يخفي خلفه حبيبته.

كما رأيت الكثير من العلاقات غير الشرعية، عندما كان (تور) الشبابيك يحمل الكثير من الثقوب بقدر حجم وريقة مطوية عدة طويات، رغم قوة الباب وإرتفاعه، تلك النوافذ التي تطل على الشوارع والأزقة، أما إذا كانت في الطابق الثاني فما فوق، فهي تخلق لغة من العشق بين السكينة والضجيج بين الظلمة والنور، بين الحلم والخيال، وبين الواقع والحقيقة، لا يمكن لبيت أو مكان أن يحيى دون نافذة.

بين الباب والنافذة ممراً طويل من الأسرار والعلاقات البريئة وغير البريئة، يتخطى الجسد عتبة البيت ليدخل في ممر طويل من الاشتياق والاكتشاف حتى يصبح احدهما جزء من الآخر، في علاقة داخلية، وكأن الجسد يتحسس روح المكان، مثلما يأنس المكان بتلك الأنفاس الآمنة والمستقرة، وهي تعلم أن من يمتلك ذلك الجسد يحرص عليه، مثلما يحرص على نفسه، فمن تربى بين تلك الأزقة والشُرفْ وأطل من على الشناشيل، وجمعت أمه حبات (الحالوب) لتمسح على أماكن الشعر في الوجه، لينبت ويصبح ذلك الطفل بعد حين بشواربه الثخينة ولحيته السوداء المرتبة، يخفف وطء أقدامه، وهو يمرق في ممراته ويعتلي سطحه، ليراسل أو يسبح في الفضاء المفتوح طائرةً ورقية، أو جوقة حمام، أو يغازل بنت الجيران، وهي ترسل ملابس العائلة على الحبال الممتدة بين أركان السطح، لتعلن براءتها من كل الأوجاع، لتعيد سيرتها الأولى بألوانها الناصعة، وبياضها الفياض.


.
Filippo Baratti
صورة مفقودة
 
أعلى