ابن قيم الجوزية - الطبّ النبوي - فصل الجماع والباه

فصل
وأما الجماع والباه، فكان هديه فيه أكمل هدى: تحفظ (١) به الصحة، ويتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها. فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية، ( أحدها ): حفظ النسل، ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
( الثاني ): إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
( الثالث ): قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة. وهذه ـ وحدها ـ هي الفائدة التي في الجنة: إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الانزال.

وفضلاء الأطباء يرون: أن الجماع من أحمد أسباب حفظ الصحة. قال جالينوس: « الغالب على جوهر المني: النار والهواء. ومزاجه حار رطب، لان كونه: من الدم الصافي الذي تغتذى به الأعضاء الأصلية ».

وإذا ثبت فضل المني، فاعلم: أنه لا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل ، أو إخراج المحتقن منه. فإنه إذا دام احتقانه : أحدث أمراضا رديئة، منها : الوسواس والجنون والصرع ، وغير ذلك وقد يبرئ استعماله من هذه الأمراض كثيرا. فإنه إذا طال احتباسه: فسد واستحال إلى كيفية سمية، توجب أمرضا رديئة كما ذكرنا. ولذلك تدفعه الطبيعة ـ إذا كثر عندها ـ من غير جماع.

وقال بعض السلف: « ينبغي للرجل أن يتعاهد من نفسه ثلاثا: ينبغي أن لا يدع المشي، فإن احتاج إليه يوما، قدر عليه. وينبغي أن لا يدع الاكل: فإن أمعاءه تضيق. وينبغي أن لا يدع الجماع: فإن البئر إذا لم تنزح (٢) ذهب ماؤها ».

وقال محمد بن زكريا: « من ترك الجماع مدة طويلة: ضعفت قوى أعصابه واستد مجاريها، وتقلص ذكره. (قال): ورأيت جماعة تركوه لنوع من التقشف (١): فبردت أبدانهم، وعسرت حركاتهم، ووقعت عليهم كآبة بلا سبب، وقلت شهواتهم وهضمهم » انتهى (٢).

ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة. فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه، وينفع المرأة.

ولذلك كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعاهده ويحبه، ويقول: « حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ». وفى كتاب الزهد للإمام أحمد ـ في هذا الحديث ـ زيادة لطيفة، وهى: « أصبر عن الطعام والشراب، ولا أصبر عنهن » (٣).

وحث على التزويج أمته، فقال: « تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم ». وقال ابن عباس: « خير هذه الأمة أكثرها نساء ». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤): « إني أتزوج النساء، وآكل اللحم، وأنام وأقوم وأصوم وأفطر. فمن رغب عن سنتي: فليس منى » وقال: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة: فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحفظ للفرج. ومن لم يستطع: فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ». ولما تزوج جابر ثيبا، قال له: « هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ».

ورى ابن ماجة في سننه ـ من حديث أنس بن مالك ـ قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا: فليتزوج الحرائر ». وفى سننه أيضا ـ من حديث ابن عباس، يرفعه ـ قال: « لم نر للمتحابين مثل النكاح ».

وفى صحيح مسلم ـ من حديث عبد الله بن عمر ـ قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا: المرأة الصالحة ».

وكان صلى‌ الله‌عليه‌ وسلم يحرض أمته على نكاح الابكار الحسان، وذوات الدين. وفى سنن النسائي، عن أبي هريرة، قال: « سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر (١)، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها وماله ». وفى الصحيحين، عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم، قال: « تنكح المرأة: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين، تربت يداك ».

وكان يحث على نكاح الولود، ويكره المرأة التي لا تلد. كما في سنن أبي داود ـ عن معقل بن يسار ـ: « أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم، فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية، فنهاه ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم ».

وفى الترمذي عنه مرفوعا: « أربع من سنن المرسلين: النكاح، والسواك، والتعطر، والحناء ». روى في الجامع: بالنون، والياء (٢). وسمعت أبا الحجاج الحافظ، يقول: « الصواب: أنه الختان، وسفطت النون من الحاشية. وكذلك رواه المحاملي عن شيخ أبى عيسى الترمذي ».

ومما ينبغي تقديمه على الجماع: ملاعبته (٣) المرأة وتقبيلها، ومص لسانها.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم، يلاعب أهله ويقبلها. وروى أبو داود في سننه: « أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها ». ويذكر عن جابر بن عبد الله، قال: « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة ».

وكان رسول (٤) الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: ربما جامع نساءه كلهن بغسل واحد، وربما اغتسل عند كل واحدة منهن. فروى مسلم في صحيحه، عن أنس: « أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ». وروى أبو داود في سننه ـ عن أبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ: « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف على نسائه في ليلة، فاغتسل عند كل امرأة منهن غسلا. فقلت: يا رسول الله ، لو اغتسلت غسلا واحدا! فقال: هذا أطهر وأطيب ».

وشرع للمجامع ـ إذا أراد العود قبل الغسل ـ الوضوء بين الجماعين، كما روى مسلم في صحيحه ـ من حديث أبي سعيد الخدري ـ قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود: فليتوضأ ».

وفى الغسل والوضوء بعد الوطئ ـ: من النشاط وطيب النفس ، وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع، وكمال الطهر والنظافة، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع، وحصول النظافة التي يحبها الله ويبغض خلافها. ـ ما هو من أحسن التدبير من الجماع، وحفظ الصحة والقوى فيه.

( فصل )

وأنفع الجماع: ما حصل بعد الهضم، وعند اعتدال البدن: في حره وبرده، ويبوسته ورطوبته، وخلائه وامتلائه. وضرره عند امتلاء البدن: أسهل وأقل من ضرره عند خلوه. وكذلك ضرره عند كثرة الرطوبة: أقل منه عند اليبوسة، وعند حرارته: أقل منه عند برودته. وإنما ينبغي أن يجامع: إذا اشتدت الشهوة، وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف، ولا فكر في صورة، ولا نظر متتابع.

ولا ينبغي أن يستدعى شهوة الجماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها. وليبادر إليه: إذا هاجت به كثرة المنى، واشتد شبقه. وليحذر جماع العجوز، والصغيرة ـ التي لا يوطأ مثلها، والتي لا شهوة لها ـ والمريضة، والقبيحة المنظر، والبغيضة. فوطء هؤلاء يوهن القوى ويضعف الجماع بالخاصية.

وغلط من قال من الأطباء: إن جماع الثيب أنفع من جماع البكر، وأحفظ للصحة. وهذا من القياس الفاسد، حتى ربما حذر منه بعضهم. وهو مخالف لما عليه عقلاء الناس، ولما اتفقت عليه الطبيعة والشريعة. وفى جماع البكر ـ: من الخاصية، وكمال التعلق بينها وبين مجامعها، وامتلاء قلبها من محبته، وعدم تقسيم هواها بينه وبين غيره. ـ ما ليس للثيب.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجابر ـ: « هلا تزوجت بكرا! ».

وقد جعل الله سبحانه ـ من كمال نساء أهل الجنة من الحور العين ـ: أنهن لم يطمثهن أحد قبل من جعلن له: من أهل الجنة. وقالت عائشة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « أرأيت لو مررت بشجرة قد أرتع فيها، وشجرة لم يرتع فيها، ففي أيهما كنت ترتع بعيرك؟ »، قال: « في التي لم يرتع فيها ». تريد: أنه لم يأخذ بكرا غيرها.

وجماع المرأة المحبوبة في النفس يقل إضعافه للبدن مع كثرة استفراغه للمني.
وجماع البغيضة يحل البدن، ويوهن القوى مع قلة استفراغه.
وجماع الحائض حرام طبعا وشرعا: فإنه مضر جدا، والأطباء قاطبة تحذر منه.

وأحسن أشكال الجماع: أن يعلو الرجل المرأة مستفرشا لها، بعد الملاعبة والقبلة. وبهذا سميت المرأة فراشا، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « الولد للفراش ». وهذا من تمام قوامية الرجل على المرأة ، كما قال تعالى: ( الرجال قوامون على النساء ). وكما قيل:

إذا رمتها: كانت فراشا يقلني = وعند فراغي : خادم يتملق

وقد قال تعالى: « هن لباس لكم ، وأنتم لباس لهن ». وأكمل اللباس وأسبغه :

على هذه الحال، فإن فراش الرجل لباس له، وكذلك لحاف المرأة لباس لها. فهذا الشكل الفاضل مأخوذ من هذه الآية، وبه يحسن موقع استعارة اللباس: من كل من الزوجين للآخر.

وفيه وجه آخر، وهو: أنها تنعطف عليه أحيانا، فتكون عليه كاللباس. قال الشاعر:

إذا ما الضجيع ثنى عطفه: = تثنت ، فكانت عليه لباسا

وأردأ أشكاله: أن تعلوه المرأة، ويجامعها على ظهره. وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة، بل نوع الذكر والأنثى. وفيه من المفاسد: أن المني يتعسر خروجه كله، فربما بقى في العضو منه بقية: فيتعفن ويفسد، فيضر.

وأيضا: فربما سال إلى الذكر رطوبات من الفرج. وأيضا: فإن الرحم لا يتمكن من الاشتمال على الماء، واجتماعه فيه، وانضمامه عليه ـ لتخليق الولد.

وأيضا: فإن المرأة مفعول بها طبعا وشرعا، وإذا كانت فاعلة: خالفت مقتضى الطبع والشرع. وكان أهل الكتاب إنما يأتون النساء على جنوبهن ـ على حرف ـ ويقولون: هو أيسر للمرأة.

وكانت قريش والأنصار تشرح (١) النساء على أقفائهن، فعابت اليهود عليهم ذلك. فأنزل الله عز وجل: ( نساؤكم حرث لكم: فأتوا حرثكم أنى شئتم ).

وفى الصحيحين عن جابر، قال: « كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته، من دبرها، في قبلها ـ: كان الولد أحول. فأنزل الله عز وجل: ( نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم ) »، وفى لفظ لمسلم: « إن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد ». و( المجبية ): المنكبة على وجهها. و( الصمام الواحد ): الفرج، وهو موضع الحرث والولد.

وأما الدبر: فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء. ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها، فقد غلط عليه.

وفى سنن أبي داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « ملعون من أتى المرأة في دبرها ». وفى لفظ لأحمد وابن ماجة: « لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها ».

وفى لفظ الترمذي وأحمد: « من أتى حائضا، أو امرأته في دبرها، أو كاهنا فصدقه ـ: فقد كفر بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ». وفى لفظ للبيهقي: « من أتى شيئا ـ من الرجال والنساء ـ في الادبار: فقد كفر ».

وفى مصنف وكيع: حدثني زمعة بن صالح ، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يزيد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « إن الله لا يستحى (٢) من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن »، وقال مرة: « في أدبارهن ». وفى الترمذي، عن طلق بن علي، قال: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم: « لا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن الله لا يستحى من الحق ». وفى الكامل لابن عدى ـ من حديثه عن المحاملي، عن سعيد بن يحيى الأموي ـ قال: حدثنا محمد بن حمزة، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود يرفعه: « لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وروينا ـ من حديث الحسن بن علي الجوهري، عن أبي ذر ، مرفوعا ـ: « من أتى الرجال والنساء في أدبارهن، فقد كفر ».

وروى إسماعيل بن عياش ، عن شريك بن أبي صالح ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر يرفعه: « استحيوا من الله ـ فإن الله لا يستحى من الحق ـ لا تأتوا النساء في حشوشهن ». ورواه الدارقطني من هذه الطريق، ولفظه: « إن الله لا يستحى من الحق، ولا يحل إتيان (١) النساء في حشوشهن ».

وقال البغوي: حدثنا هدبة (٢)، حدثنا همام، قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها، فقال : حدثني عمرو بن شعيب ـ عن أبيه، عن جده ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: « تلك اللوطية الصغرى ». وقال الامام (٣) أحمد رحمه الله ـ في مسنده ـ: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا همام، أخبرنا عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. فذكره.

وفى المسند أيضا، عن ابن عباس قال (٣): « أنزلت هذه الآية: ( نساءكم حرث لكم )، في أناس من الأنصار: أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم، فسألوه. فقال: ائتها على كل حال إذا (٤) كان في الفرج».

وفى المسند أيضا، عن ابن عباس، قال: « جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم، فقال: يا رسول الله، هلكت. فقال: وما الذي أهلكك؟ قال: حولت رحلي البارحة. ( قال ): فلم يرد عليه شيئا، فأوحى الله إلى رسوله: ( نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم )، أقبل وأدبر، واتق الحيضة؟؟ والدبر ».

وفى الترمذي ـ عن ابن عباس مرفوعا ـ: « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر ».

وروينا ـ من حديث أبي على الحسن بن الحسين بن دوما، عن البراء بن عازب يرفعه ـ: « كفر بالله العظيم عشرة من هذه الأمة: القاتل، والساحر، والديوث، وناكح المرأة في دبرها، ومانع الزكاة، ومن وجد سعة: فمات ولم يحج، وشارب الخمر، والساعي في الفتن، وبائع السلاح من أهل الحرب، ومن نكح ذات محرم منه ».

وقال عبد الله بن وهب: حدثنا عبد الله ( بن ) (١) لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم، قال: « ملعون من يأتي النساء في محاشهن »، يعنى: أدبارهن.

وفى مسند الحرث بن ( أبى ) (١) أسامة ـ من حديث أبي هريرة، وابن عباس ـ قالا: « خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وفاته، وهى آخر خطبة خطبها بالمدينة حتى لحق بالله عز وجل، وعظنا فيها وقال: ـ من نكح امرته في دبرها، أو رجلا أو صبيا: حشر يوم القيامة: وريحه أنتن من الجيفة، يتأذى به الناس حتى يدخل النار، وأحبط الله أجره، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا، ويدخل في تابوت من نار، ويسد (٢) عليه بمسامير من نار ». قال أبو هريرة: هذا لمن لم يتب.

وذكر أبو نعيم الأصبهاني ـ من حديث خزيمة بن ثابت يرفعه ـ : « إن الله لا يستحى من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن ».

وقال الشافعي (١): « أخبرني عمى محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبد الله بن علي ابن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح، عن خزيمة بن ثابت ـ: « أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: حلال. فلما ولى دعاه، فقال: كيف قلت؟ في أي الخربتين (٢)؟ أو في أي الخرزتين؟ أو في أي الخصفتين؟ أمن دبرها في قبلها: فنعم، أما (٣) من دبرها في دبرها: فلا. فإن (٤) الله لا يستحى من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن ».

قال الربيع: « فقيل للشافعي: فما تقول؟ فقال: عمى ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقد أثنى على الأنصاري (٥) خيرا (يعنى: عمرو بن الجلاح)، وخزيمة ممن لا يشك في ثقته، فلست أرخص فيه، بل أنهى عنه ».

قلت: ومن ههنا، نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة: من السلف والأئمة فإنهم أباحوا: أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر، لا في الدبر. فاشتبه على السامع: من نفى، أو لم يظن بينهما فرقا. فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه (٦).

وقد قال تعالى: ( فأتوهن من حيث أمركم الله )، قال مجاهد: « سألت ابن عباس عن قوله تعالى: ( فأتوهن من حيث أمركم الله )، فقال: تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها. يعنى: في الحيض ». وقال علي بن طلحة عنه: « يقول: في الفرج ، ولا تعده إلى غيره ».

وقد دلت الآية على تحريم الوطئ في دبرها ، من وجهين :

( أحدهما ): أنه إنما أباح إتيانها في الحرث ـ وهو موضع الولد ـ لا في الحش الذي هو موضع الأذى. وموضع الحرث هو المراد من قوله: ( من حيث أمركم الله ) الآية. قال تعالى (١): ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ). وإتيانها في قبلها من دبرها، مستفاد من الآية أيضا. لأنه قال: ( أنى شئتم )، أي من حيث شئتم، من أمام، أو من خلف. قال ابن عباس: « ( فأتوا حرثكم ) يعنى: الفرج ».

وإذا كان الله حرم الوطئ في الفرج، لأجل الأذى العارض ـ: فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل، والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء، إلى أدبار الصبيان.

( وأيضا ): للمرأة (٢) حق على الزوج في الوطء، وطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضى وطرها ، ولا يحصل مقصودها.

( وأيضا ): فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له، وإنما لذي هيئ له الفرج. فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.

( وأيضا ): فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء: من الفلاسفة وغيرهم. لان للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن، وراحة الرجل منه. والوطئ في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن: لمخالفته للامر الطبيعي.

( وأيضا ): يضر من وجه آخر، وهو: إحواجه إلى حركات متعبة جدا ، لمخالفته للطبيعة.

( وأيضا ): فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه، ويلابسه.

( وأيضا ): فإنه يضر بالمرأة جدا، لأنه وارد غريب، بعيد عن الطباع ، منافر لها غاية المنافرة.

( وأيضا ): فإنه يحدث الهم والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.

( وأيضا ): فإنه يسود الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء: يعرفها من له أدنى فراسة.

( وأيضا ): فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.

( وأيضا ): فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح، إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.

( وأيضا ): فإنه يذهب بالمحاسن منهما، ويكسوهما ضدها. كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا.

( وأيضا ): فإنه من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم. فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله، وعدم نظره إليه. فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه!.

( وأيضا ): فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب: استحسن القبيح، واستقبح الحسن. وحينئذ : فقد استحكم فساده.

( وأيضا ): فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله عليه (١)، ويخرج الانسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان، بل هو طبع منكوس. وإذا نكس الطبع : انتكس القلب والعمل والهدى، فيستطيب ـ حينئذ ـ الخبيث من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.

( وأيضا ): فإنه يورث ـ من الوقاحة والجرأة ـ مالا يورثه سواه.

( وأيضا ): فإنه يورث ـ من المهانة والسفال والحقارة ـ مالا يورثه غيره.

( وأيضا ): فإنه يكسو العبد ـ من حلة المقت والبغضاء وازدراء (٢) الناس له واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ـ ما هو مشاهد بالحس. فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة: في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة: في مخالفة هديه وما جاء به.

( فصل )

والجماع الضار نوعان: ضار شرعا، وضار طبعا.

فالضار شرعا: المحرم. وهو مراتب بعضها أشد من بعض. والتحريم العارض منه أخف من اللازم: كتحريم الاحرام والصيام والاعتكاف، وتحريم المظاهر منها قبل التكفير، وتحريم وطئ الحائض، ونحو ذلك. ولهذا لاحد في هذا الجماع.

وأما اللازم، فنوعان: ( نوع ) لا سبيل إلى حلة البتة، كذوات المحارم. فهذا من أضر الجماع، وهو يوجب القتل حدا عند طائفة من العلماء: كأحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ وغيره. وفيه حديث مرفوع ثابت. ( والثاني ): ما يمكن أن يكون حالا ، كالأجنبية. فإن كانت ذات زوج، ففي وطئها حقان: حق لله، وحق للزوج. فإن كانت مكرهة: ففيه ثلاثة حقوق. وإن كان لها أهل وأقارب ـ يلحقهم العار بذلك ـ: صار فيه أربعة حقوق. فإن كانت ذات محرم منه: صار فيه خمسون حقوق. فمضرة هذا النوع بحسب درجاته في التحريم.

وأما الضار طبعا ، فنوعان أيضا: نوع ضار بكيفيته كما تقدم، ونوع ضار بكميته، كالاكثار منه: فإنه يسقط القوة، ويضر بالعصب، ويحدث الرعشة والفالج والتشنج، ويضعف البصر وسائر القوى، ويطفئ الحرارة الغريزية، ويوسع المجارى ويجعلها مستعدة للفضلات المؤذية.

وأنفع أوقاته: ما كان بعد انهضام الغذاء في المعدة، وفى زمان معتدل، لا على جوع: فإنه يضعف الحار الغريزي، ولا على شبع: فإنه يوجب أمراضا سددية، ولا على تعب، ولا إثر حمام، ولا استفراغ، ولا انفعال نفساني: كالغم والهم والحزن، وشدة الفرح.

وأجود أوقاته: بعد هزيع من الليل، إذا صادف انهضام الطعام. ثم يغتسل أو يتوضأ وينام عقبه: فيرجع (١) إليه قواه. وليحذر الحركة والرياضة عقبه: فإنها مضرة جدا.

فصل في هديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في علاج العشق

هذا مرض من أمراض القلب ، مخالف لسائر الأمراض : في ذاته وأسبابه وعلاجه. وإذا تمكن واستحكم : عز على الأطباء دواؤه ، وأعيا العليل داؤه.

وإنما حكاه الله سبحانه ـ في كتابه ـ عن طائفتين من الناس : من النساء ، وعشاق الصبيان المردان. فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف. وحكاه عن قوم لوط فقال تعالى ـ إخبارا عنهم لما جاءت الملائكة لوطا ـ : ( وجاء أهل المدينة يستبشرون قال : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون ، واتقوا الله ولا تخزون. قالوا : أو لم ننهك عن العالمين؟! قال : هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين. لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون ).

وأما ما زعمه بعض من لم يقدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق قدره : « أنه ابتلى به في شأن زينب بنت جحش ، وأنه رآها فقال : سبحان مقلب القلوب! وأخذت بقلبه ، وجعل يقول لزيد بن حارثة : أمسكها. حتى أنزل الله عليه : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله ، وتخفى في نفسك ما الله مبديه ، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) » ـ فظن هذا الزاعم : أن ذلك في شأن العشق ، وصنف بعضهم كتابا في العشق ، وذكر فيه عشق الأنبياء ، وذكر هذه الواقعة. وهذا من جهل هذا القائل بالقرآن وبالرسل وتحميله كلام الله مالا يحتمله ، ونسبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما برأه الله منه. فإن زينب بنت جحش كانت تحت زيد بن حارثة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبناه ، وكان يدعى : ابن محمد ـ وكانت زينب فيها شمم وترفع عليه ـ فشاور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلاقها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « أمسك عليك زوجك واتق الله ». وأخفى في نفسه أن يتزوجها إن طلقها زيد ، وكان يخشى من قالة الناس : إنه تزوج امرأة ابنه. لان زيدا كان يدعى ابنه. فهذا هو الذي أخفاه في نفسه ، وهذه هي الخشية من الناس التي وقعت له. ولهذا ذكر سبحانه هذه الآية : يعدد فيها نعمه عليه لا يعاتبه فيها ، وأعلمه أنه لا ينبغي له أن يخشى الناس فيما أحل الله له ، وأن الله أحق أن يخشاه. فلا يتحرج ما أحله له، لأجل قول الناس. ثم أخبره: أنه سبحانه زوجه إياها بعد قضاء زيد وطره منها، لتقتدى أمته ( به ) (١) في ذلك، ويتزوج الرجل بامرأة ابنه من التبني، لا امرأة ابنه لصلبه. ولهذا قال في آية التحريم : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم )، وقال في هذه السورة (٢): ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ) ، وقال في أولها : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، ذلكم قولكم بأفواهكم). فتأمل هذا الذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفع (٣) طعن الطاعنين عنه. وبالله التوفيق.

نعم : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب نساءه ، وكان أحبهن إليه عائشة رضي الله عنها. ولم تكن تبلغ محبته لها ولا لاحد ـ سوى ربه ـ نهاية الحب ، بل صح عنه أنه قال : « لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا ، لاتخذت أبا بكر خليلا » ، وفى لفظ : « وإن صاحبكم خليل الرحمن ».

( فصل )

وعشق الصور إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى ، المعرضة عنه ، المتعوضة بغيره عنه. فإذا امتلا القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه : دفع ذلك عنه مرض عشق الصور. ولهذا قال تعالى في حق يوسف : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ). فدل على أن الاخلاص سبب لدفع العشق ، وما يترتب عليه : من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته. فصرف المسبب صرف لسببه.

ولهذا قال بعض السلف : « العشق : حركة قلب فارغ ». يعنى : ( فارغا ) (١) مما سوى معشوقه. قال تعالى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ، ان كادت لتبدى به ) ، أي : فارغا من كل شئ إلا من موسى ، لفرط محبتها له ، وتعلق قلبها به ، والعشق مركب من أمرين : استحسان للمعشوق ، وطمع في الوصول إليه. فمتى انتفى أحدهما : انتفى العشق.

وقد أعيت علة العشق على كثير من العقلاء ، وتكلم فيها بعضهم بكلام يرغب عن ذكره إلى الصواب. فنقول : قد استقرت حكمة الله عز وجل ـ في خلقه وأمره ـ على وقوع التناسب والتآلف بين الأشباه ، وانجذاب الشئ إلى موافقه ومجانسه بالطبع ، وهروبه من مخالفه ونفرته عنه بالطبع. فسر التمازج والاتصال في العالم العلوي والسفلى ، إنما هو : التناسب والتشاكل والتوافق. وسر التباين والانفصال إنما هو. بعدم التشاكل والتناسب. وعلى ذلك تمام الخلق والامر. فالمثل (٢) إلى مثله مائل وإليه صائر ، والضد عن ضده هارب وعنه نافر.

وقد قال تعالى : ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها ليسكن إليها ). فجعل سبحانه علة سكون الرجل إلى امرأته ، كونها من جنسه وجوهره. فعلة السكون المذكور ـ وهو الحب ـ : كونها منه. فدل على أن العلة ليست بحسن الصورة ، ولا الموافقة في القصد والإرادة ، ولا في الخلق والهدى. وإن كانت هذه أيضا من أسباب السكون والمحبة.

وقد ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : « الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ». وفى مسند الإمام أحمد ، وغيره ـ في سبب هذا الحديث ـ : « أن امرأة بمكة (كانت) (٣) تضحك الناس ، فجاءت إلى المدينة ، فنزلت على امرأة تضحك الناس. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأرواح جنود مجندة » الحديث.

وقد استقرت شريعته سبحانه : أن حكم الشئ حكم مثله ، فلا تفرق شريعته بين متماثلين أبدا ، ولا تجمع بين مضادين. ومن ظن خلاف ذلك : فإما لقلة علمه بالشريعة ، وإما لتقصيره في معرفة التماثل والاختلاف ، وإما لنسبته (١) إلى شريعته ما لم ينزل به سلطانا ، بل يكون من آراء الرجال. فبحكمته وعدله ظهر خلقه وشرعه ، وبالعدل والميزان قام الخلق والشرع ، وهو : التسوية بين المتماثلين ، والتفريق بين المختلفين. وهذا كما أنه ثابت في الدنيا ، فهو كذلك يوم القيامة. قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا (٢) يعبدون ، من دون الله ، فاهدوهم إلى صراط الجحيم ). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وبعده الإمام أحمد رحمه الله ـ : « أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم ». وقال تعالى : ( وإذا النفوس زوجت ) ، أي : قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره ، فقرن بين المتحابين في الله : في الجنة ، وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان : في الجحيم. فالمرء مع من أحب شاء أو أبى. وفى صحيح الحاكم وغيره ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : « لا يحب المرء قوما إلا حشر معهم ».

والمحبة أنواع متعددة. فأفضلها وأجلها : المحبة في الله ولله ، وهى تستلزم محبة ما أحب الله ، وتستلزم محبة الله ورسوله ( ومنها ) : محبة الاتفاق في طريقة أو دين ، أو مذهب أو نحلة ، أو قرابة أو صناعة ، أو مراد ما. ( ومنها ) : محبة لنيل غرض من المحبوب إما من جاهه ، أو من ماله ، أو من تعليمه وإرشاده ، أو قضاء وطر منه. وهذه هي المحبة العرضية : التي تزول بزوال موجبها ، فإنه من ودك لأمر ولى عند انقضائه.

وأما محبة المشاكلة والمناسبة التي بين المحب والمحبوب ، فمحبة (٣) لازمة : لا تزول إلا لعارض يزيلها. ومحبة العشق من هذا النوع : فإنها استحسان روحاني ، وامتزاج نفساني ولا يعرض في شئ من أنواع المحبة ـ : من الوسواس والنحول ، وشغل البال والتلف. ـ ما يعرض من العشق.

فإن قيل : فإذا كان سبب العشق ما ذكرتم ـ : من الاتصال والتناسب الروحاني ـ فما باله لا يكون دائما من الطرفين ، بل تجده كثيرا من طرف العاشق وحده؟ فلو كان سببه الاتصال النفسي ، والامتزاج الروحاني ـ : لكانت المحبة مشتركة بينهما.

فالجواب : أن السبب قد يتخلف عنه مسببه لفوات شرط ، أو لوجود مانع. وتخلف المحبة من الجانب الآخر ، لا بد أن يكون لاحد ثلاثة أسباب : ( الأول ) : علة في المحبة ، وأنها محبة عرضية (١) ، لا ذاتية. ولا يجب الاشتراك في المحبة العرضية (١) ، بل قد يلزمها نفرة من المحبوب. ( الثاني ) : مانع يقوم بالمحب ـ يمنع محبة محبوبه له ـ إما في خلقه ، أو خلقه ، أو هديه ، أو فعله ، أو هيأنه ، أو غير ذلك. ( الثالث ) : مانع يقوم بالمحبوب ، يمنع مشاركته للمحب في محبته. ولولا ذلك المانع : لقام به من المحبة ( لمحبه ) (٢) مثل ما قام بالآخر.

فإذا انتفت هذه الموانع ، وكانت المحبة ذاتية ـ : فلا يكون قط إلا من الجانبين.

ولولا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار ، لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم. ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم : كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والاهل والمال.

( فصل ) والمقصود : أن العشق لما كان مرضا من الأمراض ، كان قابلا للعلاج. وله أنواع من العلاج. فإن كان مما للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعا وقدرا ، فهو علاجه. كما ثبت في الصحيحين ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة : فليتزوج ، ومن لم يستطع : فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ». فدل المحب على علاجين : أصلى وبدلي ، وأمره بالأصلي ـ وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء ـ فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا.

وروى ابن ماجة في سننه ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « لم نر للمتحابين مثل النكاح ». وهذا هو (٣) المعنى الذي أشار إليه سبحانه ـ عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة ـ بقوله : ( يريد الله أن يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا ). فذكر تخفيفه سبحانه (١) في هذا الموضع ، وإخباره عن ضعف الانسان ـ يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة ، وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له : من أطايب النساء مثنى وثلاث ورباع ، وأباح له ما شاء : مما ملكت يمينه ، ثم أباح له أن يتزوج بالإماء ـ إن احتاج إلى ذلك ـ : علاجا لهذه الشهوة ، وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف. ورحمة به.

( فصل ) وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدرا أو شرعا ، أو هو ممتنع عليه من الجهتين ـ وهو الداء العضال ـ فمن علاجه : إشعار نفسه اليأس منه. فإن النفس متى يئست من الشئ : استراحت منه ، ولم نلتفت إليه.

فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس ، فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا : فينتقل إلى علاج آخر ، وهو علاج عقله : بأن يعلم بأن تعلق القلب بمالا مطمع في حصوله نوع من الجنون ، وصاحبه بمنزلة من يعشق الشمس : وروحه متعلقة بالصعود إليها ، والدوران معها في فلكها. وهذا معدود ـ عند جميع العقلاء ـ في زمرة المجانين.

وإن كان الوصال متعذرا شرعا لا قدرا ، فعلاجه : بأن ينزله منزلة المتعذر قدرا. إذ ما لم يأذن الله فيه ، فعلاج العبد ونجاته موقوف على اجتنابه. فليشعر نفسه : أنه معدوم ممتنع لا سبيل له إليه ، وأنه بمنزلة سائر المحالات.

فإن لم تجبه النفس الامارة ، فليتركه لاحد أمرين : إما خشية ، وإما فوات محبوب هو أحب إليه ، وأنفع له ، وخير له منه ، وأدوم لذة وسرورا. فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال ، بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وأنفع وألذ ، أو بالعكس ـ : ظهر له التفاوت. فلا تبع لذة الأبد ـ التي هي لا خطر لها ـ بلذة ساعة تنقلب آلاما ، وحقيقتها : أنها أحلام نائم ، أو خيال لا ثبات له. فتذهب اللذة ، وتبقى التبعة ، وتزول الشهوة ، وتبقى الشقوة.

الثاني : حصول مكروه أشق عليه من فوات هذا المحبوب ، بل يجتمع له الأمران. أعنى : فوات ما هو أحب إليه من هذا المحبوب ، وحصول ما هو أكره إليه من فوات هذا المحبوب. فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب ، هذين الامرين ـ : هان عليه تركه ، ورأى أن صبره على فوته أسهل من صبره عليهما بكثير. فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته : تأمره باحتمال الضرر اليسير ، الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا ، لدفع هذين الضررين العظيمين. وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته : تأمره (١) بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه ، جالبا عليه ما جلب. والمعصوم من عصمه الله.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ، ولم تطاوعه لهذه المعالجة ـ : فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته (٢) ، وما تمنعه من مصالحها. فإنها أجلب شئ لمفاسد الدنيا ، وأعظم شئ تعطيلا لمصالحها. فإنها تحول بين العبد وبين رشده الذي هو ملاك أمره ، وقوام مصالحه.

فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء : فليتذكر قبائح المحبوب ، وما يدعوه إلى النفرة عنه. فإنه إن طلبها وتأملها : وجدها أضعاف محاسنه التي تدعو إلى حبه. وليسأل جيرانه عما خفى عليه منها : فإن المحاسن كما هي داعية الحب والإرادة ، فالمساوى داعية البغض والنفرة. فليوازن بين الداعيين ، وليحب أسبقهما وأقربهما منه بابا. ولا يكن ممن غره لون جمال على جسم أبرص مجذوم ، وليجاوز بصره حسن (٣) الصورة إلى قبح الفعل ، وليعبر من حسن المنظر والجسم ، إلى قبح المخبر والقلب.

فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها : لم يبق له إلا صدق اللجأ (٤) إلى من يجيب المضطر إذا دعاه ، وليطرح نفسه بين يديه على بابه : مستغيثا به ، متضرعا متذللا مستكينا.

فمتى وفق لذلك : فقد قرع باب التوفيق. فليعف وليكتم ، ولا يشبب بذكر المحبوب ، ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى ، فإنه يكون ظالما متعديا.

ولا يغتر بالحديث الموضوع على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذي رواه سويد بن سعيد ، عن علي بن مسهر ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورواه عن (١) ابن مسهر أيضا ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وراه الزبير بن بكار ، عن عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (٢) ، عن عبد العزيز بن حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : « من عشق فعف فمات ، فهو شهيد » ، وفى رواية : « من عشق وكتم وعف وصبر ، غفر له الله وأدخله الجنة ».

فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يجوز أن يكون من كلامه. فإن الشهادة درجة عالية عند الله ، مقرونة بدرجة الصديقية ، ولها أعمال وأحوال هي (٣) شرط في حصولها. وهى نوعان : عامة وخاصة ، فالخاصة : الشهادة في سبيل الله. والعامة خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحدا منها. وكيف يكون العشق ـ الذي هو شرك في المحبة ، وفراغ عن الله ، وتمليك القلب والروح والحب لغيره ـ تنال به درجة الشهادة؟! هذا من المحال : فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد ، بل هو خمر الروح : الذي يسكرها ، ويصدها عن ذكر الله وحبه ، والتلذذ بمناجاته ، والانس به ، ويوجب عبودية القلب لغيره. فإن قلب العاشق متعبد لمعشوقه ، بل العشق لب العبودية : فإنها كمال الذل والحب والخضوع والتعظيم. فكيف يكون تعبد القلب لغير الله ، مما تنال به درجة أفاضل الموحدين وساداتهم وخواص الأولياء؟! فلو كان إسناد هذا الحديث كالشمس : كان غلطا ووهما. ولا يحفظ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظ العشق ، في حديث صحيح البتة.

ثم : إن العشق منه حلال ، ومنه حرام. فكيف يظن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه يحكم على كل عاشق يكتم ويعف بأنه شهيد؟! فترى من يعشق امرأة غيره ، أو يعشق المردان والبغايا ـ ينال بعشقه درجة الشهداء. وهل هذا إلا خلاف المعلوم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كيف : والعشق مرض من الأمراض التي جعل الله سبحانه لها الأدوية شرعا وقدرا ، والتداوي منه إما واجب : إن كان عشقا حراما ، وإما مستحب؟! وأنت إذا تأملت الأمراض والآفات ـ التي حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابها بالشهادة ـ : وجدتها من الأمراض التي لا علاج لها ، كالمطعون والمبطون والمجبوب (١) والحريق والغريق ، وموت المرأة يقتلها ولدها في بطنها. فإن هذه بلايا من الله لا صنع للعبد فيها ، ولا علاج لها ، وليست أسبابها محرمة ، ولا يترتب عليها ـ : من فساد القلب ، وتعبده لغير الله. ـ ما يترتب على العشق.

فإن لم يكف هذا في إبطال نسبة هذا الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلد أئمة الحديث العالمين به وبعلله : فإنه لا يحفظ عن إمام واحد منهم قط ، أنه شهد له بصحة بل ولا بحسن (٢). كيف : وقد أنكروا على سويد هذا الحديث ، ورموه لأجله بالعظائم ، واستحل بعضهم غزوه لأجله.؟! قال أبو أحمد بن عدي في كامله : « هذا الحديث أحد ما أنكر على سويد » ، وكذلك قال البيهقي : « إنه مما أنكر عليه ». وكذلك قال ابن طاهر في الذخيرة وذكره الحاكم في تاريخ نيسابور ، وقال : « أنا أنعجب من هذا الحديث. فإنه لم يحدث به عن غير سويد ، وهو ثقة ». وذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الموضوعات. وكان أبوبكر الأزرق يرفعه أولا عن سويد ، فعوتب فيه : فأسقط ذكر (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لا يجاوز به ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن المصائب التي لا تحتمل : جعل هذا الحديث من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن له أدنى إلمام بالحديث وعلله : لا يحتمل هذا البتة. ولا يحتمل أن يكون من حديث ابن الماجشون ، عن ابن أبي حازم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) (١) مرفوعا. وفى صحته موقوفا على (٢) ابن عباس نظر.

وقد رمى الناس سويد بن سعيد ـ راوي هذا الحديث ـ بالعظائم ، وأنكره عليه يحيى بن معين ، وقال : « هو ساقط كذاب ، لو كان لي فرس ورمح : كنت أغزوه » وقال الإمام أحمد : متروك الحديث. وقال النسائي : ليس بثقة. وقال البخاري : « كان قد عمى ، فيلقن (٣) ما ليس من حديثه ». وقال ابن حبان : « يأتي بالمعضلات عن الثقات ، يجب مجانبة ما روى » انتهى. وأحسن ما قيل فيه قول أبى حاتم الرازي : « إنه صدوق كثير التدليس (٤) » ، ثم قول الدارقطني : « هو ثقة. غير أنه لما كبر كان ربما قرئ عليه حديث فيه بعض النكارة ، فيجيزه » انتهى. وعيب على مسلم إخراج حديثه : وهذه حاله. ولكن مسلم روى من حديثه : ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به ، ولم يكن منكرا ولا شاذا. بخلاف هذا الحديث. والله أعلم.



.

bymourad chaaba
صورة مفقودة
 
أعلى