عقيل عبد الحسين - في أدب الجسد

يدفع الغياب النسبي للكتابة عن الجسد في السرد العربي الحديث إلى التفكير بنوع من الكتابة في السرد القديم عرفت بالكتابة في الباه ووصف الشهوة وأوضاع العلاقات الحميمة.
ويحصي ابن كمال (ت940هـ) في مقدمة كتابه (رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه) عددا كبيرا من الكتابات في هذا المجال من بينها كتاب الباه للنحلي، وكتاب العرس والعرائس للجاحظ، وكتاب الإيضاح في أسرار النكاح، وكتاب جامع اللذة لابن السمسماني، وكتاب المناكحة والمفاتحة في أصناف الجماع وآلالته لعز الدين المسيحي.
والكتابة عن الجسد تشغل مساحات من معظم كتب الأخبار الاعتيادية في السابق، فترد في بعضها خبر عن العلاقة الجنسية، وعن غرائب تتصل بنساء شهرن بالمجون، أو رجال شهروا بالتخنث. وليس يتعدى الأمر هنا الإمتاع والترويح عن القارئ. ثم بعد ذلك بدأت تظهر كتب مخصصة بكاملها لموضوعة الجنس والرغبة الجنسية والشهوة، ومن بينها كتاب شهاب الدين أحمد التيفاشي (ت651هـ) (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب) موضوع هذه المقالة.
ومع أن هذه الكتب تتشابه في شكلها العام، وهو تضمن أخبار صريحة في وصف العلاقة الجنسية خاصة غير الشرعية والشاذة بألفاظ صريحة، فإنها تتميز في الغايات التي توجه الكتاب. ولا تخرج تلك الغايات عن الغايات الطبية أو الوعظية أو التنبيهية، وجميعها تعمل تحت مظلة الدين الذي كان المهيمن والموجه الأكبر للثقافة العربية.
والغاية الطبية تعمل على تنبيه الإنسان إلى ما يجعله يحصل على لذته من دون منغضات جسدية. ولذا ترى أن مؤلف كتاب رجوع الشيخ إلى صباه يصف للقارئ العلاجات اللازمة لتقوية الشهوة وزيادتها والعناية بأعضائها لتحصل على الشكل المناسب الذي يحقق الرضا لطرفيها. والمؤلف وكتابه يعملان في سياق ديني وبمبرر ديني، فذلك الاستعداد للشهوة وللمتعة والحصول عليها على وجه الكمال يجعل المسلم أشد طمعا في الجنة، فكما يقول الغزالي هي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان، فان هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في الملذة الكاملة بلذة الدوام، فيستحث العبد على العبادة الموصلة إليها، فيستفيد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة على ما يوصله لنعيم الجنان.
ويقابل ذلك البعد الأخروي بعد دنيوي بحت ينسجم كليا مع فكرة التحريم والمنع القاطع لأي ضعف أمام الشهوة، ولأية ممارسة جنسية خارج الإطار المشرع، فماذا يترتب على تغليب الشهوة؟ إنها الخسارة المعنوية، أي أن يخسر الرجل سمعته واحترام الناس له ويصير مادة لكتب النوادر والأخبار يتداول الناس اسمه، أو الخسارة المادية، أي أن يخسر أمواله.
وحتى الخسارة المعنوية هذه فإنها لا تقف عند حد، فقد تبدأ بخسارة السمعة، وقد تصل إلى إلصاق العار الأبدي بصاحبها، فالقاضي الكبير المقدر المقرب من الوالي يصير في فترة قصيرة ولسقطة واحدة ولسوء تقدير، مثار تندر الناس وسخريتهم وانتقاصهم ومادة للحكي، فما أن يمر المؤلف التيفاشي، بالمدينة حتى يتبرع أحدهم ليحكي له قصة القاضي الذي سقط من عليائه لأنه عشق غلاما وواعده في حمام وادهنا فبالغا في الادهان حتى اكتست أرضية الحمام بالدهن، وما أن باشر القاضي رغبته مع الغلام حتى انزلقا جميعا إلى باحة الحمام وصارا وسط الناس الذين انذهلوا من مشهد القاضي يقوم عن الغلام ويجر نفسه عاريا مفضوحا إلى الداخل.
لا حدود للخسارة التي تلحق بالرجل (والكتاب موجه إلى الرجل) بسبب تغليبه الشهوة والرغبة على العقل والتأمل، فخسارة سمعته أشد من خسارة أمواله بحيلة من حيل القوادين أو البغايا الذين ينصبون له الشراك ويقدمون له النساء زاعمين أنهن من أزواج الخاصة ويردن التخفف من ضغط القصور، أو من زوجات أعدائهم الذين لا سبيل إلى كسرهم معنويا إلا بانتهاك نسائهم.. ولكن أسوأ الخسارت هي خسارة الرجل وضعه فاعلا في العلاقة الجنسية وفي الثقافة، وتزحزحه إلى خانة الأنثى. ذلك ما ينقله التيفاشي في كتابه ضمن باب المخنثين. وهو في نقل أخبارهم يمارس نوعا من الجلد اللفظي على هذا النوع من الرجال الذين مسختهم الشهوة فجعلتهم موضوعا للفعل الجنسي المصاحَب بالأذى، وجعلتهم، كما يريد المؤلف من ذكر قصصهم على لسانهم، عبرة للقارئ، فالرجل الذي يشتهي ما تشتهيه المرأة منتهك فعليا، إذ يُمارس عليه، وبرغبته، أقسى أنواع الفعل الجسدي الذي يصل به إلى درجة التلف، ومنتهك لفظيا، إذ يضع السارد على لسانه أشد العبارت تأنثا وخلاعة ومجونا، مما لا يضعها على لسان أشد النساء عهرا.
ستكون عاقبة اغفال العقل والتدبر كبيرة تبدأ من خسارة المال وتمر بخسارة السمعة وتصل إلى خسارة دور الذكورة وقيمه الفعلية والكلامية. وفي هذه الحالة الأخيرة يصل القارئ إلى أعلى درجات الصدمة التي يريد منها المؤلف تحقيق رسالة الكتاب، وهي التحذير من الجسد ومن الإصغاء إلى رغباته، والعودة إلى العقل الذي تنبهه دائما التجارب التي ترد في الأخبار، فعليك أن تتذكر، أيها القارئ، دائما أنك لا تقرأ إلا لكي تنتبه فلا تكون ضحية أخرى تُضاف إلى الضحايا الذين يذكرهم الكتاب. وبالنتيجة فأنت لا تقرأ أدب جسد ولذة وتقدير لهما واحتفاء بهما، وإنما على العكس تقرأ أدب تحذير وتخويف وتنبيه، يتخذ الصراحة والكشف وسيلة للعلاج والإصلاح، ولا يخرج مع اختلاف الوسيلة عما يسعى إليه الأدب عامة آنذاك وهو الإصلاح والتقويم، ولا يعمل أبدا بعيدا عن الثقافة والتوجيه الإسلاميين.

.

1754231529_7b539cde1a_o.jpg


بورتريه الليدي اغنـيــوللفنان الأمريكي جون سنغر سارجنت، 1893
 
أعلى