أيمن تعيلب - الحب بين عقل الفقهاء ولطف النساء

هل الحب العربى كان نتيجة لحدود مقولات الفقهاء وتحيزاتهم المعرفية والفقهية التى تحكمت فى وعيهم ولاوعيهم على السواء؟ أم كان الحب يمارسه الرجال والنساء معًا فى المجتمع العربى نزولا على رغبات وأشواق جسد الحياة نفسها وبعيدًا عن تحكمات مقولات الفكر وحدود المباح وغير المباح، والمستهجن والمستحسن، والمعقول واللامعقول إلى آخر تحكمات وتحيزات العقل الفكرى العربى العام ومن ضمنه العقل الفقهى؟

لا نستطيع عزل الخبرات الفكرية والثقافية والحضارية لمفهوم الحب العربى بين المتصوفة والفقهاء والفلاسفة، لأننا نتصور أن نظرية الحب العربى كانت تمثل جماع هذه التصورات الفكرية المتداخلة، حتى وإن تراءت لنا ممزقة غير منسجمة لدى هذه الطائفة دون هذه الطائفة، غير أننا نريد أن نثمن هنا الملاحظات القيمة بخصوص الوعى التجريبى الأصيل لمصطلح الحب لدى الفقهاء العرب القدامى، ولدى الظاهريين منهم خاصة ابن حزم وأبى بكر ابن داؤود.

وقد لاحظ الدكتور زكى مبارك من قبل أن (أن فقهاء الشريعة الإسلامية هم الذين انفردوا من رجال الأدب العربى بإجادة هذا النوع من التأليف وخاصة فقهاء الظاهرية كابن حزم ومحمد بن داؤود الظاهرى صاحب كتاب (الزهرة) وهى نفس النتيجة النقدية التى توصل إليها الدكتور شوقى ضيف على الجهة المقابلة فى الشعر العربى، إذ يقول (وكانت أهم جماعة غذاها هذا الغزل العذرى هى جماعة الفقهاء وأصحاب الحديث من أمثال عروة بن أذينة وعبيد الله بن عتبة وعبد الرحمن الجشمى الذى سمع سلامة وهى تغنى فوقعت فى قلبه وهام بها حبًا، ونظم فيها كثيرًا من الأشعار، وكان يعرف بالقس لكثرة عبادته، فلما ذاعت فيها أشعار نسبت إليه سميت سلامة القس.. وقد تأثر بصنيع الفقهاء كثير من أهل مكة والمدينة فكان غير شاعر يرتفع بحبه عن أن يكون عبثا ولهوا)(26)

وربما يرجع هذا الوعى العميق بالحب لدى الفقهاء عامة ولدى الظاهريين منهم خاصة إلى أسباب كثيرة، فنحن نرى منذ البداية أن ثمة علاقة وثقى بين أصالة العقل الفقهى وأصالة الإحساس بالحب، وبداية فقد أقر الإسلام منذ البداية كما يرى الصادق النيهومى أربعة مبادئ جوهرية فى مفهوم الدين والوعى بحقيقة الوجود وهى:

إن الدين سابق على قيام المؤسسة الفقهية ونزول الكتب المقدسة كما فى قوله: (يا أهل الكتاب لم تحاجون فى إبراهيم..) سورة آل عمران 65، وسورة البقرة الآية 140، وسورة الشورى الآية 13، وهذا معناه أن الإنسان عرف الله قبل أن يعرف الفقهاء.
إن الدين ليس فقهًا بل شريعة تحرم الخلاف الفقهى من أساسه كما فى قوله تعالى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا) الشورى 13.
إن الهداية لا تتحقق بالانتماء إلى مؤسسة فقهية بل تتحقق فقط برفض الانتماء كما فى قوله تعالى (وقالوا كونوا هودًا أو نصارى..) سورة البقرة 135، وهو رد يقرر أن وصاية الفقه على الدين ليست من الدين فى شىء.
إن الحنيف أى اللامنتمى الذى يعتبره الفقهاء وثنيًا ويأملون أن يحترق فى نار جهنم هو بالذات المؤمن الصالح صاحب الدين القيم والصراط المستقيم، والحنيف هو الذى على (صبغة الله وسنة الله وفطرة الله) والفطرة مشتقة من (فطر) بمعنى برئ من الصنعة وعذرى لم تخالطه خميرة.

فالدين فى أساسه الأول إذن ليس فقهًا يتلقاه المرء من معلم بل استجابة لغريزة فى طبيعة الإنسان نفسه، إن دستور الدين يقوم على الاعتراف بأن الإنسان الحى مفطور على حب الحياة، وأن الحياة لا يضمنها قيام مؤسسة فقهية (بل يضمنها انفتاح الفطرة المؤمنة على حيوية الحياة) وإذا كانت هذه الفكرة الحية قد لقيت حتفها على يد الفقيه وتحولت إلى جثة محنطة فى متحف التاريخ فذلك هو الدليل على أن الدين ليس شعائر دينية فقط، بل دستور حياة. إن الله فطر الناس على حبه وحب الحياة المبدعة الخلاقة وعندما يتحول الفقه إلى تغييب حيوية الحياة بإقامة الشعائر شكليًا فقط فذلك تطويع للدين لخدمة الهواء وليس تخضيع الأهواء لحركة الدين).(27)

وعلى الرغم من تسليمنا لكلام الصادق النيهوم بحقيقة أن الدين غير الفقه، غير أن فقهاء الإسلام لم يكونوا سواء فى الوعى بجوهر الدين، أو الإخلاص له، وعلى الرغم من اجتهادات الفقهاء المخلصة لكننا نسلم بحقيقة ما تم على أرض الواقع الإسلامى بخصوص تسييس الدين لخدمة السلطة، وعلاقة تكييف مفاهيم الطاعة الدينية لصالح طاعة السلطان، وليس طاعة الله تعالى، ولكن ما يهمنا فى كلام النيهوم رصد هذه العلاقة الدقيقة بين طلاقة الحياة وطلاقة الدين، وفطرية حب التدين وفطرية حب الحياة، وبالطبع فكليهما له علاقته الوشجى فيما نحن بصدده من إحساس الفقهاء بفطرية الشعور بالحب، فهو حق طبيعى من حقوق الحياة، حتى الرسول الكريم نفسه كان يخاطب ربه بخصوص علاقته بزوجاته بقوله: (اللهم هذا قسمى فيما أملك فلا تحاسبنى فيما تملك ولا أملك) فقلب الرسول الكريم بيد الله يقلبه كيف يشاء بين زوجاته الكرام وليس فى طوقه سوى النزول على حرية قلبه الشريف، كما اخبرنا ابن حزم عمن أحب من الخلفاء الراشدين والفقهاء والحكام، فالمحبة خلقة طبيعية كما يقول ابن حزم، ومن هنا فقد اتسع صدر بعض الفقهاء للحب كما اتسع للحياة أيضًا، حقًا لم يكن الفقه فى صالح التدين الحق والحياة الخلاقة على طول الخط فى الواقع العربى الإسلامى، ولكننا لا نعدم هذا الشعور الوثيق بين الإيمان والتقوى ومفهوم الحب والجمال لدى بعض الفقهاء، فقد ورد فى التراث (أن أربعة تزيد فى البصر: النظر إلى الوجه الحسن وإلى الخضرة وإلى الماء الجارى والنظر فى المصحف) وقد حكى عن الإمام الشعبى أنه دخل السوق يومًا فقيل له: هل من حاجة، فقال (حاجتى صورة حسنة يتنعم بها طرفى ويلتذ بها قلبى وتعيننى على عبادة ربى) أضف إلى ذلك شيوع هذا القران الجمالى الوثيق بين الحب والحديث عن الحجيج والأماكن المقدسة (منى ـ مرمى الجمرات ـ المحصب) فى الشعر العربى كله.

ولعل الدراسة القيمة التى قام بها المستشرق اليوغسلافى ياروسلاف استتكيفتش عن (بنية النسيب فى الشعر العربى الكلاسيكى) والتى ترجمها حسن البنا عز الدين توضح لنا بعمق كيف تنقلت جغرافيا العشق والهوى من خلال الأماكن المقدسة عبر شبوب الخيال الشعرى العربى وعبر التقاليد الجمالية المتعددة للشعر العربى، بما يجعل من العلاقة بين المقدس والدنيوى أحد التيمات الجمالية الأساسية المكونة للشعرية العربية.

وقد تجلى هذا اللقاء الحى الناصع بين الحب والدين كأجلى ما يكون لدى فقهاء الظاهرية محمد بن داؤود وابن حزم الظاهرى على وجه الخصوص، وربما كان لهذا علاقة بطبيعة التوجه الظاهرى فى الوعى بالوجود والواقع والناس والوقائع والدين الحاكم لكل هذا، فالظاهرية الدينية عند ابن حزم وابن داؤود محمد وابنه أبى بكر تقربنا من بعض جوانب فلسفة الظاهراتية من جهة الوعى بالوجود فى ذاته بعيدًا عن التكلف والتمحل والادعاء والتطوح مع غواشى الظنون أو الجرى مع أهواء النفوس، فهى تحديق فى حسية الوجود وطبيعة الأشياء تحديقًا خالصًا كما نتلقاها دون زيادة أو نقصان فى باطن شعورنا الحى المباشر، ولنا أن نتذكر هنا إنكار ابن حزم لمسألة القياس فى الفقه وأخذه بالتوجه الظاهرى، وعلاقة ذلك بتجربة ابن حزم فى الحياة ووقوفه الدقيق على سر اللفظة العربية فى الدلالة وأخذه بمعناها المباشر لسد ذرائع الظنون والأهواء فى وجه فقهاء السلطة، فقد أقام ابن حزم فلسفته على العقل والنقل معًا، ولعل ذلك له علاقته الوثيقة بتجربته الحسية فى الحب فى مبتدأ حياته، فقد كان ابن حزم ينظر للنص الدينى نظرة مباشرة صادقة تنبع من ظاهر النص المباشر وهى نظرة علمية لغوية رصينة قادرة على إعادة الوجه النضر للدين بعيدًا عن تمحل الفقهاء وترهيب السلاطين، وكما أحل ابن حزم الحب لكل الناس أحل الاجتهاد فى فهم أمور الدين أيضًا، واعتبر كل مسلم قادرًا على الاجتهاد كما اعتبر التقليد حرامًا، ناهيك عن أنه ضد الدين والفطر السليمة.

لم يتلقَ ابن حزم وأبو بكر الظاهرى أمور الدين تلقيًا عقليًا صرفًا على المستوى النظرى المحض منفصلاً عن دم ولحم الحياة، وما يدور فيه الناس فى واقع حياتهم ولم ينظرا للإيمان على أنه مجرد التسليم بقواعد ربانية فى الحرام والحلال والأوامر والنواهى تطمئن لها عقولنا وقلوبنا وكفى، بل لابد من من جمع فقه النظر إلى فقه الواقع إلى فقه إنزال فقه النظر على أرض الواقع اليومى ليحيا الدين نضرًا حيًا بين الناس، ولعل هذا التصور للدين والعقيدة هو ما جعل من ابن حزم عالمًا عاملاً ومجاهدًا صلبًا شجاعًا قادرًا على أن يفقد الكثير من متع الدنيا جراء هذه البسالة الروحية والعقلية الهائلة التى حاجج بها علماء عصره حتى قيل بأن سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان.

لقد رأى ابن حزم أن محبة الله والاعتقاد فيه مسألة تترعرع وتزكو وتنقص بحسب حركة إيمان العبد فى واقع الحياة بعيدًا عن الوقار الدينى المتزمت القائم على الانغلاق والازدواج، لقد كان الإيمان الظاهرى ـ لو صح التعبير ـ إيمانًا ينظر لله على أساس من الحب المتبادل بين العبد والرب والثقة فى الله وتنظر العون منه، فهى علاقة حركة وحب وتواصل ومجاهدة ومجادلة أكثر منها أخلاقية صرفة أو قواعد دينية وعظية، فحبنا لله يكمن فى حبنا لمخلوقاته وآياته وموجوداته ومرسوم فى طرائق سعينا فى الوجود، وهو حب قائم على الشد والجذب والزيادة والنقصان وبكلمة واحدة كان الاعتقاد فى الله اعتقادًا فى وجوب حركة الحياة وفق شرعه الكريم، وهو اعتقاد يوسع من حدود عقولنا وأرواحنا ومسئولياتنا، والحقيقة أن ابن حزم الأندلسى ربما كان يختلف عن أبى بكر الظاهرى الذى مات صغيرًا فلم يكن ابن حزم الذى عمر طويلاً وتقلبت به الحدثان فقيهًا وكفى بل كان يمتلك رؤية دينية فكرية فلسفية كلية للوجود والثقافة العربية برمتها تبدأ بظاهرة الحب فى مطلع شبابه وتنتهى بإعادة تأسيس الثقافة العربية الإسلامية على أسس فقهية ظاهرية جديدة فى العصر الإسلامى الوسيط، ومن هنا لم ينظر ابن حزم إلى قضية الحب على أنها مجرد نزوة انفعال أو سورة عاطفة بل عدها جد كلها ووقف أمامها وقوفًا حسيًا دنيويًا عفيفًا محللاً ومدققًا كأدق ما يكون التحليل والتدقيق بما يدفع به إلى تكوين نظرة خاصة فريدة فى مفهومه للحب، مما دفع كثيرًا من الباحثين العرب والغربيين إلى تحليل هذه العبقرية الفريدة فى تصورها لمفهوم الحب.

والمطلع على كتاب الدكتور الطاهر مكى (الحب عن ابن حزم ودراسات أخرى) يتأكد من ذلك، وقد عالج الدكتور زكريا إبرهيم فلسفة الحب عند ابن حزم أيضًا فى كتابه المهم عن (مشكلة الحب)، كما نجد الدكتور طه حسين يشيد بهذه النظرة الخصبة الاستثنائية التى كان يمتلكها ابن حزم فى تحليله للحب فنراه يقول فى كتابه (ألوان) عن رؤية ابن حزم للحب (وذلك دليل على أنه ـ ابن حزم ـ قد حاول أن يخفف من أثقال عصره ويتحرر من قيود التفكير التى كانت تمنع معاصريه عن الحركة الحرة)

لقد شاء ابن حزم أن يتبنى نهجًا واقعيًا موضوعيًا حسيًا أصيلاً فى رؤيته للحب، يقول ابن حزم فى طوق الحمامة مخاطبًا صديقه الذى كلفه بالكتابة عن الحب (وكلفتنى ـ أعزك الله ـ أن أصنف لك رسالة فى صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا متزيدًا ولا متفننًا، لكن موردًا لما يحضرنى على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظى وسعة بالى فيما أذكره فبدرت إلى مرغوبك ولولا الإيجاب لما تكلفته فهذا من اللغو والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا ما نرجو به رحب المنقلب.. والذى كلفتنى به لابد فيه من ذكر ما شاهدته حضرتى وأدركته عنايتى وحدثنى به الثقاة من أهل زمانه، فاغفر لى الكناية عن الأسماء)

لقد آثر ابن حزم أن يكون واقعيًا حسيًا دنيويًا فى نظرته للحب ـولنا أن نطلع على هذا الفصل الرائع المبتكر لدى ابن حزم عن باب الإشارة فى الحب، بما يذكرنا بقدرة ابن حزم على صهر دلالة الإشارة لدى ابن سينا ولدى الجاحظ معًا الذى تحدث بروعة نادرة عن باب الدلالة بغير لفظ أو ما أطلق عليه (بيان النصبة) إن سيمياء التواصل البصرى فى الحب هى نوع من الاندغام الظاهراتى الحسى فى رؤية الوجود ووعى الحياة والواقع وطبيعة إدراك الناس فى سياقهم التاريخى والاجتماعى المحيط بهم، وقد رأى ابن حزم أن الإشارة بمؤخر العين تعنى النهى وتغير الإشارة يعنى الإخبار بالقبول، وإدامة النظر يعنى التوجع والأسف، وكسر النظر يعنى الفرح والاستبشار والإشارة إلى إطباق العين يعنى التهديد، وقلب الحدقة إلى جهة ما ثم صرفها بسرعة يعنى التنبيه إلى شىء خطير، والإشارة الخفيفة بمؤخر العينين كلتيهما يعنى السؤال وقلب الحدقة من وسط العين إلى المؤق بسرعة يعنى المنع، وترعيد الحدقتين من وسط العينين يعنى النهى العام، فهل رأينا إلى هذه الأنطولوجيا الحسية البصرية النافذة فى الوعى بالظواهر والأحداث فى واقعها الحسى العام؟! وهو أمر سنلتقى به مع ابن حزم فقهيًا من بعد بصدد رفض ابن حزم لحجية القياس الذى هو قياس الشاهد على الغائب ـ وبالتوجه الدينى الظاهرى الذى يقر بالحقائق الواضحة المباشرة دون توسط أو تكلف أو تعمل وتأول، ولقد كان ابن حزم على وعى بهذه الجرأة التى مارسها بحرية واضحة فى كتابته عن الحب ضد الوقار الكلاسيكى الزائف للعقل الفقهى السياسى الرسمى العام، لذا آثر الكناية عن صديق فى الكتابة عن الحب كما يقول عبد الفتاح كيليطو فى كتابه المهم (الأدب والارتياب)

ولنا أن نتساءل هل كان ابن حزم الأندلسى وأبو بكر الظاهرى بكتابيهما عن الحب: (الزهرة) و(طوق الحمامة) يختبران مدى المرونة الروحية والسماحة الدينية الكامنين فى بنية تفكير العقل العربى؟ لقد كتب الفقهيان الظاهريان كتابيهما بصيغة التجريد حيث يجرد المؤلف من ذاته الجريئة ذاتًا غائبة تطلب إليه الكتابة، وقد تبدت هذه الذات الغائبة فى صورة صديق دائمًا أو قل هى صورة قرين الروح الداخلى للمؤلف، وقد كتب الفقيهان كتابيهما وهما فى فورة الشباب واستحصاد مواهبهما العقلية والفكرية والروحية كتب ابن حزم كتابه شابًا وكتب ابن داؤود كتابه فى سن أطرى من سن ابن حزم على التقريب فقد توفى فى عام 297هـ، عن اثنين وأربعين عامًا، وهذا يؤكد أن دافع الثورة والتجديد والأصالة كان وراء هذا الجهر بالحب الدنيوى، وقد كان للكاتبين مندوحة من إعفاء نفسيهما من المهالك لو أرادا ذلك حتى لا نأخذ ذريعة طلب الأصدقاء للكتابة مأخذًا جادًا على وجه الحقيقة، بل تم ذلك على وجه التخفى والمراوغة، ولنا أن ننظر إلى مدى انفتاح عقلية الفقيه الظاهرى فى هذه الحادثة الدالة التى تحكى أن رجلاً جاء يسأل أبا بكر الظاهرى عن حد السكر، ومتى يكون الإنسان سكرانًا؟ فأجابه إجابة ظريفة يمتزج فيها الحب بالفقه قائلاً له: السكران من عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم، كما تبدت سماحة الفقيه الظاهرى وسعة روحه الدينية فى رده على أبيات للشعر قدمها له ابن الرومى قائلاً:

يابن داؤود يافقيــــه العراق = أفتنا فى قواتل الأحداق
هل عليهن فى الجروح قصاص = أم مباح لهــا دم العشاق

فأجابه الفقيه الظاهرى بحجة فقهية ظريفة:

كيف يفتيكم قتيل صريــــع = بسهام الفراق والاشتياق
وقتيل التلاقــى أحســن حالا = عند داؤود من قتيل الفراق

وهذا الفقيه هو نفسه الذى دافع عن حبه العفيف مرارًا حتى لا يرقى ظن أى من الناس إلى اتهامه فكان يقول:

لا تلزمنى فى رعى الهوى سرفا = وما أوفيــه إلا دون ما يجب
فى عفة نتحامى أن يلم بها = سوء الظنون وأن تغتالها الريب(30)

فهل أراد الفقيه الظاهرى أن يقول لنا عبر مجازات الشعر الغامضة ماورع عن قوله فى لغة الفقه الحاسمة؟ وهل يذكرنا ذلك بقول ابن حزم من بعد (ومع هذا يعلم الله وكفى به عليما، أنى برىء الساحة، سليم الديم، صحيح البشرة، نقى الحجزة، وإنى أقسم بالله أجل الأقسام أننى ماحللت مئزرى على فرج حرام قط، ولايحاسبنى ربى بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومى هذا)، لقد دافع الفقيهان عن طهارة القلب ونقاء السلوك فى الحب كما آمنا إيمانًا عميقًا بأن الحب يفتح مستغلق وجودنا ويجعلنا أكثر إنسانية، فالحب كما يرى ابن حزم يشجع الجبان ويطلق من يد البخيل، ويغير من طبائع البشر، ومعنى هذا أن الفقيهين الظاهريين كانا على وعى دقيق بقدرة الحب على تكييف النظر الفقهى نفسه، فقد لمحا لونًا من التداخل بين مصطلح الحب وأبنية الفكر والثقافة وقواعد الدين وأطر التقاليد، فالحب قادر بحيويته الروحية ونفاذه البصير على تفكيك جفاف المستوى الخارجى للإدراك الفقهى والعلمى والمنطقى، بما يفتح نوافذ الفكر بعضها على بعض وانسرابها بعضها فى بعض، بما يهدم كثيرًا من صور الإدراك الجاف، والتلقى السلبى، والوقار الدينى المصطنع الأجوف، إن الإنسان الذى يعانى الحب هو الإنسان الذى يعانى الفقه والسياسة والاجتماع والشعر والوجود جميعًا، ولقد لمح الدكتور حمودى نورى القيسى هذا التصور التداخلى للفكر لدى أبى بكر الظاهرة فى كتابه الزهرة يقول القيسى: (يقول محمد بن داؤود الظاهرى أن الهوى مفهوم له أحكام وتصاريف وأحوال، وهذا يعنى أن الهوى له قواعد وقوانين، يخضع لها ويتحرك فى إطارها،.. فالحب لم يعد هوى عابر، أو تهالك صبيانى مبتذل، أو سلوك فردى عابث،.. وإنما هو تسام فى الانقياد، وتضحية فى سبيل التواجد، وبذل سخى فى تحقيق الرغبة العفيفة التى ظل الشعراء يقدمون من أجلها أعز ما يملكون،.. لقد اكتمل الحب أبوابًا عن ابن داؤود وأدرك الفقهاء والمفكرون العرب هذه الحقيقة فانصرفوا إلى تقنينه لأنه يمثل المراحل التى يمر بها المحب،.. لقد كان الحب عند المؤلفين العرب القدامى استيعابًا نفسيًا وعقليًا واستبطانًا اجتماعيًا وحسيًا ودينيًا وفلسفيًا يحكى من خلال الوقوف على بعض التفسيرات وربطها بالفكر الإسلامى الذى تبنته الجماعة.. وقد ظلت هذه التيارت تعمق من مجاريها فى الوسط الاجتماعى وتؤكد وجودها تأكيدًا أصيلاً فى الأحداث العصرية بحيث أصبحت جزءًا من الكيان الأدبى والفلسفى والتاريخى)(31)

لقد أدرك الفقهاء العرب القدامى خاصة الظاهريين منهم أن الفهم الناضج المتكامل لا يمكن أن ينبع من أطر معرفية انعزالية، فالأنساق الفكرية والتجريبية لا تنفصل عن حس الاستبطان الجمالى والروحى سواء فى الوعى والممارسة، إن الاكتمال الذاتى والجماعى لا يتم إلا من خلال الانفتاح المعرفى الأريحى الودود، إننا لا نكون بشرًا أسوياء إلا إذا تمتعنا بحسن الإصغاء للقلوب والعقول والوقائع والأحداث، نحن لا نستطيع أن نرى بعمق وأصالة إلا إذا تفتحت قلوبنا إلى جوار عقولنا، ولن يكتمل نضجنا الدينى والروحى والاجتماعى والسياسى إلا من خلال توهج كياننا كله بالحب والتعاطف والود الروحى البصير، فالقلب يبصر جيدًا معظم الأمور التى لا يراها العقل، إن الفهم الكلى الخلاق لون من ألوان الوعى المحب، والاستبطان العقلى التأملى لقضايا الحياة والواقع يحتاج إلى حاسة جمالية أخلاقية ولا يقتصر على الوعى الموضوعى الجاف، فنحن نحتاج فى فهم الناس والأحداث، وحسن التأتى لقضايا الفقه والاستحسان والاستصحاب والاجتهاد والاستدلال وكل طرق الوعى والفهم ـ نحتاج حاجة ملحة أن نرى ذلك كله فى نور منهجى أوسع، وفى خبرة معرفية قادرة على التضايف بين العقل والروح والخيال ومراعاة ظروف المقال والحال، ولقد كان مصطلح الحب عند الظاهرية وغيرهم من الفقهاء أشبه بالعقل الروحى البصير الذى ينير عتمة الفتوى، ويوسع من ضيق ممرات الفقه، لقد وعى الفقهاء أن الشريعة أعلى من الفقه، وأن فقه إنزال النظر على الواقع أعقد من فقه النظر والواقع معًا، ولابد لفهم هذا الدين من قران البصر إلى البصيرة، والحب إلى العقل، والروح إلى التقاليد والعادات.

ربما يقدم عرضنا النقدى السابق بعض التفسير لإعجاب الدكتور محمد حسن عبد الله والدكتور وزكى مبارك وطه حسين فيما كتبوه عن الحب عند العرب بإكتمال نظرية الحب عند الفقيهين الظاهريين ابن حزم وابن أبى داؤود، وربما نظفر بأحد الباحثين الجادين قريبًا ممن يمتلكون المقدرة العلمية والموهبة البحثية معًا فيتوفر على دراسة العلاقات الوثقى المتعددة التى تتراسل بين أصول المذهب الظاهرى ومفاهيم الحب عند الفقيهين ابن حزم وأبى بكر الظاهرى؟! أغلب الظن أن ثمة علاقة بين رفض ابن حزم لحجية القياس وهو قياس الشاهد على الغائب رفضًا تامًا وتسليمه بحسية الحياة ومباشرتها كما تجليا فى وضوح نافذ فى كلامه عن الحب، كما نلحظ هذا الاتساق الفكرى العميق بين التوجه الظاهرى لدى ابن حزم القائم على الوعى المباشر باللفظ العربى فى القرآن الكريم دون تكلف أو تمحل أو تاويل فى التفسير وبين مواجهته الفقهية الباسلة لنفاق الفقهاء فى عصره ومحاولتهم تطويعهم دلالات النص القرآنى لأغراض السلطة وأهواء الأمراء فى الفتوى، فى العصر الإسلامى الوسيط الذى عمت فيه الفتن وخصت، وكاد فقه الفقهاء أن يعفى على جوهرية الشريعة التى هى الأصل فى كل شىء، لقد شاع نوع من التدين السياسى أو الدين الشكلانى العام الذى يبعد بالشريعة الغراء الواضحة عن محجتها الفطرية الطليقة، وكان على ابن حزم أن يتصدى فى أصالة فقهية باذخة الثراء والبسالة معًا لإعادة الوجه النضر الحى لروح الشريعة الإسلامية، وتأسيس التدين الحق الفعال على التدين النمطى الخانع، الذى ارتضى بالسكينة الزاهدة الجبانة على السكينة المطمئنة الفعالة المقبلة على الله تعالى والحياة معًا، إن من يطلع على كتب ابن حزم كلها سواء فى الفصل والملل، والأخلاق والسير والتقريب لحد المنطق وغيرها يرى بوضوح هذا الدفاع الإسلامى الحى عن وضوح النص القرآنى وتلقائية أومر الله ونواهيه دون حاجة للف ودوران الفقهاء حول النص الدينى المبين، ونضارة الدين الإسلامى وروعته العظيمة فى الدعوة إلى حب الحياة وتثمين حيوية الوجود وحسية الطيبات فى الحياة، فالدين نضارة دنيوية قبل أن يكون رهبة أخروية قائمة على تهويل الفقهاء وإعناتهم للناس دون نص محدد واضح من عند الله. خالق الناس وخالق الحياة.


* د. أيمن تعيلب - الحب بين عقل الفقهاء ولطف النساء

.


صورة مفقودة

Dancing Odalisque by Eugen Ansen Ho
 
أعلى