مؤمن سمير - من عندِ الخوفِ لحدِّ الغرق

.... بقيت درجتان وأصل إلى الانتظار،
أغسلُ الهواءَ وأعطِّرُ ريقي وأحرقُ آثارَ أصحابِ الخنادقِ.. عندما تهلُّ هذه المرةِ سأفوتُ في الأبوابِ، أرفعُ ريشها وأكشفُ قدرتها على رسمِ الوَهَجِ، أمنعها من إنباتِ الصوفِ الذي يعدو حولنا وأرشُقُ عيني في تاريخِها، المنقوشِ على الجِلْدِ ..
بالرغوةِ....
انتظارُها أطولُ من بَصَّاتِها، والرقصةُ تلعب بيننا، من أولِ
القتلِ...
دقائقُ مقصودةٍ، تَغيبُها فيَّ وتبعثُ بالماكرِ الذي يقول اطمئنوا، الطائرُ المتحمسُ ليحكي للشَبِقينَ، الملوك.. ومن خلفِ شُبَّاكِ البَسْمَةِ يزدانُ المجنونُ بالتيهِ
كأنهُ الذي يدورُ في الهُوَّةِ.. ويدورُ
والفوهةُ صَريرُها يكافِئُ الحَذَرَ،
ولايَمَسَّهُ....
الجيرانُ والحيوانُ الخرافيُّ والكتبُ والجَدُّ والإسفلتُ ...
كلهم يحومونَ والريحُ تنغلقُ على ذكرياتِها حتى تقعَ النَهِمَةُ في الشَرَكِ.. في دوَّامةِ القناصِ الأحدب ، المرتعشِ لحدِّ
أن يشربها..
شدت خطوتي فانخلعت القُبْلَةُ، وتعلَّقت في ضحكةِ ولدٍ عابثٍ، لا يُعَدِّي ممرَّ الصدرِ ....
يفزعُ من قدرتِهِ على حملِها كأنها نَدَى، وكلما تنسى الظِلالُ أوتلحق قُدَّامَها شهقَتَها، تنوحُ للوراءِ عظامُهُ، هم قادمونَ الآنَ.. أم أن الفاجعةَ تُخَبِّي قيامتها فيعلوَ البركانُ؟.... يحنو الجورب الطويلُ، ولازلتُ أتعثر بين الخيوطِ والرحيقِ والأسوَد، الشَبَكةُ التي تحيط بالملفوفِ ليصرخ أنهُ ضبعٌ، لكني أدركُ أنها لم تتمنع بعد، أُذكِّرها برشفةِ بحرٍ منتظِرٍ فتقول عليكَ الباقي، أسيبُ حواسي على المنضدةِ وأصيرُ يداً تنزعُ وتنزعُ
الوردَ والقيْظَ والفحيحَ.. تنزعُ وتنزعُ
.. لكنهم آتونَ.. إن لم يكن الآن ،
فبعد زلزالٍ واحد...
.. وأخيراً بانت السماءُ من علبتها ومرت القافلةُ.. أولها وآخرها أنها تتعلَّمُ اليقينَ، وأنا أختفي وأظهرُ، مثل النجم الساخرِ
الخوَّافِ، هناكَ...
الرقصةُ العاريةُ، موصوفةٌ منذ البئرِ الأولى..
يفتحُ ذراعاً أطولُ من نخلةِ الغائبِ وتُشَبِّك هي ظلها في لحمِها فيصيرَ المكانُ سميناً.. يشوفها تملؤهُ فيتراجعَ ثم يغمضَ رعدةَ المحاربِ وتنفتحَ بواباتُ الهيكلِ ويندفعَ كأنه ثورة، تكمل الشفيفةُ دورانها وتهز رأسها براحةٍ وتترك شعرها للتمثالِ..
فيحيا..
الخُصلاتُ مربوطةٌ على صاري سفينةِ الكفِّ، ولمستها تفكَّ الجزيرةَ من أرضها، فيفرشَ شجراً .. يختفي في الهِزَّةِ..
تُخرج من عمقها سجائرَ لتقنِّنَ الحريقَ.. حبالاً تنهرُ الكذباتِ المتناثرةِ وتجدلها فيصعدَ ويصعدَ وضحكاً تدهنُ به الغاباتِ المرشوقةِ بين خطوتها والجداولِ...
أتشمم نظراتها الدوَّارةِ، وألحسُ الهرولةَ بين اليابسِ
والنهرِ.. سبعةَ أشواطٍ ثم أبينُ...
مرة تُصِرُّ على أن تَصُرَّ ملابسكَ كمنطادٍ ومرةً تطيرُ بالداخلِ فتنسى كثافةً ترسُمُها على هيئةِ أرواحٍ ومفاتيحَ في علبةِ خوفٍ، وأنا الذي يرقبُ مبهوراً ويصيرُ طَيِّعاً كأنه نبيذٌ..
يتيبَّسُ كلما شالت صوتَها من عليهِ ..
السحابةُ وقعت بين الجِلْدِ والضغينةِ، فزحفنا
بين الخنادقِ ولُهاثِ المَلاكَاتِ.. ننتشلُ الرُكْبَةَ الوليدةَ،
ونقتسمُ الطَيْفَ..
الحَمَامُ يُحلِّقُ في الممراتِ، وكلما تسقطَ واحدةٌ تسندها بساقَها المشرعة، ثم تُبَيِّتُهم الشفقةُ في وكرِها،
وتلاغيهم الأصابعُ الأمهاتُ أو تمتصَّ ملامحهم ،
أفعى ضالة....
أيتها الحروبُ القديمةُ.. الخطوةُ سريعةٌ والخريطةُ مسحوبةٌ من عند خوفها ، لحدِ البلَلِ ..
لسانُها يغافلها ويلفُّ حولَ الفنارِ، يقدم قرابينهُ والسمكُ يغافلهُ وينطُ في الوجهِ، يهبطُ ويصعدُ والوَثَنُ يتوقُ لأن يَشُمَّ الأخرى ويهربَ للباحةِ المستحمَّةِ خلفَ الحوائطِ، للكرتيْنِ الباذختينِ اللتيْنِ استعارتا الدفءَ والحَفْرَ الطيِّعَ.. تتغشَّاهُ الحكمةُ فيغني حرفٌ وَقِحٌ ، كان قد فصل بين ( الشَفرةِ ) و( الشفاةِ )، لا بل حرفانِ... لذا لن يحفُلَ كثيراً، بانخلاعِ الأسنانِ اللبنيةِ على البوَّابةِ،
المنتحرةِ بين القمةِ،
والسِرِّ..
خَطٌ من النمل باتجاهِ الجنازةِ.. والخنجر في دوامتِهِ، يَعِبُّ العَرَقَ والجنونَ..
تَحُومُ الطبولُ والستائرُ تحترقُ والنافذةُ تَشدُّ المطَرةَ وتشيلها للهستريا، البابُ ينكفئُ ويبكي وطأةَ الذين يتكاثرونَ خلفَهُ كلما يُغمِضُ.. وصلوا الآنَ، بقيَت ثَوانٍ.. لم يصلوا للَّحظَةِ.. الطلقاتُ تغطي المقتولَ وتحصُرُ الفَارِّينَ من الجحيمِ إلى الجحيمِ في الشقوقِ..
يظهر ُفي الكَفِّ ويحملُ لحيتَهُ وينادي.. ثم لا تنسَ، أَيَّدَتْكَ الأقدارُ بحليبها، القُبْلَةَ بعد العواصفِ، يُحِبُّكَ الأسلافُ وعلى حزنِكَ المدينةُ تنتشي..



.
صورة مفقودة

Jean Francois Portaels -1818-1895


.
.......................
.....................
أُمسِكُ اليدَ وأقودها من وراءِ لهاثِها للمرآةِ ، هل أنا ، أنتِ أنا أنا أنتِ أنتِ ، أنا ؟ ومَنْ هؤلاء خلفَنَا وأمامَنَا ،
على اليمينِ وفي العمقِ والجُحْرُ يضيقُ
تتسعُ هناءَتُها.. يضيقُ
ورائحتهم تَهِلُّ ،
وتَبِيتُ على الغَمْرِ حمامة ...


* من عندِ الخوفِ لحدِّ الغرق * شعر: مؤمن سمير- مصر


.
 
أعلى