علي حسن الفواز - هستيريا الجسد

الجسد الانساني صانع الاسئلة الازلي ومكمن سرانيته الغائرة، هو الكينونة الاولى التي انكشفت على المجهول والطبيعة والمعرفة والموت، وهو الساحر القديم الذي ادرك سر النار وسر اللذة وتلمس رعشاتهما البكر ..
هذا الجسد يحيلنا دائما الى لعبته المقدسة في الغواية، حيث المراودة والافتراس والاحتواء يحرضنا على الوجود والخصب مثلما يطلقنا للخطيئة النبيلة،اذ يكشف لنا أسرار صنائعه وفيوض جواهره،وتوهجاته الباعثة على التواصل والذهاب بعيدا نحو اقصى الغابة حيث تفاحة المثيولوجيا .
ازاء هذه الحضورية الخالقة والطقوسية الباهرة، يمارس الجسد توغلاته في الاكتشاف والانتهاك
ويطلق دون تورية لعبته في السيطرة والتناسل والقوة، حتى يبدو وكأنه سر الكينونة القديمة او ربما صاحب الذات القديمة الكليانية الخالصة، وصاحب مرجعياتها الولودة والباثة في الانطولوجيا وفي المكان!! و من هنا يكون الجسد هو جوهر الحضور الاولي الذي جعله الله اصل المضغة المقدسة، والصلصال الحي لانسنة توحش الطبيعة، كما انه الكاشف والفاضح والمنتهك والصانع والاباحي والاخلاقي، هو الاول ايضا في صناعة السيطرة وابتكار الامكنة، مثلما هو الاول في صناعة خطاب الجنسانية الباعث على استحضار رمزية الانوثة الكونية وشفراتها في اللذة والخلق، واصطناع نصها المثيولوجي والملحمي بكل تفجراته الفجائعية والغنائية، لتضع انوثة هذا الجسد في ترسيمة ثنائية المقدس/المدنس، وثنائية الكفّ والاندفاع !! وفي اقتراح نصه المضاد النافر والمتجاوز والحاوي ازاء تاريخ قمعه المكين المحكوم عليه بالهامشية او باللاوجود كما يقول فوكو...
هذا التوصيف يجعل الجسد الانثوي في سياق صراعي دائما صراع في سيرة الخلق، وصراع مع السلطة! اية سلطة بدءا من سلطة الكهف والفأس الى سلطة الخطاب والجسد وسلطة قوانين العمل وانتهاء بسلطة الابوة وتحولاتها!! مثلما يجعله ايضا امام شخصانية العرض دائما، اذ تكون هي الباثة للشفرة، وهي الصانعة لصفاته واسحاره، وهذا الصفات تختصر الجسد في كليته، اذ يكون الجسد هو ذاته الجوهر في الخصب و المركز في الوصال والاستيهام ...
ولعل ادوار الجسد ومستوياته وصفاته تلك تتحول في السياق الى صلات متشابكة لها مراكز وسلطات واقنعة عرض متعددة ومتجددة، وهو ما يجعله التحدي الاكبر لكل مفاهيم العقل وثوابته والتحدي الاكبر لاية سلطة كانت!! حيث تحمل كل سلطة في جوهرها نزوعا نحو احتواء الانوثة، بفعل تكرار انتاج نموذج السلطة وبفعل فرض هيمنتها الرمزية على الجسد!!
لقد كانت ثقافة الجسد مركزا ايروسيا في جوهر نظرية الخلق كما تراه سوزان سونتاج، وفي اسطورة الالهة الانثى المالكة لسحر الخلق والاغواء والخطيئة وسعار الغيرة، وفي اسطورة المعرفة والجمال، وهذا ما جعله مصدر الاثارة القديم الباعث على انتاج تلك العلاقات المنسوجة الصلات للسلطة والمعنى والقناع، ليس لان الجسد حامل اللذة، بقدر ماهو الحامل السسيوثقافي الذي تتجوهر عنده المقولات العقلية واللغوية وانماط الاستعراض و التي جعلته في نوبة من السيولة والجريان والتجدد، اذ تبدو هذه الاستعراضية اشبه ما تكون رغبة عميقة في تفكيك تاريخ الصمت الجسداني المكبوت تحت قواه العالية، الربات النقيات، البغايا المقدسات، الشريرات الميدوزات، من اجل اعادة انتاج نصه الاحتجاجي في سياق علاقات قرابية متمردة ونافرة اكثر تمثلا لـ (جريان وسيولة) الجسد واكثر احتفاء باخطائه النبيلة، وتفرده الوارث لاسطورة ليليت الاستثنائية المسكونة بقوة وشراهة الانوثة !!!!
تبدأ هذه اللعبة /التفكيك / التمرد من شيوع ثقافة الجنسانية المعاصرة في المناهجيات الجديدة (غير القهرية التي حاول ان يفلسفها كل من فرويد ولاكان، باعتبار ان فكرة الجسد الخاضع لهذه الفكرة هو جسد مرضيّ مشوب بالحاجة العيادية، لم يكن الجسد الفرويدي جسدا عاما، ومرجعيا، وصانعا للفوانيس!! كان جسدهما ايضا قهريا وعصابيا ومنحرفا!! الجسد الآخر الاحتفالي والمتحرر والفاعل جاء مع كتابات سيمون ديبوفوار، وفرنسوا ساغان، ورولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا، وينتهي خطابه عند ثقافة الاستعراض التي تحولت في الفنون الاوربية المعاصرة الى صناعة خالصة لها نظمها الانتاجية والتسويقية، والذي قال عنه مرة الرئيس الفرنسي شارل ديغول (ان سيقان بريجيت باردو تجلب ارباحا لفرنسا اكثر من ارباح شركة رينو للسيارات)
ولعل نموذج مثل مادونا وشاكيرا يمثل خرقا آخر لسياقات العرض المألوفة التي اعتاد الكثيرون ان يشاهدوها في الوسائط المرئية أو في تقديم اللوحات الجسدية التي تحتشد بها علب الليل، اذ يمثل العرض هنا نزوعا الى توليدات مغايرة في فكرة المراودة ذاتها كنسق اشكالي لا يمكن السيطرة عليه لانه يقدّم نموذجا للجسد المتفوق المتعالي! وهذا النزوع ارتبط ايضا بآليات العرض التي أخذت تقدمها الكليبات الغنائية العربية كنوع من صناعة النص الاغوائي الذي يحمل في جوهره احتجاجا عميقا لتاريخ المسكوت والمقموع عنه في ثقافتنا الجسدانية في اغلب افلام هوليود وغيرها والذي امتد الى الاغنية العربية الجديدة في نمط انتاجها للكليبات الغنائية!! فنماذج مثل نانسي عجرم وأليسا وروبي وهيفاء وهبي ومروة وغيرهنّ لاتنتمي الى تاريخية تقديم الجسد في سوق الرقيق القديم، كما كانت تقدمه لنا الحكايات والمرويات.. وحتى التوصيفات التي كانت ترد هنا وهناك للجواري والمغنيات والاماء اللائي ملأن جسد الحكاية العربية بمثيولوجيا ساحرة، لاتمثل الاّ الجانب الظاهري من السرديات الكبرى لثقافوية التدوين العربي، اذ ان هذه المثيولوجيا ظلت مرتبطة بحكايات الوصال والغناء والعلاقات السرية عن العشق والاولاد غير الشرعيين الذين سرعان مايظهرون ليكون لهم دور في الحياة السياسية والعسكرية، مثلما يمارسن دور الصانعات الماهرات للمؤامرات والتصفيات السياسية والجسدية داخل اروقة البلاطات.
فالجسد هنا يملك حضورا علنيا وسريا، ويملك ايضا ايهاما وتعاليا على سلطة المكان والعرض مع وجود عزلة اباحته للعامة، فضلا عن انه جسد فيه الكثير من (الهرمينوطيقيا ) اذ يقدم لنا نصه المتعالي ويقدم لنا رؤيته للمعنى المضاد لفكرة ألمعاني المبذولة والمتداولة في ثقافة العرض القديم واسواقه وكذلك في خطابات التابو وثقافة الوصايا التي جعلت الجسد نصا ثقافيا مملوكا لمؤوله وليس نصا طبيعيا..
ان النموذج الاستعراضي الذي تطرحه الاعلاميات الفنية ونوادي الليل هو نموذج اغترابي عن ظاهرة الجسد البلاطي!! لكنه اكثر استعارة من استراضات الجسد الثقافوي الغربي الذي اصطنع للجسد نسقا اشكاليا خارج مفاهيم وضغوط الخطيئة والاثم والرعوية والتحريم،وربما هو الاقرب الى طبيعة الجسد القديم الذي ارتبط باشكال وثقافات مثيولوجية خاصة في الحضارات السومرية والفرعونية التي تركت لنا جسدا مكشوفا ومباحا وغاويا بدءا من جسد ليليت المتمرد وجسد عشتار الصاخب وجسد سيدوري الاستعراضي وانتهاء بالجسد البلاطي.
فنموذج نانسي عجرم بطفولته وعفويته واثارته يأ خذ طابعا هو اقرب للطبيعة المتعالية التي لايحدها المعنى او يقدمها التاويل، ففكرة العرض الطبيعي (النانسوي) تقوم على اساس صناعة الجسد باعتباره نصا شهوانيا تصوغه تقنيات العرض بالطريقة التي تحرض الحس والغواية وجاذبية التلقي/ المشاهدة، وكذلك نموذج اليسا الاكثر استخداما لنصي الصورة والعرض واللغة، اذ تأخذ صورة الانثى/نموذجها هنا طابعا كامل الغواية عبر ربط هذه الصورة مع ايهامية اللغة التي تصنع لها بخصوصية فائقة يمتزج فيها مهارة العرض/ النص الاغوائي مع مهارة الصوغ الايحائي/ نداء الانثى/ بوحها/ اعترافها،وهذا يدخل في لعبة اعادة انتاج الجسد الاستعراضي عبر الايهام به خارج المكان القديم، سوق الرقيق/ بيت الحريم / الجواري/ المبغى/ الملهى/ علب الليل.. كما ان نموذج هو اقرب الى الفجاجة الاستعراضية الذي يمثله نموذج المطربة روبي يعكس الجانب الايروتيكي في عرض النص الجسداني وفق صياغة تدخل في اطار تعويضي مباشر، اذ يعمد صانع نصها الى توليف العرض الجسدي على شكل رسالة الى اعمار معينة والى امزجة مرضية تؤمن بالعرض المباشر كنوع من التعويض الايهامي المقابل لسايكولوجيا الحرمان والاحباط والفشل.. واعتقد ان النص (الروبوي) هو النص الاقرب الى ما يمكن ان نسميه بالهستيريا الجنسانية!
ان محور الثقافي/ الجسدي الذي شاع في ادبياتنا المعاصرة مع كتابات فوكو حول الجنسانية ومع طروحات نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي يمثل نوعا من التمرد على تاريخ الفحولة وتاريخ العرض الذكوري التاريخي، وهذا المحور رغم كل التابوات والتدنيسات التي تجد فيه خطابا في اعادة انتاج الخطيئة! الاّ انه يعزز فاعليته في ثقافتنا المعاصرة ليس كخطاب تنويري وانما كمنظور اشكالي متفرد تنعكس تأويلاته وقراءاته على الكثير من انماط المتداول الثقافي باعتبار ان فضاء الجسد هو مادة الحبس والتحريم في سياق الكثير من الثقافات والمعتقدات، وان التعاطي معه نصوصه في المشاهدة/ العرض وفي القراءة يجعلنا نؤشر معطيات الوعي وانعكاساتها على البرامج الحداثوية التي تضع هاجس الصناعة الصورية مادتها الجوهرية، وهذه الصورة لايمكن ان تكون نصا في التأثير دون الجسد باعتبار هذا الجسد النص المكشوف والنص المؤّول والنص الذي يصنع متلقيه.


.

صورة مفقودة

Delphin Enjolras - 1857-1945
 
أعلى