عقيل عبد الحسين - فن المداعبة.. من طيات الجسد إلى تمثلات الثقافة

أنْ يصل الأمر بملك حدّ تعلُّم فنّ المداعبة على يدّ طبيب يهوديّ في إحدى مدنِ الأندلس، في الوقت الذي يتقدم الاسبانيون عليه لقتله وإسقاط حكمه ومدينته، فذلك يشير إلى حجم الترف الذي بلغته تلك المدينة وذلك الملك. وعلى مستوى الرواية يتضمن رسالةً من نوع ما.

أما المداعبة، وهي عنوان رواية برونو بونتمللي (الصادرة العام 2006/ دار الفارابي بترجمة فارس غضوب)، فإنها تُشير إلى تدريب راحة اليدّ على التعامل مع الجسد الأُنثوي. والأُنثوي بالدرجة الأُولى بأشكاله وألوانه وأوضاعه المختلفة (مع التركيز على الاستجابة والتأكيد على الغاء الذات المداعبَة من الحسبان). ولكنَّ هذا لا يعنى عدم انصراف الوعي إلى الجسد عامة بتأثير الإحساس بالإنتماء إلى كلّ ما هو جسديّ سواء كان مماثلاً في الجنس أم غير حيّ حتى. فالملك يشعر ذات مرّة أنّه يميل إلى مداعبة جسد غلام من غلمانه بتمرير يده عليه، ليستبطن مكامن الحياة فيه، وذلك في مقابل رغبة شاعره (عبدون) الحسية المباشرة في الاستحواذ على الغلام جسدياً، ودون اهتمام بنوعه أو وجوده. وهو في مرة ثانية يجد يده، بحركةٍ لا إراديةٍ، تزيح عن جسدٍ مقتولٍ، ثوبَه، لتمرّ على ظهره مداعِبةً ومتحسسةً ومستكشفةً. والمقتول هو واحد من مجموعة حاولت اغتيال الملك في قصره، ولكنَّ الأَخير تمكن من طعنه بالسيف قبل أن يصل إليه بالخنجر.

تُركزُ المداعبةُ على التخلص من التمركز على الذات، والرغبة في إشباعها وإمتاعها جسدياً وجنسياً على حساب الآخر. واستبعاد التمركزِ على الذات من خلال التفكير بأنها قطب الحقّ والحقيقة والصواب، وأن غيرها لا يشكل إلا الأدنى قيمةً والأقل اهميةً، وذلك الذي خلق ليكون تابعاً ومُهاناً. إنها، أي المداعبة، تمهد الطريق لتقبّل الآخر من خلال القشور، كما يقول معلم الملك، اليهوديُّ، ومن خلال الإحساس به ومقاربته حسياً وجعله شريكاً في اللذة، ومن ثَمَّ في العيش. وهو أمر ضروري للتخفيف من الظلم الجسديّ الذي يمارسه الذكر على الأنثى، والسيد على العبد، والملك على الرعية، والمُحتَل على المُحتَلين، ومَنْ يعدون أنفسهم مالكي الحقيقة والفكر الأصح على من يَرونهم ضالين ومخطئين، كما هو شأن المسيحيين في الرواية، أولئك الساعين إلى قتل المسلمين البرابرة والكفرة، بزعمهم، في مدن إسبانيا.

ولذا يؤكد المعلم اليهوديّ على الأثر الذي تتركه أصابع الملك في الجسد فيما هو يُتابع امتلاءه واستواءه وتجاوبه وقشعريرته وما يصدر عنه من حركاتٍ وتأوهاتٍ. فاستجابة الآخر تعني تخفّف المداعِب من أنانيته، وتركيزه على حاجة الآخر ورغبته ولذته، وهي تعني في ذات الوقت إصغاءه للآخر اصغاءً يولِّد المزيد من التواصل والحوار والسرور في نفس المداعِب الذي يتحول من التركيز على ذاته إلى التركيز على الآخر، ومنه الى الوعي بمتطلباته والمعرفة به، وفهمه، وبالتالي التعايش معه.

ويجب أن يتجاوز الإحساس بجسد الآخر النظر إلى ما تتركه المداعبة من أثر على الوجه أو أديم البشرة، أو سماع التأوهات، إلى الإصغاء العميق أو تمازج الحواس، فتتحول حاسة اللمس إلى أذن تُصغي، وإلى عينٍ ترى، وإلى أنفٍ يشم، وإلى لسانٍ يتذوق. وهو ما يكون عندما يقوم الملك بمداعبة الجسد في الظلام، وذلك ما يُرقّي الحاسة، ويزيد من التفافهم العميق مع الآخر، الذي لم يعد مهماً شكله أو لونه، أو طبيعة جسده، أو حتى ما يصدر عنه من ردّ فعلٍ ظاهرٍ، وهو ما يزيد أيضاً من فرص إثراء الحياة، ويجعل الحساسية الإنسانية أعلى وأدقّ في تجاوز حالات الخداع والغش التي قد تصاحب الإعتماد على حاسةٍ واحدةٍ، فما يقوم به الجسد من التمويه وخداع الملك بالإستجابة والإستثارة من مداعباته، لهو أمر ممكن، ويحصل خاصةً في الوصال الجسديّ الصريح. وقد يغري المداعَب عن ذاته، فيُولد ثقةً زائفةً وغروراً قد يُفسد أيّ اتصالٍ إنسانيّ، ويعيد المداعِب إلى دائرة الذات المتفوقة والمتعالية في ما تمتلكه من خبرةٍ أو مقدرةٍ، أيّاً كانت. وذلك ما يؤكد عليه المعلم اليهوديّ، فهو يقول لتلميذه انه وفي حالة الإصغاء إلى أيّ شيءٍ غير الرغبة الحقيقية في فهم اللآخر والتواصل معه على أساس مقدرتك الفعلية ورهافتك الإنسانية، أي في حالة التحول إلى الإهتمام برغبة الذات في الارتواء الجنسيّ أو النفسيّ، فإنّه سيتحتم عليك التصريح بفشل المحاولة والأنسحاب. وهو ما يحصل في أكثر من موقف إذْ تَطغى رغبة الملك وتفكيره في نفسه وفي اشباع رغبته، على إحساسه بالجسد الممدد إزاءه، وبإمتاع الآخر والتواصل معه من خلال الفهم والتفاهم. وعلى أيّةِ حال فالوصول إلى هذه المرتبة أمرٌ صعب ويحتاج إلى مرانٍ واستعداد فكريّ ونفسيّ، وتهذيب عاطفيٍّ ليس بالسهل.

إنَّ الشعور بالرغبة في امتلاك الآخر وقهره، يوازي، وقبل ذلك، يولِّد رغبة الآخر في التدمير والقتل. فالملك لا يفهم لماذا يكرهه قتلتُه؟ وهو يرى أنّهم ما داموا بهذه الشناعة، والكره، فلا بدّ من انهم لن يفهموا ابداً كيفية الـتعامل مع الحضارة والقصور والكتب والأجساد التي سيحصلون عليها بعد احتلال المدينة وقتله. وهو أمر يأسى له كثيراً، ولذا يحاول رمزياً أن ينقل تجربته إلى الأسيرة، ابنة الملك الإسباني التي في حوزته، لكي تنقل الرسالة بدورها إلى أبيها، ليكون أميناً على ما سيقع في يديه من حضارة العرب. ولكنّه يتردد كثيراً بين الاستيلاء عليها، وقهرها جسديّاً وجنسيّاً، ليشفي رغبةً بدائيةً في الإنتقام من العدو وهتكه جسديّا أو نفسيّاً، بل إنّه يستبعد ذلك الأمر لأنه يكرهه، ولا يريد ان يقوم به حتى مع ابنة عدوه وقاتله المُحتمَل. وبين نقل تجربته الإنسانية والروحية، (التي تتعدى حدود الجسد إلى الثقافة)، إلى الأسيرة، فلا يقوم بأيّ فعل ملامسةٍ أو مداعبةٍ تجاهها، مع انها لا تمتنع عنه، ومع انها بادرته ليفعل، ربما لأنه لا يريد أن يُقدِّم لقاتله أسباب المعرفة والحياة. ولكنّه في النهاية يحسم خياراته أخلاقياً، فيذهب إلى أسيرته ليطلعها على أسرار علمه الجديد، ويمرّ على جسدها بأصابعه التي تشربت أفعال جميع الحواس الأخرى، وبوعيّه الذي سيحوّل لحظة موته إلى دعوة لتحسس الطريق إلى الآخر في سعي إلى البحث عن الحياة والتعايش. فهو يمنح قاتله طريقة للحياة وللمتعة وللثراء الجسديّ والنفسيّ والثقافيّ. وهو، ربما، ما استغرق وقتاً طويلاً منه ليفهمه، ولكنّه في النهاية، وهو المهم، لم يبخل به على القاتل ولا على الحياة. ولعلها قيمة الوجود العربي في الأندلس، وقيمة التجربة الحضارية العربية هناك. قيمة قد نحتاج، نحن قرّاء الرواية، إلى إعادة التفكير فيها، وبعثها مرة أخرى، وفي هذا الوقت تحديداً.


.

صورة مفقودة
 
أعلى