خليل صويلح - النابلسي ضدّ فقهاء زمانه وأهل الفجور والفساد

صدور مخطوط «غاية المطلوب في محبة المحبوب» في دمشق (دار شهرزاد الشام)، حدث يستحق تحيّة خاصة. تتجلّى هنا شجاعة النابلسي في تناول المسكوت عنه في عصره، ويرسم الشاعر الصوفي صورة للمجتمع الدمشقي في ظل الحكم العثماني، منتقداً ظواهر التخلّف والانغلاق التي كانت سائدة في تلك الحقبة المظلمة أنجز الشيخ عبد الغني النابلسي مخطوط كتابه «غاية المطلوب في محبة المحبوب» قبل أكثر من ثلاثة قرون (1686). وجاء الكتاب رداً على فتاوى فقهاء عصره في ما يتعلق بالحلال والحرام. إذ حرّم هؤلاء الفقهاء القهوة والتبغ وسماع الآلات الموسيقية. فيما اعتبر النابلسي أنّ أصحاب هذه الفتاوى «جهلة وكتب الشريعة بريئة منهم». وصل الخلاف بين الشيخ وفقهاء دمشق إلى أشدّه حول «النظر إلى المردان» (الغلمان)، إذ ميّز النابلسي بين الإحساس بالجمال المطلق والنظر المرتبط بالشهوة والغريزة. وبينما دان الحالة الثانية واعتبرها حراماً، اعتبر أنّ النظر إلى الحسن أياً كان، من دون شهوة، هو حلال. انتهى الشاعر الصوفي، كما هو معروف، منغلقاً في حالة من «الاكتئاب»، نتيجة الحملات التي شُنّت ضدّه، وشراسة خصومه في محاربته. واعتزل في بيته بالقرب من الجامع الأموي مدة سبع سنوات. خلال تلك الفترة، ألّف النابلسي قرابة عشرين كتاباً في علوم الدين والدنيا. وبرّر اعتزاله كالآتي: «وقد داخلني في هذا الأمر الفظيع الذي وقع في بلادنا هذه، دمشق الشام، والخطب الجسيم، والداهية الدهياء التي حلّت بهذه البلاد، ما اقتضى أني تركت الاجتماع بالناس، إلا بعض من يؤمن بكلامي ويروم من الحق مرامي. واستوحشت من الخلق كلهم غاية الوحشة لما لم أجد لي موافقاً على الحق المبين، فضلاً عن وجود المعين، من كثرة فساد هذا الزمان والفسق والضلال الفاشي بين الأرذال والأعيان وبالله المستعان». يقع مخطوط «غاية المطلوب في محبة المحبوب» الذي صدر أخيراً في دمشق عن «دار شهرزاد الشام»، في 94 صفحة، وقد قام بتحقيقه بكري علاء الدين وشيرين محمود دقوري، عن نسخة في «مكتبة عارف حكمت» في المدينة المنوّرة. وهي نسخة مذهّبة، مكتوبة بالخط الفارسي. وكان المخطوط نُشر في روما للمرة الأولى كرسالة جامعية أنجزتها الباحثة الإيطالية غلوريا صاموئيلا باغاني عام 1994. وعلى رغم أنّ بعض الدارسين شكّكوا في مرجعية الكتاب إلى النابلسي، واعتبروه «مدسوساً» على علومه، نظراً إلى تطرّقه إلى مسائل شائكة لا تليق بوقار هذا الشيخ الجليل، إلا أنّ وثائق أخرى تثبت صحة نسب هذا المخطوط، وهو ما يشير إليه المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون، انطلاقاً من نصوص صوفية أخرى لابن داود وابن حزم تجيز النظر إلى الوجه الحسن. ولا يقتصر كتاب «غاية المطلوب...» على تشريع النظر إلى الغلمان والوجوه الحسنة، بل يكرّس فصولاً أخرى للدفاع عن الحب بأشكاله كافة، وسرد نماذج من شعر الغزل. ولخّص موقف ابن عربي في هذا الخصوص في ديوانه «ترجمان الأشواق» معتبراً إياه صاحب نظرية أصيلة في الحب والجمال، يرى أنّ أسمى مكان لتجلّي الجمال الإلهي هو وجه المرأة. هكذا سار النابلسي على خطى معلّمه ابن عربي في مواجهة فقهاء عصره المتزمّتين، وإلى هجاء أهل دمشق الذين حرّكهم ضده الفقهاء. «وقد كثر الازدراء والاستخفاف بوصف المحبة للمحبوب على الوصف الذي ذكرناه، وغيره مطلقاً كيفما كان من كثير من أهل بلدنا دمشق الشام، حتى صاروا يعدّون ذلك عيباً وعاراً وقلة حياء وقلة مروءة، جازمين بحرمته بلا شبهة عندهم في ذلك: من علمائهم وفقهائهم وصوفيتهم وعوامهم ويستهزؤون بمن يتصف بذلك مطلقاً كائناً من كان». الكتاب إذاً دفاع عن الحب والجمال ووصف لواقع المجتمع الدمشقي في القرن السابع عشر، وتحدٍّ جريء لبعض الأوساط المتحجّرة التي فهمت خطأ تفسير معنى الحب والجمال. ويستند الشيخ عبد الغني النابلسي في مفهومه للجمال، إلى أفكار معلمه ابن عربي في النظر إلى الروح الإنسانية بوصفها جوهراً ثابتاً «وإنما الأنوثة والذكورة يتلوّنان بكيفيات عرضية متغيّرة». ويركّز الكتاب على فكرتين أساسيتين: الحب الإنساني والإلهي والنظر إلى كل ما هو جميل. يعتبر النابلسي أنّ فكرة الحب، وما يتصل بها حسياً وجمالياً، تسمو إلى ما هو إلهي، وتالياً فإن المحبة الإنسانية والمحبة الإلهية واحدة «تتعلق أولاً بالمخلوق لأنه فعل الخالق ثم تتصل بالخالق». أما بخصوص النظر، فيشير النابلسي إلى أحاديث شريفة مثل: «ثلاث يُجلينَ البصر: النظرة إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري وإلى الوجه الحسن». ويستعرض صاحب «خمرة بابل وغناء البلابل» أقوال سابقيه في وصف الغلمان ومحبتهم «من دون شهوة»، ومفهوم الحب على وجه العموم، كما جاء في الأحاديث النبوية وكتب الفقه والمتصوفة، وأولهم ابن عربي في «الفتوحات المكية» ثم «ترجمان الأشواق» الذي نظمه في ابنة الشيخ مكين الدين أبي شجاع، ويذكر قولاً لابن عربي في «تاج التراجم»: «لا تقع الغيرة عليك إلا إذا عشقت مثلك من جارية أو غلام، فإنك تأتيه بكلّك للمماثلة. فإذا عشقت غير الجنس فإنما تعطيه منك ما يناسبه، ويبقى منك للحق نصيب». ويذكر ابن الفارض الذي نظم قصائد في حب غلام التقاه في مصر... ويشير كذلك إلى ما ورد عن أبي نواس في محبة الغلمان في قصائد كثيرة. وفي باب «محبة الصور الحسان بين الفقهاء والصوفية»، يورد النابلسي أخباراً عن علماء ومتصوفة وفقهاء من مذاهب شتى في محبة الصور الحسان من المردان «مع التزام العفاف والصيانة في الظاهر والباطن». ويستدرك بقوله: «لو ذهبنا نستقصي ذلك من الكتب لطال المدى، وما وسع اليوم ولا غدا». تكمن أهمية هذا المخطوط في جرأة صاحبه في مواجهة ما هو مسكوت عنه في عصره، وتشخيص بنية المجتمع الدمشقي في ظل الحكم العثماني، ونقده ظواهر التخلّف والانغلاق التي كانت سائدة في تلك الحقبة المظلمة. حتى إنّ العوام أنفسهم لم يتوانوا عن إصدار الفتاوى، ما أوصل الشيخ النابلسي إلى اعتزال الناس بعد اتّهامه بالجنون... وكان أن تفرّغ لتأليف كتابه هذا. يقول في سبب تأليف الكتاب: «ثم إنّه وقع في قلبي وحرّكتني الحمية الإيمانية مع عدم وجود المعين والمساعد، وكثرة المخالف والمعاند، وتراكم الأعادي والحسّاد، وتناصر أهل البغي والفجور والفساد».


.

صورة مفقودة
 
أعلى